ضد العنصرية، ودفاعاً عن كل العاملين في لبنان

ضد العنصرية، ودفاعاً عن كل العاملين في لبنان تصوير وسام اندراوس

لا توجد مظلومية في تاريخ الشعوب الحديث تعادل في حجمها وعمقها واستهدافاتها السياسية مظلومية الشعب الفلسطيني. لقد شهدت العقود الماضية جريمةً تاريخية تمثّلت بسرقة الأرض وتهجير وقتل وحصار الشعب، وسط خطة محكمة للحركة الصهيونية، ومع دعم بريطاني ثم أميركي لا محدود طوال هذه الفترة كقاعدة متقدمة ذات دور ووظيفة لصالح القوى الامبريالية ومشروعها في المنطقة. وانعكست تلك الجريمة التاريخية على الدول المحيطة بفلسطين، حيث يعيش في كل منها الآن مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين يعانون أيضاً من التمييز والعنصرية والحرمان والتضييق والاستخدام الداخلي والاستغلال الطبقي، خاصة في لبنان والأردن.

أما اليوم، فيتجدد الهجوم على القضية الفلسطينية من خلال مشروع "صفقة القرن" التي ترعاها الإدارة الأميركية بهدف التصفية النهائية للقضية الفلسطينية وتكريس سيطرة العدو على كل فلسطين، والتي بدأت خطواتها مع قرار ضم القدس ونقل السفارات إليها، ومن ثمّ ضم الجولان السوري الى السيادة الصهيونية، والتطبيع العلني مع معظم الدول العربية، ووقف تمويل الأنوروا وإعادة تعريف اللاجئ في الكونغرس الأميركي لحرمان الفلسطينيين من صفة اللجوء، وقمة البحرين الاقتصادية الفاشلة الهادفة الى تكريس التوطين وإلغاء حق العودة مقابل بعض الأموال والمشاريع الاقتصادية.
لقد كانت مقاطعة لبنان وفلسطين لقمة لبحرين خطوة هامة في إطار رفض هذه القمة والمشاريع المرتبطة فيها، غير أنّ القرارات اللاحقة للحكومة اللبنانية، وتصريحات مسؤوليها تأتي في عكس هذا السياق تماماً، إذ تعيد استحضار خطاب الفتنة والتفرقة بين اللبنانيين والفلسطينيين، وتغذي العنصرية الفوقية ضد العاملين الأجانب في لبنان، وعلى رأسهم اللاجئين السوريين والفلسطينيين، وتستحضر معها كل عدة شغل اليمين العنصري والفاشي القائم على سياسات الهويات القومية والوطنية والمذهبية والجنسية وغيرها، لتزرع الخوف وتبني عليها صعودها السياسي تماماً كما يفعل ترامب اليوم، ومعه اليمين الفاشي الأوروبي، وقبله الحركة الصهيونية.
حملة المزايدات الرخيصة ذات الطابع العنصري تمثلت بالتصريحات والمواقف التي أخذتها بعض القوى السياسية اللبنانية، وأبرزها التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، وتوّجت هذه المواقف في القرار الذي اتخذته وزارة العمل بمنع تشغيلهم ووقفهم عن العمل، وهو ما ينعكس إفقاراً وظلماً وعزلاً لهؤلاء اللاجئين الذين جاؤوا إلى لبنان قسراً تحت ظروف القتل والحرب والمجازر. ويصبح السؤال المطروح، لحساب من وعلى أساس أيّ أجندات تعمل هذه القوى في قيادة الدولة اللبنانية تحديداً، وهل تغامر وتقامر بالاستقرار الداخلي وبحياة الفلسطينيين والسوريين من أجل تحقيق مكتسبات شعبوية ضيّقة؟ كذلك تبرز بقوّة التساؤلات حول موقف ودور القوى الداعمة للقضية الفلسطينية داخل الحكومة اللبنانية، في ظلّ صمتها المريب عن هذه السياسات العنصرية، وحول خلفية التخلي عن الشعب الفلسطيني وحقوقه في لبنان في هذه الظروف التي يمرّ بها.
