مبادرة القرن

إنّ أولئك الذين تعوّدوا على تهديد الآخرين، هم فقط من يرونَ بأنّ الآخرينَ يمثّلون خطراً عليهم. ولا يحقّ لأيّ شخصٍ أنْ يُسيءَ فهمَ أو تأويلَ رغبة الشعب الصينيّ الصادقة وعمله الفعليّ في الإسهام في السلام والتنمية للبشرية. شي جين بينغ – 2018

"الحزام والطريق": مصير مشترك للبشرية
عام 2013، أطلق الرئيس الصينيّ مبادرة "الحزام والطريق"، التي تُعتبَر واحدةً من أضخم المشاريع الاقتصادية في تاريخ البشرية. هذه المبادرة تحاكي روحَ "طريق الحرير" التي انطلقَتْ أولى قوافله قبل حوالي خمسة آلاف سنة، من الصين شرقاً إلى غرب الكرة الأرضية مروراً بالشرق الأوسط. يقول الباحث والمفكر العربيّ هادي العلوي (عاش في الصين ودرس الحضارة والفلسفة الصينية وكتب العديد من الدراسات حول تجربته هذه، أهمّها كتاب بعنوان "المستطرف الصيني") أنّ القوافلَ كانَتْ تنطلقُ من الصين لتمرّ بعدد من دول آسيا الوسطى، من ثمّ تدخل إلى مدن بلاد فارس ومنها إلى الموصل وبغداد في العراق ومن ثمّ إلى تدمر في سوريا، لتتجّهَ غرباً نحو صور في لبنان، ومن صور شمالاً نحو أنطاكيا في تركيا ومنها إلى اليونان ومن ثمّ إلى ايطاليا. ويضيف العلوي "إيطاليا كانَتْ آخرَ محطّات هذا الطريق حتى القرن الأوّل ميلادي لأنّ ما خلفها من أوروبا كان لا يزال في حكم الخراب"، مشيراً في ذلك إلى ما يُعرَف اليوم بالعالم الغربيّ.
إن إعادة إحياء هذا الطريق من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، ما هو إلّا إحياء لنهج التعاون والتشارك بين الأمم، وبين الحضارات العظيمة التي نشأتْ في الشرق وبينها وبين باقي الحضارات، رافضينَ بذلك مقولاتِ التفوّق الحضاري وصراعَ الحضارات. فهذا الطريق الذي أُسِّسَ ليكونَ ممرّاً لانتقال البضائع، لم يكتفِ بهذا الدور فقط، بل إنّه يختزن في مساراته تاريخاً طويلاً لحضاراتٍ وأممٍ نمَتْ على أطرافه. فعبره تمّ تناقلُ الحضارات التي انتشرَتْ في آسيا وقسمٍ من أوروبا (حضارات بلاد الصين والهند وفارس وصولاً لحضارات بلاد ما بين النهرين في العراق وتدمر في سوريا إلى الحضارة الإسلامية لاحقاً، وكذلك الحضارة اليونانية والرومانية)... وعبره انتقلَ العلم أيضاً، من خلال الكتابات الفكرية والفلسفية والرياضية، التي انتقلَتْ مع قوافل التجار من بلاد الصين والهند إلى الجزيرة العربية قبل أكثر من ألف عام، حيث تمّت ترجمتها وتطويرها على يد مفكّرين عظماءٍ مثل الخوارزمي وغيره.
