العنصريّة: متلازمة الأنظمة الرأسمالية المدّعية الإنسانية !
بين حادثة جورج فلويد الذي "لم يستطع التنفس" وبين مشهد العاملات الأثيوبيات المرميات على الأرصفة كأشياءٍ تمّ الاستغناءُ عنها، تسقط كلّ ادّعاءات الإنسانيّة الزّائفة في العالم.
"إن أضعت بيروت..."، قالها سانداً مكنسته إلى واجهة سيارة فارهة في شارع يستظلّ بشبكات من أسلاك كهربائية، "... فانظر إلى تجاعيد ذراعيْ والدي وحروقهما تدُلّانك على أزقّتها والمنعطفات"، قالها محمد الشاب السوري الثلاثيني وأستاذ اللغة العربية سابقاً الذي يعمل الآن في شركة رامكو للتنظيفات، مستذكراً والده ابن ريف درعا الذي كان يأتي إلى لبنان في التسعينيات ليصقل فولاذ عَماراتها، الذي، أمست بغالبها فارغة ومُفرغة.
"كل ما يؤلمني..." قالت سلمى، وهي تدخل مخيم مار الياس الفلسطيني بعد أن شرّدتها العائلة اللبنانية التي كانت تعمل عندها لسنوات، "كلّ ما يؤلمني هو أنّني عشت على هذه الأرض وبين أناسها بقدر ما عشت في وطني الإفريقي، وبالرغم من ذلك يقولون لي إني أجنبية - عابرة سبيل... لم يسأل في مصيرنا أحد وكأنّنا لم نكن. وها نحن هنا اليوم في مخيم".
وبين خاطرة وأُخرى قد يضيف عابرٌ بين تلك القصص، إنك إن أضعت عائلة طرابلسية، لك أن تفتش عنها في امرأة تحمل ابنها بين شارع السوق وحي فرحات في مخيم شاتيلا، تراها تناور بين الأزقة وعقارب الساعة لتقهر موتاً يباغت المشاة عبثاً في غيتوهات عمال المدينة.
إنّ تشريد أكثر من خمسين امرأة بتركهنّ تحت وهج الشمس أمام السفارة الاثيوبية الأسبوع الماضي، والذي نفّذته بكلّ صلافة العوائل اللبنانية اللاتي عملن عندهم، ونظفنّ منازلهم، وأطعمنهم، وربينّ أطفالهم لسنواتٍ طوال، دون أن يُدفع لهاتي العاملات أجورهن (البعض منذ أشهر والبعض الآخر منذ سنوات) لهو مشهد كارثي. لكن قبح هذا المشهد ليس بجديد بل هو متكرّر مع تراكم أجسادهنّ المنفيّة في مخيمات اللجوء وضواحي الفقر. تُركت العاملات لأقدارهن ولشريعة الصُدف، دون أمنٍ صحي أو غذائي أمام سفارة بلادهنّ التي شرّدت أطفالهن عنهن قبل رحلة اللجوء هذه، فظَلامةُ الرأسمالية لا تعرف لوناً ولا علماً.
بدأ لبنان سوق "استقدام العمال المهاجرين" من إفريقيا وآسيا مع صعود حركة الأموال أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات. يبلغ عدد العمال المهاجرين في لبنان أكثر من 250.000 عامل - معظمهم من النساء. يعملون في منازل أو شركات خاصّة. وانفجار أزمة العاملات الإثيوبيات اليوم مردّها ببساطة، أن العاملات الاثيوبيات هن من بين الأكثر عدداً لجهة العمالة المنزلية. أما التشريد والعزل ومختلف أنماط الإطباق الجسدي والمكاني، فكانت ولا تزال سياسات الاستلاب الجماهيري والطبقي الأمضى بيد الطبقات البرجوازية.