لقد ساهم العمال الوافدون، إلى جانب العمال اللبنانيين، في بناء بلدنا واقتصاده وزراعته وصناعته وطرقاته وجسوره، حيث عملوا معاً واستغلواً معاً من قبل البورجوازية الباحثة عن يد عاملةٍ رخيصة، والتي وضعت دائماً هؤلاء العمال في حالة منافسة فيما بينهم فقسّمتهم من أجل تسهيل استغلالهم. وفي ظلّ البروباغندا السائدة، يجري تصوير العامل الأجنبي على أنه الخصم للعامل اللبناني، وتتحول نقمة فئة من فقراء لبنان ضد الفقراء الوافدين، بدل أن يتوحدوا ضد نظام الاستغلال القائم الذي يفقرهم ويهجرهم ويسرطنهم ويقتل أحلامهم جميعاً. إن حقوق هؤلاء العمال، لبنانيون ووافدون، من أجر وخدمات وسكن وضمان وتقديمات، هي حقّ لهم جميعاً، وهم محرومون منها جميعاً في لبنان، من كل الجنسيات. إن المشكلة الحقيقية ليست في المنافسة بين العمال من جنسيات مختلفة، بل في اقتصادنا الريعي الذي ضرب القطاعات الإنتاجية المولدة لفرص العمل، وضرب الحقوق والمكتسبات من أجل مصالح رأس المال، وهجّر اللبنانيين إلى الخارج بحثاً عن العمل، ليستورد بدلاً منهم يد عاملة أجنبية أقلّ كلفة. إنّ بناء اقتصاد إنتاجي سيتيح فرص العمل لكل المقيمين، وسيخفف من الهجرة والبطالة وبالتالي من الفقر كما من العنصرية.
يشكّل وضع اللاجئين الفلسطينيين حالة استثنائية كون عودتهم إلى وطنهم ترتبط بإنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين المحتلة، وهو أمر ليس متاحاً على المدى القريب والمتوسط. لذلك، وبعد 70 عاماً من وجودهم في لبنان، يعتبر الفلسطيني مقيماً دائماً في لبنان وليس وافداً موسمياً إليه، وهو ما يعطيه قانونياً حق العمل وكافة الحقوق المدنية الأخرى (سكن، تعليم، صحة...) التي تنص عليها شرعة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية حول حقوق اللاجئين، التي تعتمدها الأمم المتحدة. ويكمن الخطر في معاملة الفلسطينيين مثل باقي العمال الأجانب في نزع صفة اللجوء عنهم، وما يعنيه ذلك من ملاقاةٍ ومحاكاةٍ لقرار إعادة تعريف اللجوء في الكونغرس الأميركي، وهو ما يقود إلى إلغاء حق العودة ويضع الشعب الفلسطيني في لبنان بين خياري التوطين من أجل اكتساب الحقوق، أو الهجرة النهائية من أجل العيش الكريم. إن أبسط حقوق اللجوء، وأول معايير الأخوّة والتضامن بين الشعبين اللبناني والفلسطيني، تتيح للشعب الفلسطيني أن يحصل على:
1. الاستقرار الاجتماعي من خلال وقف اجراءات وزارة العمل بشكل نهائي ووقف جميع الملاحقات للعمال الفلسطينيين.
2. الغاء اجازة العمل للعمال الفلسطينيين، بحسب ما تنص عليه تعديلات المادة 59 من قانون العمل اللبناني والمادة 9 من قانون الضمان الاجتماعي، والتي أقرها المجلس النيابي اللبناني في العام 2010 بموجب القانونين رقم 128 و129.
3. التعاطي مع الفلسطينيين كلاجئين لهم حقوق مكتسبة بحسب شرعة حقوق الإنسان وقرارت الأمم المتحدة المعنية باللاجئين.
