كيف ستحسم الحرب في غزّة؟

يتوغل جيش العدو الإسرائيليّ يوماً بعد يوم داخل وحول غزّة ومستنقعاتها الغارقة في الدم، ويوغل أكثر فأكثر في دماء الغزاويين وأطفالهم ونسائهم، لكن ما لم يخطُر ببال جنرالاته والجنرالات الأمريكيين الذين رسموا معه خطط هذه الحرب، أن الإنسان حين يحشر ويصبح البحر من أمامه والعدو من ورائه، يتحول إلى وحش كاسر ومغامر مقامر بحياته وروحه، لذلك يتجرأ عناصر القسام على امتطاء دبّابة الميركافا، فخر الصّناعة العسكريّة، وزرع العبوات النّاسفة داخل أبراجها أمام عدسات الكاميرات، ويلتحمون بالقوات المتقدمة وجها لوجه ومن مسافة صفر.

قلّما خاض جيش العدو في تاريخه حرب عصابات مع مجموعات مسلحة ومدربة جيدا، ومحاصرة في رقعة حضرية ضيقة ومكتضة بالأبنية وأنقاضها  كما بالسكان الذين هم حاضنة هذه المقاومة لأن أبناؤهم هم الذين يقاتلون في صفوفها، لذلك سيفاجأ "الجيش الذي لا يقهر" هناك بما لم ينتظره ولم يتوقعه ولم يحسب حسابه.

العملية البرّية التي أجّلها الجيش الصهيوني مرارا وتكرارا ومهّد لها بأكبر وأفتك قصف جوي وبري وبحري، كانت وما زالت مهمّة معقّدة وبالغة الصعوبة والخطورة. فمقاتلو حماس وباقي الفصائل المقاومة يباغتون الإسرائيليين من الأنفاق، ويفاجئونهم من خطوطهم الخلفية، ومن فوق السطوح ومن تحت الأنقاض والدمار والردم.

ليس المهمّ عدد الأمتار والكيلومترات التي توغلت فيها الدبّابات الإسرائيلية داخل القطاع سواء من الشرق أو من الغرب. فمع تقدم 50 ألف جندي بين احتياطي ونظامي خلف مئات الدبابات وأمام تمهيد ناري وفرته لهم آلاف مرابض المدفعية ومئات الطائرات والقاذفات المغيرة على مدار الساعة ودون انقطاع أو توقف، يستطيع الإسرائيلي الوصول إلى حيث يريد، ولكن هل يستطيع الصمود والبقاء في المواقع والأمكنة التي وصل إليها؟ وهل بإمكانه الحفاظ على أرواح جنوده في شوارع وأزقة ودروب يعتبر المقاومون المدافعون عنها أدرى بشعابها وممرات التسلل إليها؟

المجموعات والفصائل المقاومة التي تعتمد الكفاح المسلح بأسلوب حرب العصابات، لا تقاتل كالجيوش، ولا تعتمد على الجغرافيا الدفاعية أو الهجومية في قتالها، بمعنى أنّها لا تتمسك بخطوط دفاعية ثابتة وليس لها مواقع دفاعية محصنة ومحددة تنتقل من أحدها إلى آخر ثمّ إلى خطّ دفاع ثالث. فالمقاومة التي تواجه الجيش الإسرائيلي في غزة تعتمد أسلوب حرب العصابات ضمن مجموعات صغيرة متحرّكة منتشرة على مساحة 360 كيلومتراً مربعاً في قطاع غزّة المحاصر من جميع الجهات، أي إنّها منتشرة في كلّ مكان وخلف كل نافذة وباب وركام. وهي تعتمد على تحيّن الفرصة للانقضاض وإظهار قوّتها مقابل نقاط ضعف الجيش النظامي الذي يقاتل في بيئة معادية وفي أماكن مقفلة وسواتر لا تستره بل تنبعث النيران منها ضده.

طبعاً نقاط قوّة المقاومة أكبر بكثير من نقاط قوة الإسرائيليين الذين لديهم دبّابات وآليات مجنزرة وطائرات، لكن لا يستطيع الجندي الإسرائيلي أن يقاتل بدونها، وهذه أوّل نقطة يتفوّق فيها المقاومون في غزة على الجندي الإسرائيلي الذي يجد نفسه رهينة لتصفيح دبابته والقوة النارية لمقاتلاته المغيرة التي تفقد تفوقها في المعارك الالتحامية التي تنشب وجها لوجه.

ثمّ أن المقاتل الفلسطيني موجود الآن في مناطق سكنية فيها الكثير من الدمار والخراب، وحروب الشوارع والمناطق السكنية الضيقة من أعقد الحروب على الجيوش النظامية في العلم العسكري، ولذلك هذه نقطة قوّة للمقاومة الفلسطينية ونقطة ضعف للإسرائيلي.

