تل الزعتر...

ليس لأربعين وسنة أن تترجمها كلمات قليلة، والثابت لمجرى الأحداث، كيف انفلتت علينا غيلان القتل والدمار، يقيمون احتفالاتهم الوطنية ومآدب الأضاحي البشرية بكل موت مسموع حتى ما وراء الحجب.

ولم يكُن لنختبأ طويلا من عسس الفوهات والقنابل المضيئة والقذائف العمياء تصيبنا بموت طويل. لم يكُن للأفواه الصارخة والأجساد المقطعة المجندلة في أسار طويل عشناه بكل دمائنا وعرقنا وتعبنا. والفتيان المتماردون يحفرون ما تحت الركام والإعدام والرصاص... في تلك الصبيحة لمّا عدت من واجب الحراسة عند كتف الوادي حيث ولدت وعشت، حيث يقع حينا وأناسنا وأعمارنا وملاعبنا، أخذتني إغفاءة بين حافّة الموت والحياة، ونحن قيد الاعتقال فتحوا علينا غرفة الذبح أسفل الدرج في المدرسة الرسمية الواقعة بالقرب من ساحة الدكوانة... مدرستنا وقد صارت مذابحنا وعلى الطاولة التماعات السكاكين والسواطير تقطر من دمنا، من صراخ المعذبين المقتلين بكل صنوف القهر والرجس.
هناك، قبل مجيئنا إلى القهر في زمن الردة والانكسارات، كأنما لبثنا طويلاً في العدم وجئنا لنشهد موت العرب فعلاً وتوثيقاً. وكان أن نرثَ الهزائم للذات الجمعية لأمة الشعر والمعلقات، حتى قيل الشعر ديوان العرب، وجدي يقول لا تنسَ أبداً هذا اليوم لأعوام ثمانية وأربعين وسبع وستين، وفيما بعد يقول والدي لعامي خمس، وست وسبعين، وأقول لأعوام النصر ألفين... وستة.
ونحن في الموت آنذاك، كنّا نذهب رفاقاً وأصدقاءً حتى حافة الكون واللهب والغضب، وآلينا بأنّنا مشروع شهداءٍ، شهادات إنسانية ولنا وجوه من سبقونا، منهم من غفا تحت ورود المطرقة والمنجل، ومنهم من تعمّد بالماء يستسقونه لأجل الأهل والأطفال، ومنهم في مقابرهم الجماعية متلاصقو الأجساد والأرواح، ومنهم... وقد همنا في ظلماء الدنيا بلا وطن وأحلام.

هناك، عشقنا العشقَ، عشقنا فلسطين. عبد الناصر وليالي أمّ كلثوم والعندليب. فريد واسمهان. عبد الوهاب وصباحات فيروز. هناك قتلنا ليالٍ سوداء، وجهَ جلاّدٍ وجلّاد، وفي الانتظار عن سُعاةٍ وغواة، حائرون. حائرين بدَوْنا دون مرايانا. لأذهب وحيداً في الأيام، لأشغل اعتقال أرواح في جسد، قيامَ أرواحٍ في جسد. والثغرُ رضابُ الطُّهر يناجي اللمى، ينتابُ أحلامَ النهود بحليماتٍ تلاطفُ المدامع، كأنّما مجامعُ القلوب شقائقُ الشّموس تتآلقُ بصفاءِ الأحداق. في المُهج الولهى حواريّو العشيات يطفحون المُدامَ المسام بأصحاب الحياة، فامتلأنا كما الأيام بحُلوّها ومُرّها. وقالت الدّنيا سلاماً على الأُباة، والنجمة الحوراء ترسم شاعراً لم يغادر قتله، والحُسنُ نارُ النشوة، فثارت عزائمي وانتحلتُ ما أغراني، ولي في مصارع الحياة أشقّاءُ الرّوح... عميقاً ذهبوا في الدّماء، في الأرض بكلّ الأرض، في الرّوح، في العقل، في الياسمين...

