البيان الأول

(ننشر ادناه النص الاول من صفحة "وجهة نظر" التي نشرت يوم الاحد 20 نيسان 1988 في جريدة "النداء" واستمرت في الصدور أسبوعيا لمدة عام كامل)

نحو ثقافة شابة ومشاكسة

بصعوبة كبيرة نكتب هذا البيان.

بين آلاف الكلمات والعبارات والبيانات من كل نوع. اي لغة قادرة على اختراق كل أنواع الثرثرة الثقافية او السياسية لتبلغ هدفها في نقطة التقاء الوعي العقلاني بالوعي الشعوري في لحظة حياة حقيقية.

بصعوبة كبيرة نكتب هذا البيان. لان العبارات التي تقدم نفسها للتعبير عن ما نريد قوله، تتارجح بين فوران غضب وحماس مشروعين، وقلق من هجوم ثقافة الضجر والتكرار والتواطؤ علينا، وبين هدوء او "اتزان" مطلوب كي لا يأتي بياننا هذا صرخة في وادٍ. فلا بد "لالمختلف " الذي نريد قوله، ان يرتدي لباس الشائع كي تكون هناك إمكانية للفعل، وكي لا يأتي هذا المختلف غريباً،  بل متأصل في عمق وعي جماعي جديد يحاول ان ينتزع شرعيته، ومتألف في نفس الوقت مع اللغة المتداولة التي يولد في أحشائها.

أردناه بياناً ضد الضجر وضد التواطؤ العام على تدجين الوعي الجديد، ضد الرسمي والمتداول، ضد الموافقة البلهاء والتبريرية على ما يجب رفضه بعنف واندفاع وعفوية. اردناه بيانا ضد الموت العصري الآلي الذي ياكل ايامنا كالصدأ، وبيان انتساب إلى المستقبل والحياة، فكانت هذه الكلمات.

فلنحدد همومنا اولاً.

لكل جيل قضيته الكبرى التي تطبع هويته الثقافية والسياسة بطابعها.

في أواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، كان جيل النهضة وفكره، التعبير الثقافي والفكري عن تفسخ المجتمع الاقطاعي وبداية تكون مجتمع جديد منتسب إلى عصر ذاك الزمان.

وجيل ما بين الحربين كان جيل الرومانسية الثورية والحلم المتصارع مع ثقافة الانتداب وسياسته.

وجيل الخمسينات والستينات كان جيل التفاؤل المفرط بالمستقبل الذي يعد به النهوض التحرري العربي، وكان كذلك جيل الالتباسات الثقافية والفكرية حول مدى هذه الثقافة والسياسة الجديدتين.

وجاءت هزيمة حزيران 1967، لتفعل فعلها كالزلزال في الجغرافية والسياسة والثقافة فافتتحت عصر الأسئلة المفتوحة والشكل المولد معرفة جديدة، او المولد طرقا جديدة تقود إلى شكل جديد. لكن جيل ما بعد الـ 67 كانت له ثقافته: ثقافة السؤال، ثقافة عدم التسليم، وثقافة المقاومة في بداياتها وتجذير الوعي والمواجهة، ثقافة عقلنة الحلم.

ثم تنفجر حرب لبنان عام 1975 (وقبلها حروب التراجع العربي الاخرى) وتستمر فصولا فصولا، وصولا إلى الزلزال الآخر عام 1982. انه عصر متناقض، عصر انهيار القديم، وعصر جديد يصارع ليحظى بولادة طبيعية.

ولهذا الزمن جيله الخاص، الجيل الذي لم يناقش أمور العالم كلها في المقهى أو نادٍ أو كافيتيريا الكلية. الجيل الذي لم يعرف موجة الولع بجيفارا، ولا هزته روايات كنفاني، ولم يحضر يوما مناظرة بين كتائبي وكتلوي وبعثي وشيوعي في قرية نائية في كسروان أو عكار أو الجنوب. جيل لم يسمع محمود درويش يلقي قصيدة، ولا نزار قباني، ولم يناقش في أولوية الموسيقى الحديثة على الفولكلور، وبالطبع لم يناقش محاضراً او شاعراً في مشكلة الإيصال في الأدب الحديث.

