لم يكن لهذا النظام أن يعمر طويلاً بعد اتفاق الطائف دون أزمات ومشاريع حروب أهلية بسبب تناقضاته الداخلية بين اطراف المنظومة الحاكمة وصراع إقليمي في محيط ملتهب ومتفجر تصيب شظاياه الوطن بفعل الصراع العربي الصهيوني وتناقض المشاريع الإقليمية والدولية في المنطقة. في ظل هذه الظروف وبسبب السياسات الاقتصادية والمالية للسلطة الحاكمة انفجرت انتفاضة الشعب اللبناني في 17 تشرين الأول 2019 التي عمت جميع الأراضي اللبنانية وساحات الوطن وطالت جميع الفئات الاجتماعية والقطاعية والسياسية ورفعت شعاراتها بأسقاط منظومة الفساد والنهب والإفقار لبناء على أنقاضها الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية وانتخابات نيابية خارج القيد الطائفي وعلى أساس النسبية ولبنان دائرة واحدة، وقضاء مستقل خارج عباءة السلطة السياسية واستعادة الأموال المنهوبة ومحاكمة الفاسدين والناهبين.
بدأت في 17 تشرين ومستمرة رغم الصعود وتحقيق بعض الإنجازات ورغم الهبوط أحياناً بسبب الظروف الموضوعية والداخلية إلا أنها بالأساس انتفاضة على الذات والوعي بعدما جعل هذا النظام من الشعب اللبناني مواطنين من الدرجة الثانية ورعايا عند الطوائف وأزلام عند الزعماء يتحكمون بمصيرهم وحياتهم، فاستباحوا كل شيئا حتى الكرامة الإنسانية.
إن الشعب اللبناني يعيش اليوم بكل فئاته الاجتماعية انهياراً طال كل جوانب حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية فانهارت الليرة وانهارت معها كل مدخراتهم في المصارف ففقدت قيمتها وتم حجزها واصبح اللبناني متسول على أبواب المصارف في حين تم تهريب أموال الفاسدين والناهبين وعلى مختلف مستويات السلطة الحاكمة وتبخرت معاشاتهم وخاصة الموظفون وأصحاب الدخل المحدود والمهن الحرة وضاعت جنى سنين عمرهم في صناديق تقاعدهم ونهاية الخدمة في الضمان وتعاونية موظفي الدولة والمؤسسات العسكرية والمهن الحرة والنقابات إضافة الى غلاء المعيشة وارتفاع أسعار السلع والمحروقات واشتراك الكهرباء والماء والصحة التي باتت تهدد أكثرية الشعب اللبناني بالفقر والعوز والجوع وأقفلت الكثير من المؤسسات الخاصة فتزايد عدد العاطلين والمعطلين عن العمل وتم تهجير الكفاءات الوطنية وعلى مختلف المستويات والمهن وأصابت قطاعات أساسية في الصحة والتربية في الصميم. انهيار لم يحدث له مثيل في التاريخ، زد على ذلك انفجار المرفأ وما خلفه من شهداء وجرحى وتدمير للأرزاق، تدمير صاب نصف العاصمة بيروت. كل ذلك حصل ويحصل والمنظومة تتصارع فيما بينها على حصة من هنا وموقع من هناك غير آبهة بما يعيشه المواطن اللبناني. لكن القوى الحية مازالت تقبض على جمر المسؤولية والموقف وتبقى الشعارات والمطالب التي رفعتها انتفاضة 17 تشرين حية لا تخبو شعلتها وما حدث في نقابة المهندسين في الانتخابات الأخيرة في 27 حزيران حيث حققت "النقابة تنتفض" فوزاً ساحقاً على أحزاب السلطة، ونقابة المحامين سابقاً خير دليل على تأثير الانتفاضة على وعي الشعب اللبناني.
وفي هذا الشهر والأشهر القادمة حتى نهاية العام تتحضر مجموعة من نقابات المهن الحرة وقطاع التعليم على مختلف مستوياته الثانوي والأساسي وروابط المتقاعدين فيه، لخوض استحقاقات انتخابية بعدما تم التمديد للعديد من مجالسها بفعل التعبئة العامة وجائحة كورونا، ، وها هي نقابات الصيدلة وطب الأسنان تحدد مواعيد انتخاباتها في 28 تشرين الثاني، فيما شذت عن هذا الاستحقاق نقابة الأطباء في لبنان بعد إلغاء الانتخابات الأخيرة المقررة في 17 تشرين الأول والتي تم تأجيلها مرات عدة تحت حجج وأهمية ما هي إلا دليل على الخوف الذي يعتري اذرع السلطة النقابية من التغيير القادم.
بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 وإنجاز اتفاق الطائف وفي ظل الوجود السوري والذي بتكافل والتضامن مع السلطة السياسية الحاكمة عطل تنفيذ البنود الإصلاحية فيه كما اشرنا سابقاً تشكل تحالف بين أمراء الحرب والطغمة المالية من أصحاب المصارف والاحتكارات ليقبض على مفاصل الدولة ومؤسساتها وبدل أن تستفيد السلطة من الدعم المالي والذي قدم من جهات عدة والأموال التي حولت على البلد وخاصة من المغتربين وأصحاب الأعمال لبناء اقتصاد منتج وتقوية وانعاش القطاعات الإنتاجية من صناعة وزراعة وبنى تحتية المدمرة والمتأكلة بفعل الحرب، عمدت الى النهب والفساد والرشوة وتنفيع الأزلام والتحاصص بين أطرافها وإغراق الدولة. بالموظفين المحازبين مما رتب على المالية العامة ديون طائلة أغرقت البلد في المديونية التي لامست اكثر من 100 مليار دولار أميركي، واكثر من ذلك عملت السلطة بكل أحزابها للسطو والسيطرة على الحركة النقابية المعارضة وخاصة الاتحاد العمالي العام وتفريخ نقابات بديلة لأحكام السيطرة عليه لتنفيذ سياساتها الاقتصادية والعمالية والدفاع عن مصالحها بدل الدفاع عن مصالح العمال والموظفين في القطاعيين الخاص والعام، وطالت يدها نقابات المهن الحرة من محامين ومهندسين، ونقابات صحية وروابط التعليم وهيئة التنسيق النقابية لخنق أي معارضة قطاعية أو مهنية أو شعبية فأصبحت هذه النقابات بمجالسها ونقيبيها الذراع النقابية لمنظومة الفساد لا تختلف عنها في فسادها وهدرها للمال العام والتنفيعات الحزبية فأصاب صناديقها التقاعدية وماليتها ما أصاب جميع اللبنانيين بعد انهيار العملة الوطنية وأصبحت معاشات تقاعدهم لا تساوي حفنة من الدولارات.
