وردة الحضور ، وطيف الغياب الذي يترقرق في بحر الزمن . عاشت القرن بأكمله ، ورحلت الى نومها الأزلي.
كبيرتنا السيدة ليندا مطر عاشت(98 عاماً)، أيقونة العمل النسائي اللبناني ، المرأة التي دأبت وجهدت وتعالت لتحقيق المساواة بين الجنسين. رحلت سيدة الأمل المُرتجى في مدى الحياة والإنسان، التي سبقت سواها للتربع على عرش النضال الوطني الصادق، عميدة المناضلات اللبنانيات بامتياز،المجاهِرة والعاملة بكدّ وهمّة ورشاقة للمساواة بين الرجل والمرأة.
تعرفتُ على الراحلة قبل أكثر من ثلاثة عقود،والتقيتها في لقاءات كثيرة،وحاورتها للصحافة، وما حفظت منها سوى الطيبة والمحبة والوفاء. بقيت حتى الرمق الأخير ، وفيّة لقضيتها ، مناصرة للمساواة بين أبناء الحياة ، وليس بين الرجل والمرأة فحسب. هكذا عاشت ليندا ، من دون خطاب متكلّف، خطابها كان نبرتها الوطنية الهادئة والصافية. وأكثر ما ميّزها هو أنها لم تكن عدائية مع أحد،تعترف بالآخر وتحترمه مهما اختلفت معه، لا عدائية في نسويتها، لم تبتعد عن درب النضال الوطني الصادق الأمين ، لم تستعمل أو تستغل القضية كسلعة تجارية ، بقيت في خط الدفاع الأول عن حق المرأة والإنسان بحياة كريمة.
الراحلة ،كريمة العطاء، تمثّل هيئة أمل كاملة لما قدمته للبلاد وناسها، إنها خامة من صنف خاص جداً،وحتماً كانت امرأة نادرة في زمن وبلاد وناس تعصف بها الخيبات من كل حدب وصوب.
واذا ما رجعنا الى نشأتها وتاريخ حضورها في الوجود، نتعرّف بأنها من مواليد 25 كانون الأول/ ديسمبر 1925 في منطقة الخندق الغميق، التي شهدت تحولات كبيرة في العاصمة بيروت.ونتعرّف أنها عاشت في كنف عائلة متوسطة الحال، ودخلت المدرسة باكراً. وفي الثالثة من عمرها، بدأت أمّها توصلها يومياً إلى "مدرسة راهبات المحبة ـ اللعازرية"، وانتقلت لاحقاً إلى "مدرسة الناصرة" (الأشرفية)، حتى وصلت إلى نهاية المرحلة المتوسطة، وأجبرت على ترك المدرسة بسبب ضائقة مالية.
انطلقت المناضلة الراحلة الى معترك الحياة ببراعم طرية وعزيمة أمل لا تضاهى، وكانت أول فرصة عمل لها في مصنع للأقمشة، مقابل أجر زهيد.
غير أنها عملت نهاراً ودرست ليلاً الى أن حققت ونالت الشهادة الثانوية.
ليندا المناضلة المثابرة ، عاشت داخل قناعتها كما لو أنها في "عرزالها"، وتذكر في كتابها "محطات"، روز عكاوي وجورجيت عكاوي اللتين نظمتا تظاهرة من أجل المطالبة بإنشاء مدارس رسمية للبنات، ففي تلك الفترة، وبعد اعلان استقلال لبنان مباشرةً، لم تكن هناك مدارس رسمية للبنات. وتوضح مطر بأن مثل هذه الشخصيات أثّرت في النضال النسوي وفيها شخصياً: "أثرت هذه الشخصيات فينا، لا سيما عندما علمنا كيف احتفلن للمرة الأولى بيوم الثامن من آذار، حيث كانوا يزعمون بأن هذا اليوم عيداً غربياً لا يجوز الاحتفال به، لكن الناشطات كن يحتفلن بالسر ويتحدثن عن كيفية مواجهة عاملات شيكاغو لأصحاب العمل، ليس فقط من أجل الحصول على حقوقهن بل أيضاً من أجل عمل الأطفال ومن أجل الوصول إلى قانون عمل يسّير حياتهم".
تزوجت ليندا مطر باكراً من شاب أرمني، وعلاقات زوجها مع أعضاء الحزب الشيوعي جعلتها تنفتح على الأوضاع السياسية والاقتصادية في زمنها. حتى تلك الحقبة، اقتصرت معرفة ليندا بالسياسة وشؤونها على ما تسمعه من أخبار، وما تقرأه في جريدة "صوت الشعب". لكن في العام 1951، تبدّلت حياتها، وبدأت رحلتها النضالية. كانت أولى سفراتها العام 1950 الى ألمانيا لحضور مهرجان الشباب العالمي بدعوة من إتحاد الشباب الديموقراطي العالمي. وعندما عادت، سُجنت ثلاثة أيام إثر تنظيمها ندوة في الحي الذي كانت تقيم فيه (عين الرمانة) للحديث عن أهمية هذا المهرجان الأممي.
ناضلت في الحزب الشيوعي اللبناني لسنوات، وانتخبت أول امرأة في اللجنة المركزية، ثم تركت الحزب وتفرغت للعمل النسائي. كانت تجمع بين العمل النسائي والسياسي، وتذكر جيداً قصة انتسابها إلى "لجنة حقوق المرأة اللبنانية". كانت المرأة لم تحصل بعد على حقّها في الاقتراع. في يوم الانتخابات، قرعت بابها فتيات يحملن عريضة تطالب بمنح المرأة حقّ التصويت (نالته العام 1953). وقّعت ليندا مطر على العريضة من دون تردد، وطلبت الانتساب إلى اللجنة، وبدأت تتدرّج فيها. ترأست لجنة حقوق المرأة في لبنان منذ العام 1978 الى ان استقالت من منصبها في العام 1996، بعد سنوات من النضال والتدرج في المسؤوليات، حققت خلالها إنجازات عديدة أبرزها حق الانتخاب والسفر من دون إذن الزوج، وحق ضمان المرأة العاملة لأطفالها، وتعديل القوانين المتعلقة بجرائم الشرف وتوقيع اتفاقية إلغاء التمييز ضد المرأة.
غيابك لا يبعدك يا ليندا،بل يقرّبك ويجعلك أكثر قدوة في عالمٍ ، محتشدٍ،اليوم،وبالأمس وغداً، بجنون الإنسان والطبيعة..وداعاً كبيرتنا الى الأمل.