جيل لا يعرف المدرسة القديمة، ولا الجامعة الوطنية، ولا الشهادات الرسمية. ومع ذلك على هذا الجيل أن يواجه أصعب الظروف واشدها تعقيداً، وعلى هذا الجيل ان يقاوم ويقاتل وينتصر، وأن يبني ثقافة جديدة ومستقبلاً جديداً.

لكنه لم ينتج ثقافته بصورة كافية بعد، وإن كان قد أنتج سياسته في النظرية والتطبيق، سياسته المتناقضة حكما بتناقض اطرافها ومكوناتها، سياسة المقاومة وسياسة الامتيازات والفاشية والعبث والعدمية. لكن الثقافة النقيضة - ثقافة الحياة والمستقبل، لا زالت أسيرة جيل سابق، جيل ما بين هزيمة حزيران 67 ومحطات الحرب اللبنانية. هذا الجيل الذي سار من السؤال إلى الإجابة المتفاوتة الدقة على المرحلة فوجد بعض منه الجواب، وقال البعض الآخر انه وجده، وكان مخطئا، فغزته الهزيمة في عقر عقله وقلبه. وخمد فيه السؤال او تناسل الى آلاف الأسئلة العبثية، فحاصر نفسه في لغته هذه، وتربع على كرسي الثقافة والفكر، يحول دون ولادة ثقافة جديدة.

ما عدا قلة قلية لم تقطع خيط انتسابها الى مسار تطور الثقافة الوطنية الصاعد من عصر النهضة الى يومنا هذا، فإن الجديد السائد تغلب عليه مسحة اليأس والإحباط، او العدمية المطلقة. والمستجد الآخر أيضا، ثقافة نفطية دخيلة، وسيادة لقيم السوق الاستهلاكية، فأهمية أي بحث او دراسة تقاس بالدولار او الدينار.

والموقف الأمثل: استقالة عن هموم المستقبل، وانسحاب بين معركة التغيير واسقاط الاوهام والاحباطات الشخصية عن الجمهور.

لذلك بت ترى اطنانا من الكتب والمجلات والندوات الدراسية والأبحاث. ولكن لا جديد، كأن البلد اصيب "باسهال" ثقافي والمناخ الثقافي كالمستنقع الراكد، وليس من يلقي فيه حجراً، أو يشق فيه مجرى لنهر حي.

تلك هي همومنا.

***

ولنحدد أهدافنا ثانياً.

اننا بإختصار نريد أن نلقي حجرا في هذا الركود، ان نشق منه واليه مجرى نسكب فيه وننهل منه نسغاً لحياة أخرى.

ماذا نقصد بالتحديد؟ وكيف؟ ذاك هو السؤال، وهذه هي المحاولة امامكم: ان نقول كلاما مختلفا، كلاما صادقا ومحموما.

لذلك كان هذا البيان، وكانت هذه الصفحة ولذلك كانت هذه المحاولة.

محاولة لقدح زناد حركه مفتوحه، تدعوكم إلى الانضمام اليها، إلى تغذيتها بعقولكم وقلوبكم وسواعدكم، كي لا تأتي صرخة في واد.

انها دعوة إلى الأقلام الشابة للكتابه، ودعوة للفئة الشجاعة التي عاصرت تنوع وغنى المرحلة السابقة، التي لا زالت تنتسب إلى كل ما هو حي ومتجدد في ثقافتنا لكي تتلقف وتشجع حركتنا هذه.

فاحملوا حجرا والقوه في البركة الراكدة.

احملوا فكرة والقوها في حركتنا والقوة في وجهنا وفي وجه امراء الثقافة الزائفة الجدد، ربما اثمرت المحاولة.