"اقتصاد الحرب"
إنّ الظروف العالمية التي ترافق هذه المبادرة هي ظروف استثنائية تتناقض مع روح التعاون الذي تحمله. فالعلاقات الدولية اليوم يحكمها منطقُ التسلّط والعدوان والاحتكار. وهذا المنطق هو السائد منذ القرن التاسع عشر تقريباً، أي منذ بداية توسّع الانتاجِ الرأسماليّ وبحثه عن أسواقٍ جديدة. فكانَ خيارُ الدول الرأسمالية الكبيرة استعمارَ الدول من أجل الحصول على أسواقٍ جديدةٍ لتصريف فائض الإنتاج. هذا المنطق لم يتوقّفْ، وعندما كانَتْ المنافسة تزداد بين الدول الاستعمارية على هذه المستعمرات، كانَ العالمُ يشهدُ حروباً عالميةً مُدمِّرة (الأولى والثانية) أو حروباً محدودةً تكونُ نتيجتُها إبادةَ شعوب وأمم. وما نشهدُه اليوم في العالم من حروبٍ في الشرق الأوسط (سوريا، العراق، ليبيا، اليمن..) ومشاريع حروب (إيران، فنزويلا...) ليس إلّا الشكل الجديد لهذا المنطق التسلّطي العدواني، الذي يتميزُ بأحاديةِ التحكّم الأميركي بالعالم. حيث فرضَتْ الولاياتُ المتّحدة سيطرتَها بشكلٍ مطلق منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وقامَتْ بتقليص كلّ مفاهيم القانون الدولي والعلاقات الدولية، وجعلَتْها في خدمة مصالحها: كلّ ما يتناسبُ ومصلحتَها يجب العمل به، أمّا ما يخالف هذه المصلحة فلا يجب احترامه.
لذا فإنّ ما نشهده اليوم من حربٍ تجاريّة ظالمة فرضَتْها الولاياتُ المتحدة على الصين منافيةً بذلك كلّ الأعراف والقوانين الدولية، ليس إلّا استمراراً لهذا النموذج، والذي نُسمّيه "اقتصاد الحرب"، الذي اعتمدَتْه وتعتمده الولاياتُ المتحدة مع كلّ الأمم والدول التي تحاول النهوض. فشعار "أمريكا أولا" الذي يطرحه ترامب (لم يظهر فاشي في التاريخ، باختلاف بلده، إلا ورفعه) يُترجَم على الشكل التالي: إنّ تحقيقَ مصلحة أميركا يمرّ بالضرورة بضرب مصالح الدول الأخرى، أي كي تربح أميركا يجب على كلّ دول العالم أن تخسر. وعلى هذا الأساس بدأ ترامب حملتَه على كلّ مصالح الدول بشكل عدواني لا يستند إلّا إلى منطق الهيمنة، من المكسيك وصولاً إلى الهند والصين مروراً بكلّ دول العالم. فعلى سبيل المثال، وللتدليل على هذا المنطق العدواني، يقول أحد أركان الإدارة الأميركيّة، "أنْ ليسَ من حقّ الصين أن تستمرّ بالنموّ"!! نعم، بهذه البساطة، أن تكون بلداً يطمحُ إلى التطوّر والنهوض، فأنت، بلا شك، مُعرَّضٌ للعدوان، وبكلّ الأساليب.
وعلى أساس منطق "اقتصاد الحرب" هذا، يمكن تفسير كلّ الأحداث المأساوية التي شهدها العالم في الثلاثين عاماً الماضية. فمثلا، من أجل السيطرة على نفط العراق دمّروا هذا البلد وقتلوا ما يقارب المليون إنسان. وكذلك فعلوا في ليبيا، ولنفس الأهداف، وهم يحاولون الأمر نفسه في إيران حيثُ يفرضون عقوباتٍ ظالمةً على شعبٍ كامل. والمشهدُ الأبشع يتجلّى في الحصار والعقوبات المفروضة على فنزويلا، والتي تترافق مع محاولاتٍ متكرّرة لتنفيذ انقلابٍ داخل هذا البلد الذي يُعدّ من التجارب الديمقراطية الحقيقيّة القليلة في العالم. ولكنّ جشعَ وتسلّطَ الولايات المتحدة وطمعَها بالثروات الضخمة التي تملكُها فنزويلا، دفعَهم إلى تدميرِ اقتصاد هذا البلد ووضعِ شعبِه تحت رحمة الحصار والجوع. منطقُ التسلّطِ هذا تستخدمه الولايات المتحدة حتى مع من يُعتبَرون حلفاءها الاستراتيجيين، فعلى سبيل المثال، لا يتوقف الرئيس الأميركي ترامب من توجيه الإهانات المباشرة للملك السعودي، طالباً منه أن يدفعَ له مئات مليارات الدولارات، وكلّ ذلك أمام آلاف الأشخاص في مهرجاناتٍ عامة.