في مصاحف الجهاد وجهٌ لتلّ الزعتر... وتلّ الزعتر لم يكن حكايةً ولا رماداً، تلّ الزعتر كان القلوب من أرض فلسطين... قلبٌ فوق قلبٍ في الزعتر، بيوتٌ حفظناها عن ظهر قلب، وكلّما كان الصبح، كنّا نكبر والزعتر حتّى صرْنا نسيجَ هذا الشتات، وفي حقبِ المجد، مجدُ أسطورةِ تل الزعتر. والجمالُ دفقُ اكتمالٍ لرجلٍ في الغياب، لرجلٍ في السنين... لا يمضي وإنْ شقّ الوجودَ رحيلٌ ورحيل.
وأنتَ تذهبُ شقيقَ الثرى، شفيقَ الدّمع، شفيفَ الغسق والشفق، تنثالُ في المطارح أوسعَ من نجوم، أكبرَ من أكوان، من بحورٍ تتماوجُ بشغفِ الرمال، بابتهال الصيادين، بعابري الشّوق إلى شغافِ الوجع، حيثُـكَ، حيثنا الأيامُ تحملنا من مسيرٍ إلى مسير، إلى عبيرٍ بمكنونات العيون، إلى شذىً يتكوّنُ كلّما طلعت غزالة الصبح، كلّما غابت، كلّما قمَرْنا لقلوبٍ نجوى، لثغورٍ تمنحُ المقبلين قُـبُلاً تثور بجنباتِ الثغور، بثنايا، بثنيات النبض والنسور.
في زحمةِ الحياة بشرٌ يُجترحون بحروفِ بصروفِ الدّهور، والأزمانُ عن شوقٍ محفوفٍ مغرورقِ الرماد. هناك نشاغلُ المعارجَ عن أطفال الحقول، عن فتية الماء، عن رجال السماء وقد بلغوا أراضين الأرض، أقايين الأسفار، أقاصي الوجدِ حتى أقاصي النفوس تدور ما بين مقبلٍ وذاهب، ما بين بسمةٍ وبكاء ينسجهُ الدعاءُ لنلبس أجسادَ صلاة. وكنّا نهجرُ المضاجع حتى أزمنةٍ شغوفةٍ صموتةٍ ترقبُ عدْوَ الظلال... ونحن أوان الغار برؤى النشور... هناك، تناثرنا برياح الصّمت، وإن غفونا طلعت شموسٌ لنا وبنا اكتمالُ النبض، سرُّ الرّوح، دمعُ الحنين. كنّا طلعَ المآقي، أنسامَ الوجوهِ تفورُ بحنّاء الزّمن؛ فإذا ما ضربنا في شغفِ الثرى أزهرتِ الأقاح، وراح المدى عن صدى النواح، لنكبرَ في السنين في الضوء في المقبلين يتناسخون أسرارنا. فعقدنا ثيمة الشهادة، تعويذة الصمود والإنتصار، وعن سالف الأهل عزائم الرجال... هناك كنّا نكبرُ، نهزمُ الموتَ بكلّ الحياة.
وهذا القتلُ والدّمار ينغلُّ في الروح، في اللحم الحيّ، في الذاكرة. والبشرُ خطّاؤون... ليت يكون التغيير على قدر المجازر التي ارتكبوها. إذ لم يحاسب المسؤولون أنفسهم - أمراء الحرب، لأجل تغييرٍ حقيقيّ بعد كلّ الذي كان، بعد أعوامٍ بائسةٍ ومهجّرين ودمار ومفقودين ومقابر جماعية. فماذا عن المتآلمين المقتولين بيومياتهم؟ ماذا عن الغدِ وقد طال؟ ماذا... من يعرف كيف يكون الألم... كيف يُرسم، كيف تكون الدّمعة في العين، في القلب والذاكرة؟
* من رواية صيف تل الزعتر 76

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 363
`


أحمد وهبي