4. إقرار الحقوق المدنية الأساسية ومنها الحق في ملكية مكان السكن.
إنّ رفضنا المطلق للتوطين ينبع أساساً من دعمنا المطلق للقضية الفلسطينية، ولإقامة الدولة الوطنية على كافة الأراضي الفلسطينية من أجل تحقيق حق العودة لهؤلاء اللاجئين إلى أراضيهم التي هجروا منها. وفي هذا السياق، يشكل دعمنا للحقوق المدنية للشعب الفلسطيني في لبنان جانباً من جوانب دعمنا للقضية الفلسطينية. إن إعادة إثارة الانقسام اللبناني الفلسطيني الآن ونشر جو جديد من العنصرية وما تولده من ردات فعل، ليست خطوة بريئة، ويتحمل أصحابها مسؤولية تفجير الوضع الاجتماعي في لبنان وما سيولده من تداعيات أخرى نحن بغنى عنها.
وفي هذا الإطار، يتحمل "المجتمع الدولي" والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وغيرها من الهيئات الدولية والإقليمية مسؤولية أساسيةً عن وضع اللاجئين الفلسطينيين السيء في مخيمات الشتات، إذ تتراجع تقديماتها لأسباب سياسية حيث يتم التضييق على المؤسسات العاملة معهم وتخفيض تمويلها، وكان آخر هذه القرارات وقف الولايات المتحدة مساهمتها في منظمة "الأونروا" المسؤولة عن تشغيل وغوث اللاجئين في المخيمات. لذلك، تقع على الدولة اللبنانية أيضاً مهمة رفع الصوت ومطالبة الهيئات الإقليمية والدولية بتحمل قسطها ومسؤولياتها من خلال دعم وتمويل هذه الهيئات وهو ما يساعد في حل الأزمة القائمة اليوم، خاصة أن نسبة اللجوء في لبنان صارت من الأعلى في العالم ولا يستطيع بلد واحد أن يتحمل أعباءها كلها، فلماذا لا تقوم الدولة بهذه المهمة بدل تخصيص الوزراء والزعماء معظم تصريحاتهم وتغريداتهم لنشر سياسات الخوف والكراهية؟
كذلك، تشكل وحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة قواه السياسية على قاعدة مقاومة الاحتلال، واستعادة النضال الوطني الفلسطيني من أجل حقوق الشعب الفلسطيني وفي طليعته حق العودة، مطلباً وطنياً أساسياً. لذلك قيّم الحزب إيجاباً مقاطعة دولة فلسطين لقمة البحرين، وإعلانها تجميد التزامات اتفاقية أوسلو، خطوة هامةً على طريق الوحدة، لكنها تبقى خطوات غير كافية اذا لم تستكمل ببرنامج نضال وطني فلسطيني ضد الاحتلال، بين كافة فصائل العمل الوطني الفلسطيني.
لقد أدان حزبنا بشكل قاطع، كل أشكال العنصرية وكل القرارات الفوقية ضد العمال الفلسطينيين وضدّ كافة العمال الوافدين، ودعا إلى تنظيم العمالة الأجنبية من أجل حمايتها ومن أجل حماية حقوق العمال اللبنانيين، وإلى إلغاء القرارات الأخيرة فوراً. كما يدعو الحزب إلى رفع الصوت من أجل تحمل الهيئات الدولية والإقليمية مسؤولياتها تجاه دعم وتمويل برامج تشغيل ومساعدة اللاجئين، وإلى وحدة كل شعوب المنطقة في رفض الاحتلال الصهيوني ومشاريع التقسيم، من أجل القضية الفلسطينية ومن أجل حق العودة، وإلى إطلاق كل التحركات التي تؤدي إلى إلغاء قرار وزير العمل، ووقف حملات التحريض والتمييز ضد اللاجئين والعمال المقيمين في لبنان.
* مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 362
`


عمر الديب