للعمال المهاجرين واللاجئين حصّة الأسد من هذا الإطباق. فـ"غير – المواطنين" من بين الطبقات الكادحة لا يرضخون إلى أنماط الهيمنة الهوياتية الطائفيّة التي يرزح تحتها المواطن اللبناني. لذلك تهابهم البرجوازيات الحاكمة، وتسارع بوصفهم – على حدِّ قول سلمى – بالأجانب. وفي ذلك مسعى لدفعهم نحو التكتل ضمن بوتقة هوياتهم القومية، والعزوف عن الإحساس بموقعهم كعمال. فالخطورة الكائنة في إمكانية تبلّور هذا الحسّ الأخير، هي في أنه سيهزّ الأساسات الشوفينية القومية لمفهوم الجماعة السياسي الذي يحفظ جبروت السلطات في البلاد.(The Polity)
إنّ الجماعة السياسية هي كلّ من يُعطى حق الفعل والقول السياسي من قِبل الجهاز الاداري للسلطة الحاكمة. إنه المواطن - المواطن غير المحكوم عليه بالتمرّد على قواعد لعبة الأمر الواقع. ولأننا طبّعنا مع هذا الامتياز - ذو الجذور الاستعمارية المستوردة، فإننا نادراً ما نُمحّص في أن صاحب "المواطنة" تلك لا بدّ وأن يكون - خاضعاً بموجب الولاء - أو تابعاً بموجب الحاجة - أو أن يكون مستتبعاً ومستغِلاً بموجب موقع المهيمن ضمن التركيبة الرأسمالية للبلاد. ولهذا تلوح معالم الاضطراب البرجوازي المُزمن. فإن دخول "غير – المواطن" إلى فضاءات الفعل والقرار السياسي من موقعه الطبقي، سيهدّد استقرار المعادلة، باعثاً الاضطراب في منطقها الإنعزالي المُسطّح. وفي هذا الاضطراب قد يطال فعل هذا المهاجر – اللاجئ أساسات النظام ورخاء عناصره التكوينية. وإن خروج العامل المهاجر عن فضاءات الاستلاب، لهو تمرُد من شأنه إخراج المواطن عن خوفه وإرباكه وخضوعه.
لهذا جُنَّ جنون جهاز أمن البرجوازية عندما ثار عمال رامكو. لقد كسر العمال الصّمت وخرجوا عن الهندسات التي جعلت من وجودهم لامرئيّ، إلى ساحات العصيان الصارخة مربكين الخمول لدى "المواطن" الغارق في مآسي الأيام. لهذا تهاب السلطةُ العاملات المهاجرات واللاجئات، فتنهال علينا بوابلٍ من الأفاهيم الهوياتية المتشّعبة لنضيع بين مُحدداتها المكانية واللغوية والحركية. لهذا تذمّرت شرطة البلدية وسارعت بالهجوم على العاملات وهنّ ينصبن خيمة على رصيف السفارة الاثيوبية موصدة الأبواب. فلقد خرجنّ عن لامرئيتهنّ فاضحات المشهديات الزائفة التي تحيكها السُلطات لتأجيل المعركة الطبقية.
"ما في شك هيدا النظام رح ينهار" – قالت تينا بعزم ودفئ ثوريين. كانت تينا تتكلم عن ذلك الإطباق اللامتناهي الذي يحاصر أجساد العاملات والعمال. أعلنت تينا الثورة باللغة العربية التي لا يتقنها "المواطن" نفسه في أزماننا الحاضرة المستهلِكة المستغلًّة والمستغِلة بين مدارس رأسمالية النسيان. أعلنت تينا الثورة على رأسمالية الهجرة وعقيدة التبعية فيها: أعلنت الحرب على نظام الكفالة.
مفهوم الكفالة هو أن يحمل المواطنون مسؤولية الرعاية بغير المواطنين. أبويّة هذا المنطق الذي حكم هذه المقاربة في مهدها أدى إلى حدث بديهي، صار هذا النظام أداة تعسفية للاضطهاد. صار كحال كل نظم الهجرة المعولمة، أداةً لإدارة الهجرة وتطبيع الاستغلال من خلال إيلاءه قوالب قانونية قومية. ففي أحكام هذا النظام يسلب المواطنُ اللا-مواطنَ حقه الفعلي في القرار الحُر، فإقامته وكل ما يتخللها من أفعال وتنقلات هي رهن رضى المواطن – الكفيل، ومزاجياته الاستنسابية. لهذا تشبَّه معالم النظام بالعبودية الحديثة. والآن تستمر قوانين الكفالة في تحديد خيارات وأوضاع الملايين من العاملات والعمال المهاجرين واللاجئين في العالم. وأما لبنان والخليج فهما مسرحان لأقبح تجليات هذا النظام. يطال هذا النظام كل الياقات الزرق، من قطاع البناء الى القطاع الخاص والخدمات وطبعا العمل المنزلي. وهكذا يُشَرّع هذا النظام للحكومات إيلاء مسؤولية المهاجرين إلى أيدي المواطنين والشركات الخاصة التي تصبح الحاكم والحكم الأوحد في تقرير مصير العمال. هكذا تُبنى حلقات الاستغلال البنيوي المركّب.