حتى الآن الجيش الإسرائيلي لم يترجّل على الأرض. لم يخُض حرباً برّية بمعناها الحقيقي لأنّ الحرب البرّية ماذا تعني؟ تعني أن يترجّل الجندي الإسرائيلي على الأرض ويمسك الأرض ويسيطر عليها ويستطيع الدفاع عنها، وهذا حتى الآن غير موجود. المقاومة الفلسطينية تتصدّى له في كلّ مكان فتحرمه من أن يمسك بالأرض أو أن يسيطر على الأرض أو أن يستطيع الدفاع عنها، وبالتالي نشاهد أنّ هناك معادلة مفادها عمليات فدائية منتشرة في كلّ مكان خلف خطوط العدوّ وبين قواته.

لذلك فإن المفاجآت العسكريّة الكثيرة والمتتالية تجعل من الميدان الغزّيّ محطّ أنظار المراقبين وأهل الاختصاص من الخبراء العسكريين. هُناك يخوضُ الفلسطينيّون معركة غير مُتكافئة مع واحدةٍ من أعتى الآلات العسكريّة على وجه الأرض.

هذه حرب لم يحصل أن خاضت إسرائيل مثيلا لها في حروبها السابقة مع الجيوش العربية، ولا حتى مع المقاومة الفلسطينية وقوات الحركة الوطنية في لبنان، وبعد ذلك مع حزب الله في حرب العام 2006، لأن تلك الحروب إما كانت بمواجهة جيوش نظامية ثقيلة الحركة وضعيفة التكتيك والروح المعنوية، وإما بمواجهة مجموعات وفصائل مسلحة كان ظهيرها مفتوحا وإمكانية انسحابها إلى الخلف واردة وغير مكلفة، لكن حرب العصابات في شعاب غزّة  المحاصرة من جمبع الجهات تختلف تماما، لأنها لا تتيح للمدافعين فرصة للتراجع ولا تترك خيارا أمام المقاومين غير الاستشهاد أو الاستسلام لعدو سيذيقهم طعم الموت الشنيع، هذا إذا لم يعدمهم على الفور، لذلك لم نسمع بعد مرور نحو أسبوع على الهجوم البرّي عن أسرى من حماس وقعوا في قبضة الجيش الإسرائيلي .

الإسرائيليون يتوغلون حاليا عبر محورين في شمال قطاع غزّة من ناحيتَيْ الشرق والغرب. والمناطق التي تمكن الجيش الإسرائيلي من التوغل فيها كان التقدّم فيها أسهل ما يكون، لأنّها أراضٍ زراعية مفتوحة ومكشوفة لغارات الطيران والقصف المدفعي.

لكنّ في الوقت عينه فإن تقدّم الجيش الإسرائيلي من ناحية الشرق يشكّل خطراً عليه بسبب توغله على شكل "عامودي رفيع" من الشرق نحو الغرب في منطقة وادي غزّة، لذلك حاول هذا الجيش خلال اليومين الأخيرين تعزيز وجوده أفقيا وعرضيا في تلك المنطقة ليتمكن من الصمود فيها والدفاع عنها.

هدف العدو من حصار مدينة غزّة، هو تقطيع أوصال المدينة، فمن المضحك إعلان الجيش الصهيوني أنه تمكن من أحكام الطوق على مدينة محاصرة أصلا ومنذ سنوات طويلة، لكن قطع التواصل بين أجزاء وأحياء المدينة يسهل عليه المهمة عند احتدام القتال بشكل جدّي وتحوله إلى حرب شوارع حقيقية، حيث يطمح الصهاينة لتقطيع المدينة إلى مربّعات والقتال داخل كل مربع على حدا، بعد فصله عن المربعات الأخرى.

عام 1982 طوّقت القوات الإسرائيلية بيروت من كل الجهات، واستمرّت في حصارها لمدّة 88 يوماً، لكنهم لم يتمكّنوا من عبور متر واحد لا في الأوزاعي ولا في البربير ولا في المرفأ طالما كانت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية موجودة هناك.

حتى لحظة كتابة هذا التحليل، لا يمكن الحديث عن منتصر ومهزوم في المعركة العسكرية البرّية التي ما زالت في بدايتها، والأمور مرهونة بأوقاتها ومرتبطة بتطوّر وتدحرج السياقات العسكرية على الأرض، ومما لا شكّ فيه أنّ الغزّيين عامة، والمقاومين خاصة في وضع لا يحسدون عليه، لكن شوكة عزيمتهم وغريزة البقاء وعدم وجود مكان ينسحبون إليه سيجعلهم يصمدون ويبتدعون مقوّمات القتال وستدفعهم للاستشراس والاستفادة إلى الحد الأقصى من شبكة الأنفاق، التي هي أمر عظيم وغير مدروس ولم يتم التطرق اليه سابقا في العلوم العسكرية الكلاسيكية.

