يا نهرنا الكبير يا "ابو اليتامى"

فكرتُ كثيرًا قبل كتابة هذه المقالة، وأنا المنقطع منذ فترة عن الكتابة لظروفٍ شخصية، أعترف أن الإحباط أحدُها.
من حقِّ القارئ أن يتساءل عن سبب هذا الإحباط، ومن حقِّه أيضًا أن يتلقى إجابةً واضحة، إن وُجدت... فلا أخفي عنه أنني أجهل سببَ إحباطي، أميل إلى التفكير أحيانًا أنني محبطٌ من الإحباطِ نفسه.

هذا الشعور الذي يغزو القلبَ ويستوطنه، فيرسي ثِقله على ضمائرنا، يُكبِّل أفعالَنا، يربطُ حناجرَنا، ويدعونا إلى التفكير والصمت، إلى الشكِّ، الشكِّ بكلِّ ما حولنا، الشكِّ بأنفسنا، بماهيةِ حياتنا، وببؤسِ قدرِنا.
كيف لا أُحبطُ وأنا أشاهدُ بلادي تُحرَق من بعيد؟ كيف أَهزِمُ هذا الشعور وأنا أرى شعبي مشتتًا، مقتولًا، ومُلقى على جوانب الطُّرُقات لتتناوشه الوحوش المفترسة؟
لكني اليوم قررت أن أكسر زُهدَ صمتي، قررت أن أُزيح الإحباطَ من قلبي، فأنا اليومَ غاضبٌ، غاضبٌ وحزين، حزينٌ ويائس.
من ٧ إلى ٩ آذار ٢٠٢٥ حصلت في الساحل السوري مجازر طائفية فظيعة هزَّت المنطقة، فأتت كزلزالٍ مدوٍّ ليذكِّرَ العالمَ بوَحشيةِ البشر، أو بعضِهم. كنتُ أعتقد بصدقٍ أنَّ أيامَ المذابحِ الطائفيةِ الكبرى قد وَلَّت، وأنَّ طائفيةَ عصرِنا تقتصرُ على بعضِ المواقفِ العنصريةِ المتخلِّفة من هنا، وبعضِ المضايقاتِ من هناك، التي لا تتعدَّى أن تكون مادةً لنكتةٍ سمِجة.
لكنه الشرقُ اللعين، لا يُفوِّتُ فرصةً ليذكِّرَنا أنَّه في أرضِه لا مكانَ للأمل، وأنَّ الإنسانَ فيه دميةٌ تتقاذفُها أمواجُ الأحداثِ المتسارعة، فالفرحةُ فيه لمحةٌ، والأحزانُ فيه بحور.
فما أروعَ من الجريمةِ نفسها إلا فعلُ تصويرِها، والمجاهرةُ بأعمالِ القتلِ والتنكيل، وكأنها نياشينُ دمٍ يجمعُها المتسابقون على البطش! نعم، فنحنُ أمام مجرمٍ ساديٍّ يصوِّرُ جريمتَه ويتباهى بها، أمام عصاباتٍ قاتلةٍ تمتهنُ الذبحَ بحِرفةٍ قلَّ نظيرُها.
من بين مئاتِ اللقطاتِ والمشاهدِ التي انتشرت عن المقتلة، لفتني مشهدٌ واحدٌ قضَّ مضاجعي، أضعتُ أمامَه صوابي، أنا الذي جاهرتُ طويلًا بالعقلانيةِ وعمقِ التفكير، وجدتُ نفسي أسير مشاعر جياشةٍ أحكمتْ قبضتَها على نفسي.
رأيتُ جموعَ الهاربين من المذابح، أهل الساحل بشيبِهم وشبابِهم، النساءِ والأطفالِ والعجائز، يعبرون مجرى "النهر الكبير"، الفاصلِ بين سوريا ولبنان، أملًا بالوصول إلى بَرِّ الأمان.
رأيتُ فيهم شعبَ موسى المضطهَد، الهاربَ من عبوديةِ فرعون، يشقُّ البحرَ هَرِعًا نحو الحرية.
رأيتُ في النساءِ الثكالى مريمَ البتولَ تندبُ ابنَها المصلوبَ أمامَها على أيدي جنودِ بيلاطس.
حين حدَّقتُ في وجوهِ المسنِّين المتعبة، تذكَّرتُ أجدادي، أبناءَ جبلِ لبنان، الذين طافوا في المعمورةِ هربًا من قسوةِ السلاطين وجَورِهم.
فما ذنبُ هؤلاء؟ ماذا اقترفوا؟ أيَّ جريمةٍ ارتكبوا؟ من الذي قضى بتهجيرِهم من بلداتِهم، وحرقِ منازلِهم، وذبحِ أولادِهم؟