"اقتصاد السلم"
بالمقابل، إنّ ما تطرحه الصين من خلال مبادرة "الحزام والطريق" نقيضُ السائد اليوم. بمعنى أنّه في مقابل "اقتصاد الحرب" تطرح الصين "اقتصادَ السلم" القائمَ على الربح المشترك، أو ما يُسمّى بعلم الاقتصاد معادلة "رابح-رابح". فالصين وعلى عكس منطق العدوانية السائد، وبالاستناد إلى تاريخها الحضاريّ القائم على التعاون مع باقي الأمم، والذي يُشكّلُ "طريق الحرير" منطقَه العملي، اختارَتْ الطريقَ السلميّ لنموّها. وهذا ما عبّر عنه الرئيس الصيني في أكثر من خطابٍ له، مؤكّداً على أنّ الصين لن تنموَ على حسابِ أيّ بلدٍ آخر، بل هي تطرحُ سعادةَ البشرية كهدفٍ من أهداف نموّها. وكذلك، "لن تسعى الصين وراء الهيمنة، ولن تقومَ بالتوسّعِ الخارجيّ أبداً، مهما بلغ مستواها في التنمية. وكي لا يكون كلامُنا مستنداً فقط إلى الأقوال، تكفينا نظرةٌ سريعةٌ إلى ما أنجزَتْه هذه المبادرة حتى الآن في دولٍ عديدة أهمّها الدول الإفريقية (أثيوبيا مثلاً) للحكم بأنّ هذه المبادرة تبشّر بعالمٍ جديد، عالم ليس فيه أمّة رابحة وأمّة خاسرة، ليس فيه دولة تنمو على حساب دولٍ أخرى. وهذا مختلفٌ عمّا قام به الاستعمار القديم في الشرقِ الأوسط (فرنسا وبريطانيا) وما يقوم به الاستعمار الجديد (الولايات المتحدة)، أنّه كي تنموَ أمةٌ ما، على أمةٍ أخرى أنْ تدفعَ ثمنَ ذلك حروباً ودماراً وتخلّفاً. إنّ ما تطرحه مبادرة "الحزام والطريق" هو مصيرٌ مشترك للبشرية، فإمّا أن نربحَ معاً، أو نخسرَ جميعاً.
العدوان الأميركي وبداية الردّ الصيني
لا شكّ أنّ الولايات المتحدة في وضعٍ لا تُحسَد عليه، فمن السيطرة المطلقة على العالم في بداية تسعينيّات القرن الماضي، تجد نفسَها اليوم عاجزةً أمام كلّ الملفّات العالمية، وخاصةً تلك التي فجّرتها بنفسها، معتقدةً أنّها بذلك ممكن أن تؤجّل الانهيار الشامل لهذه السيطرة الامبريالية. فمن الواضح أنّ الملفات التي فجّرها ترامب منذ وصوله إلى الحكم، لم يصل في أيٍّ منها إلى نتيجة لحد الآن. فالأميركي اليوم يشبه الغريق الذي يصارع من أجل النجاة، إلّا أنّ محاولات نجاته هي سبب تسريع غرقه. وبالرّغم من أنّ هذا الوضع غير المستقر يضع العديدَ من دول العالم في حالة لا استقرار وتوتّر دائم (سوريا، اليمن، ليبيا، ايران، فنزويلا..)، إلّا أنّ صمودَ هذه الدول في وجه العدوانية الأميركيّة سيكون أهمّ عوامل نهاية السيطرة الأميركيّة على العالم.