أهل غزّة ومقاوموها يضربون أروع الأمثال في تاريخ الصّمود والبقاء والتمسك بالأرض والدفاع عنها، فبعد مضي شهر كامل على بدء تلقيهم أعنف وأفتك الضربات في منازلهم، وبعدما صارت أكثر المستشفيات خارج الخدمة وتحولت إلى مقابر جماعية وهُجِّرَ عشرات الالاف من الشّمال إلى الجنوب، ما زالوا يقاومون ويخرجون من أنفاقهم ليلقنوا الغزاة دروسا في الشجاعة والبأس والتحدي والصبر والتحمل.

فالعالم كله شاهد المقاومين الفلسطينيين الذين امتطوا الدبّابة وجنودها فيها وألصقوا المتفجّرة ببرجها ثم فجروها. هذا هو القتال الآن وهذه هي صوره القتال في قطاع غزّة في الوقت الراهن. حتى اليوم سقط لجيش الاحتلال أكثر من 30 قتيلاً من نخبة لواء غولاني الذي يفتخر به الجيش الصهيوني، فضلا عن قائد الكتيبة 53، وهي من الكتائب التي يعتزّ بها الجيش الإسرائيلي، وبالتالي هذه النعوش إذا استمرّت ستحسم المعركة.

كلّ يوم من القتال يمرّ يصبّ لصالح المقاومين في غزة لا الإسرائيليين، فالجيش الإسرائيلي بُني على مبادئ الجيوش النظامية أسوة بأيّ جيش من جيوش العالم، وأحد أهمّ مبادئه أنّ "إسرائيل" متفوّقة نوعياً، ومبدأ آخر هو ما يسمّى بالجيش العامل الصغير مع احتياطي كبير.

فعديد السكان في "إسرائيل" أقلّ من محيطها العربي بكثير، ولا يقارن به. لذلك أسّس الصهاينة جيشاً صغيراً نسبياً يقوم بالمهمّات وعند الحروب يستدعون الاحتياط الذي يبلغ عديده نحو 400 ألف عسكري.

لكن عند استدعاء الاحتياط يصاب الاقتصاد بالشلل، فعلى الرغم من تلقّي الكيان الصهيوني دعماً مالياً من أمريكا والغرب، إلا أن هذا لا يعني أنّ اقتصادهم سيستطيع أن يقف على قدميه. لذلك نجد أنّ أغلب الحروب الإسرائيلية لم تتجاوز مدتها الايام او الاسابيع القليلة،  وعلى أبعد تقدير شهر ونيف مثلما حصل في حرب تموز 2006. حينذاك بدأت تبحث عن حلول بعد 33 يوماً.

الحربَ التي يشنها العدو على غزة هي حرب فريدة من نوعها وغير مسبوقة في تاربخ الحروب. إذ يستخدمَ الجيش الإسرائيليّ، بضوء أخضر أمريكيّ، كلّ أنواع الأسلحة الأكثر فتكا وحتى المحرمة دوليا منها، مدعومةً بجسرٍ جوّيّ وحاملات طائرات وقوّات برمائيّة وقطعٍ بحريّة تُغطّي العمليّات الإسرائيليّة.

كانت الضربات في البداية على مناطق الشّمال في القطاع، وتحديداً جباليا وبيت حانون من الجوّ والبرّ والبحر، تزامناً مع حصارٍ مُطبق يمنع الماء والكهرباء والوقود، كما تم استهداف المشافي والمدنيين بشكلٍ مُتعمّد، وتحديداً الأطفال والنّساء، وقصف البيوت على ساكنيها.

ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي هي جرائم ضدّ الإنسانيّة مُكتملة الأركان وفق اتفاقية جنيف والبروتوكول الإضافي الأول والبروتوكول الثاني واتفاقية روما المنظّمة لمحكمة الجنايات الدولية.

توسّع حرب غزّة نحوَ الإقليم يظل احتمالا واردا، وهذا ما بدأت آثاره تظهر في العراق وجنوب لبنان واليمن، واستهداف القوات الأمريكيّة في شرق الفرات بسوريا، وقاعدة الحرير في أربيل، وقاعدة عين الأسد، والصّواريخ التي تعبر البحر الأحمر ويعلن عنها "الحوثيون". هذه الإرهاصات مُمكن أن تتحوّل إلى حربٍ إقليميّة، لأنه من الصعب التصديق أن تسمح قوى المقاومة في الإقليم بسحق حركة حماس واستيلاء إسرائيل مجددا على قطاع غزة وإعادة احتلاله مرة أخرى.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 419
`


سعيد طانيوس