ما المطروح اليوم أمام القطاعات النقابية والمهنية؟
إن المواجهة مع المنظومة هي مواجهة شاملة مواجهة سياسية بامتياز. في الشوارع والساحات والنقابات والانتخابات البلدية والنيابية، لأن هذه السلطة بسياساتها أصابت المجتمع ككل وأصابت كل بيت وعائلة فانعكست على صحتها وتعليمها ومستقبل أولادها وعلى قوتها اليومية ومعيشتها وذلك نتيجة إقفال العديد من المؤسسات الإنتاجية وتعطيلها عن العمل. وللنقابات والروابط دور أساسي في هذه المواجهة، وها هي القطاعات الطلابية تكتسح الجامعات ومقاعدها وتفوز بمكاتب فروعها ومندوبيها وتحقق إنجازات لم تشهدها منذ أكثر من 30 سنة حين كانت تخضع لأحزاب السلطة وتحت سيطرتها. وما كان ليحصل ذلك لولا وهج انتفاضة تشرين التي نفخت في الشباب والطلاب بروح التمرد والمواجهة.
وبناءً على ذلك أن المطروح اليوم على نقابات المهن الحرة والروابط التعليمية الانخراط في معركة استعادة الحقوق وعلى قوى المعارضة في انتفاضة 17 تشرين العمل على:
أولا: استرداد النقابات من براثن أحزاب السلطة وعودتها الى أصحابها الحقيقيين التي من أجلهم تأسست لتحافظ على حقوقهم ومكتسباتهم، وصناديق تقاعدهم التي أصبحت حبيسة المصارف وسياسات المصرف المركزي والعمل على الحفاظ على قيمتها المادية ودولاراتها بما يحفظ للمتقاعدين حقهم في الحياة الكريمة بعد سنين من الكدح والعمل والعطاء.
ثانياً: وقف سياسات الفساد والهدر والتوظيف التحاصصي في هذه النقابات ووضع سياسات مالية شفافة وهيكليات إدارية واضحة المعالم بعيداً عن النفعية والتحاصص.
ثالثاً: العمل على رفع مداخيل أعضائها يما يتلاءم مع غلاء المعيشة ومؤشر الغلاء ولتتحمل المنظومة نتائج سياساتها على مدى 30 عام التي أدت الى إفقارهم وتهجيرهم بحثاً عن حياة كريمة، فها هو القطاع الصحي يخسر 30% من الأطباء و40% من التمريض، مما سوف ينعكس سلباً على الواقع الصحي للبنانيين وكذلك الأمر في قطاع التربية والتعليم الذي نشاهد حتى اليوم تقاعس الدولة ووزارة التربية والحكومة على حل مشكلة الأساتذة والمعلمين بعد أن أصبحت معاشاتهم لا تكفي بدل نقلهم. والأمر يسري على بقية القطاعات مهنية كانت أم إنتاجية.
ما حصل في نقابة المهندسين وما يحصل اليوم في الانتخابات الطالبية في الجامعات إلا خير دليل على أن توحد المعارضة في مواجهة أحزاب السلطة يحقق الفوز والنصر وبتالي يمهد الى بناء أوسع تحالف نقابي اجتماعي وحتى سياسي لخوض الاستحقاقات القادمة من بلدية ونيابية بنفس روحية وضوح الرؤية وتحقيق النصر فالمواجهة تستمر...
في وقت تضعف مؤسسات الدولة التي اخضعت المحاصصة والفساد وفي ظل الواقع المعاش اليوم على النقابات والروابط ان تلعب دورا اساسي على الصعيد الوطني فعلى القطاعات الصحية ان تكون جزء من رسم السياسات الصحية والاستشفائية والدوائيةللدولة بما يساهم في تامين التغطية الصحية الشاملة والرعاية الصحية الاولية وتخفيض الفاتورة الأستشفائية والدوائية فالصحة حق لكل مواطن كذلك الامر بالنسبة للهندسة دوار في اعادة تصويب سياسات اعادة الاعمار البنى التحتية والكهرباء والماء والسدود بما تملك من إمكانيات وكفاءات مهنية وعلمية ولوقف الهدر والفساد والزبائنية. وللقطاعات التعليمية دور في رفع مستوى المدرسة والجامعة الرسمية ورسم سياسة تربوية تواكب العلم والتطور التكنولوجي وكذلك الامر بالنسبة لنقابة المحامين من دور في استقلالية القضاء عن السلطة السياسية والدفاع عن الحريات العامة والخاصة وحقوق الانسان واما النقابات المعنية بالشأن الاقتصادي والزراعية العمل على بناء اقتصاد منتج مما يساعد في فك التعبية الاقتصادية وتحسين ضروف العمل والعمال.