من جهة أخرى، ترسل الصين العديد من الرسائل التي تقول من خلالها لكل من يهمه الأمر أنّها لن تستخدمَ بعد اليوم منطقَ الحياد الإيجابي في الصراعات الدولية، خاصة وأنّ هذه الصراعات بدأتْ تطرق بابها بشكلٍ مباشر. فعلى الرغم من أنّ هذه الرسائل كانت قد بدأت منذ فترة (الفيتو حول الملف السوري في الأمم المتحدة، بعض الإجراءات والتصريحات عندما يشتد الخلاف مع الولايات المتحدة حول تايوان والحراك العسكري الأميركي في شرق آسيا،...) إلا أنّ مستوى التصريحات والتقارير والتعليمات التي تصدُر عن الجهات الرسمية في الصين والتي تعتمد نبرة عالية لم نسمعْها سابقاً. فعلى سبيل المثال، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني تقريراً شاملاً حول المشاوارات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة والموقف الصيني من هذه المشاورات، هذا التقرير المعروف اليوم باسم "الكتاب الابيض" والذي حمل عنوان "موقف الصين بشأن المشاورات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة"، يُشدّد على أنّ الصين لن تنحنيَ تحت الضغوط وستنهض أمام أي تحدٍّ يقف في طريقها. ويضيف "أيّاً كان ما يحمله المستقبل، فالصين واثقة من مواجهة التحديات وجهاً لوجه، ومن تحويل المخاطر إلى فرص وفتح فصول جديدة". وخلال مؤتمر صحفي حول "الكتاب الابيض" قال نائب وزير التجارة وانغ شو ون "إذا كانت الولايات المتحدة تحاول إجبار الصين على تقديم تنازلات عبر الضغوط الشديدة وتصعيد الاحتكاكات التجارية، فإنها لن تنجحَ أبداً". بالإضافة إلى هذه التصريحات، أعدّت الحكومة الصينية لائحةً بالكيانات غير الموثوق بها لحماية الأمن القومي والمصالح العامة والحقوق والمصالح الشرعية للشركات الصينية. كما جرى فرض رسومٍ جمركية إضافية على قائمة من المنتجات الأمريكية، وبدأ التحقيق الرسمي مع شركة فيديكس للشحن. إلّا أنّ الملفت والجديد في الإجراءات الصينية، هو إصدار وزارة الخارجية الصينية تحذيراً من السفر إلى الولايات المتحدة، وكذلك فعلت وزارتا التعليم والسياحة، حيث حذّرت الأولى الطلابَ والباحثين الصينيين من المخاطر المُحيطة بالذهاب للدراسة في الولايات المتحدة، أمّا وزارة السياحة فقد أصدرت تحذيراً للسيّاح الصينيين، تحثهم فيه على تقييم مخاطر السفر إلى الولايات المتحدة مشيرةً إلى "حوادث إطلاق نار وسرقة متكرّرة في الآونة الأخيرة". وفي حال استمرار الصين بتصعيد هكذا إجراءات، فسينتج عن ذلك أضراراً كبيرة في الاقتصاد الأميركي.
وهنا لا بدّ من الاشارة إلى أنّه بالرّغم من هذا التغيير في النهج الصيني، إلّا أنّ الواضحَ حتى الآن أنّ الصين لن تنجرّ إلى لعب الحرب الأميركية. فالصين تعلم تماماً أن الولايات المتحدة هي من يضع شروط هذه اللعبة، وبالتالي فإن الانجرار إلى حلولٍ غير تقليدية هو خسارة للصين حتماً، خاصة وأنّ الصين تملك الكثير من أوراق القوة، والأهم أنّها لا تطرح نفسها كقوة هيمنة جديدة، أو بالأحرى، لا يمكن لها أو لغيرها من الدول أن تكون قوةً امبريالية تنشر العدوان والحروب في العالم (هذا بحث متشعّب كنا قد عالجناه في مقالات سابقة).
خاتمة
إنّ مبادرة "الحزام والطريق" وإن كانَتْ ظاهريّاً مبادرةً اقتصادية، إلّا أنّها تحمل روح السلام والتعاون والتشارك بين الأمم. هذه الروح نفسها التي حملها أجدادنا قبل آلاف السنين، حينها لم نشهدْ حرباً واحدةً بين الصين وبلداننا، بل كنّا ننمو سويّة وعلى كلّ المستويات. إنّ نجاحَ هذه المبادرة نجاحٌ للبشرية في تحقيق السعادة المشتركة وهزيمةٌ لمنطق العدوان والحرب والاحتلال والاحتكار. وفي وجه صفقات ترامب الساعية إلى تصفية حقوق شعوب العالم المظلومة في سبيل بقاء هيمنة الولايات المتحدة وأدواتها في العالم، فإنّ هذه المبادرة تستحقّ وبجدارة أن تُسمى "مبادرة القرن الواحد والعشرين"، المبادرة التي ستعيد حقوق الشعوب التوّاقة إلى التقدم وستفتح باب النمو أمام كل من أغلقت الامبريالية الأميركية هذا الباب في وجههم.
*ملخص ورقة أُعِدّت لمؤتمر عُقِد في مدينة نينغبو الصينية حول مبادرة "الحزام والطريق".

 

  • العدد رقم: 359
`


أدهم السيد