خلاصة القول، هو أن النظام الرأسماليً في لبنان يسخّر كافة قواه لإبقاء العامل الكادح لامرئياً. لا يراه سائقوا الرانجات إلا بصيغة علامة فسفورية مضيئة، أو خبراً اعلامياً عابراً عن ملابسات حادث انتحار، أو رقماً على سجلات سجون عسف البرجوازية وإذلالها. يُبقيه النظام لامرئياً كي لا يراه زميله العامل في زحمة الأيام، ولا في إيقاعات مظاهراتنا التي تغرق في فئويتها كل مرة لا يشهد الجمع فيها أولائك العاملات.
أَكتب يا رفيق الراية الحمراء، لأن الحركات السياسية في البلاد ما زالت تتغاضى عن أبعاد هذه المشاهد بكليتها. فنراها تَغفل عن أن اضطهاد العمال المهاجرين عنصريا هو أحد أدوات الطبقة الحاكمة، لحفظ سلطتها الأيديولوجية وهيمنتها القومية. انها عملية تصفية ممنهجة للوعي الطبقي من خلال نهج التصعيد القمعي على أساس عنصري وعرقي. عليه، لا مفرً من إعادة ترتيب صفوف يسارنا لنركز على الحاجة إلى مقاربة أممية حقيقية معادية لهذه القومية المحلية. الأممية ليست مدًا جغرافيًا يُقاس بحدود الدولة القومية. الأممية هي أن يسقط منطق الدولة القومية ضمن حدودها. ها هي الأممية تحت السفارة الاثيوبية وفي صدر كل عاملة تفترش أرض بيوت الاستغلال.
إن نظرنا الى سبب اندثار أو تضعضع كافة الحركات العمالية والنقابية وغيرها من الحركات المتشدّقة بطليعيّتها المزعومة، نرى أنها لم تعالج نضالات العمال المهاجرين ككلية جوهرية من نسيج البلاد. لقد فشلنا يا رفيقي في مواكبة التفاعلات ما بين الهويات وما تنتجه من أنماط استغلال مركبة، فالقومية والجندرية في العمالة المنزلية مثلا، أساسان لفهم بنية الخزان الاحتياطي من اليد العاملة وسياسات الازاحة الطبقية التي تمارسها الدولة الأمنية اجتماعيا واقتصاديا.
الفكر ليس تحرريا ما لم يشرع في الإجهاز على عصباوية واختزالية "العمالة الوطنية". نحن من نتحمل مسؤولية تفاقم الاستغلال عبر التشريعات القانونية وقمع العمل النقابي وتطبيع نُظُم الرقابة والتعذيب. نحن مسؤولون عن مصير انتفاضة عمال رامكو ضد استغلال القطاع الخاص، وعن الاحتجاجات المشرذمة ولكن المستمرة لعاملات المنازل في كافة أرجاء لبنان. إنها فرص تتكرر أمامنا لتؤكد لنا أن الطاقة الثورية الكامنة لن تتفجر إلا بتنظيم اليد العاملة المهاجرة على هذه الأرض.
أممية الصراع لا تتحقق إلا بتنظيم عمالي عابر للجنسيات. ولا تكون الحركة النقابية تقدمية إلا إذا كان العامل المهاجر واللاجئ عمادا لها. هذه هي مسؤوليتنا التاريخية. وما عدا ذلك ليس إلا نشاطا مغتربا عن الصيرورة العمالية. وإلى حين أن نَتَنظَّم، لن يكسر ضوضاء قنابل الغاز في السماء، الصمت الذي يحوم حول النائمات في العراء. ولن تغفر لنا كل الهتافات شعور الوحدة الذي استعمر جثة العاملة التي أعدمت في غربتها. ولن تغفر لنا كل خيام رياض الصلح الوقت الذي تسرب من بين خطا عاملة منزل بين بيوت المنفى الكثيرة. فمن يموت قهرًا لن يُبعث من ظلام الموت ليغفر لنا صمتنا. لا صدق في معركة لا يشارك فيها العمال المهاجرون.
بين حادثة جورج فلويد الذي "لم يستطع التنفس" وبين مشهد العاملات الأثيوبيات المرميات على الأرصفة كأشياءٍ تمّ الاستغناءُ عنها، تسقط كلّ ادّعاءات الإنسانيّة الزّائفة في العالم.
لم تكن حادثة قتل المواطن الأسود جورج فلويد خنقاً خطأً تقنياً خارج السياق الرسمي العام. قتل رجال الشرطة البيض للمواطنين السود حدثٌ اعتيادي في الولايات المتحدة الأميركية. حتى الكورونا في أميركا أصابت الأقليات بنسب مضاعفة عن البيض لأنّهم الأفقر والأكثر حاجةً للعمل والأقلّ وصولاً إلى الخدمات الصحية. العنصرية والطبقيّة والاستغلال سمات أساسية في المجتمع الرأسمالي، فكيف في معقلها النيوليبرالي المحافظ...؟