أيُّ قاضٍ هذا الذي يحكمُ على شعبِه بالإبادةِ الجماعية، والذي يُسلِّطُ مجرمي الكون عليه؟
أيُّ محرِّرٍ مزعومٍ هذا الذي يُجيِّشُ كلَّ عَسَسِ الليلِ لاقتحامِ منازلِ الآمنين والعبثِ بها وبسُكَّانِها؟
لن أُناشِدَ أحدًا، لن أطلُبَ الحمايةَ من أحد، فهل يُعقل أن يكون الحامي هو القاتلَ نفسه؟
ذنبُ هؤلاءِ الوحيدُ هو أنهم وُلِدوا بهويةٍ يكرهُها الجلَّاد، يكرهُها بقدْرِ ما يكرهُ التنوعَ والاختلافَ والحرية. ذنبُهم الوحيدُ أن وجودَهم بحدِّ ذاتِه يشكِّلُ تحدِّيًا لعقولِ الإلغائيين المسطَّحة، التي لا ترى في المجتمع إلا ثنائيةَ الخاضعِ أو العدو.
آنَ الأوانُ لتعلو أصواتُ أحرارِ الشرق، آن الأوانُ لنقولَ بوضوحٍ للقاتل: إنَّ شرقَنا هو شرقُ الانفتاحِ والتنوع، هو الشرقُ الذي يفخرُ بتنوُّعِ معتقداتِ ومذاهبِ أبنائِه، والذي يُوفِّرُ لهم العيشَ الكريمَ بوئامٍ وسلام.
فليسمع القاتلُ والسيفُ الدامي في يدِه، لا سيوفُك ترهبُنا، ولا أزلامُك القتلةُ تُخيفُنا، هذه أرضُنا التي زرعَها أجدادُنا، وفلَحتْها محاريثُهم، ونثرتْ أياديُهم الطاهرةُ بذورَ المحبةِ فيها.
اسمعْ جيدًا واتَّعِظْ، اعلمْ أنَّ السَّلطناتِ والممالكَ الجبَّارةَ سقطتْ على أعتابِ بلادِنا واندحرتْ عنها مذلولةً مكسورة. فلا تُعِدِ الكرَّةَ مرةً جديدة، وارتَحِلْ عن هذه البلاد قبل أن تلفِظَكَ أرضُها وتَرميَكَ في مزابلِ التاريخ.
ما حصل في الساحل لا يخصُّ أهل الساحلِ فحسب، ولا هو قضيةٌ سوريةٌ داخليةٌ فقط، ما حدث هو وصمةُ عارٍ على جبينِ البشريةِ جمعاء، التي وقفتْ صامتةً أمامَ هَولِ ما حدث.
لن أُبشِّرَ بربيعٍ آتٍ، ولا بأيامٍ ورديةٍ تنتظرُنا، فنحنُ الآنَ في وسطِ إعصارٍ وحشيٍّ يقتلعُ كلَّ ما في دربِه، وواجبُنا الوحيدُ هو الصمودُ في وجهِه، والتضامنُ فيما بيننا، وإعانةُ المنكوبين.
فكلُّنا ضحايا هذا العقلِ الإجرامي، وفي كلِّ بيتٍ من بيوتِنا قصةٌ تُشبهُ ما حدث في الساحل. كفانا هوانًا، سياسةُ دفنِ الرؤوسِ في الرمال لم تحمِنا ولن تحمِينا، خلاصُنا الوحيدُ يكمنُ في وحدتِنا، نحنُ أبناءَ الحريةِ وأنصارَها.
سنحاربُ الجهلَ بالعلم، والانغلاقَ بالانفتاح، والطائفيةَ بالعلمانية، ومشاريعَ التقسيمِ بالإصرارِ على الوحدةِ والانصهار.
أمامَ هولِ ما حدث، استحضرَني قولٌ مأثورٌ للإمامِ عليِّ بنِ أبي طالب: "لا تستوحشوا طريقَ الحقِّ لقلَّةِ سالكيه".
بغضِّ النظرِ عن معانيه الدينية، فهي ليستْ من اختصاصي، يختصرُ هذا القول الرائع المسيرة التي اخترناها لأنفسِنا، التي تحمل معانيَ تُشبهُ ما جاء في الإنجيل على لسانِ السيِّدِ المسيحِ الذي قال: "أنتم تعرفون الحقَّ، والحقُّ يُحرِّركم".
ها نحنُ اليومَ مُصمِّمون بكلِّ إصرارٍ على السيرِ في طريقِ الحقِّ، حتى ولو سلكناها وحدَنا، "لأنه ماذا ينتفعُ الإنسانُ لو ربحَ العالمَ كلَّه وخسرَ نفسَه..."

  • العدد رقم: 428
`


شربل شلهوب