والمفاجأة الكبرى في هذا السياق تمثّلت بكسر حاجز الرعب والتخويف الذي فرضته آلة القمع والترهيب لدى كافة أطراف السلطة الفاسدة المتعاقبة على سدة الحكم على مدى عشرات السنين. فشرعت الأبواب الموصودة وانتفضت جموع المواطنين التواقة للحرية والانعتاق من سجون الكانتونات الطائفية، وبادرت إلى مغادرة طوابير المذهبية لتقدم الصورة الحقيقية والنموذجية للشعب اللبناني بإصراره غيرالمسبوق على التمسك بالوحدة الوطنية وإظهار إرادته الصلبة في مواجهة زعماء الحرب الذين لم يتركوا وسيلة إلّا واستخدموها في سبيل النيل من وحدة هذا الشعب وتفتيته على قاعدة "فرّق تسد".
ومن جهة أخرى بدأت منجزات الانتفاضة تتجلّى تباعاً وقد تبدّلت موازين القوى لصالح الشعب اللبناني بدءاً بإسقاط الحكومة وبفتح ملفات الحكام وفضح صفقاتهم التي تفيض بالفساد والسمسرات أمام محكمة الشعب لمساءلتهم ومحاسبتهم وتحميلهم تبعات ما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب والوطن من خلال تخريب مؤسسات الدولة مروراً بتدمير الاقتصاد وانتهاءً بالسطو على الثروات ونهب المال العام.
هذه الطبقة الحاكمة استأثرت بجميع مفاصل الدولة، مستغلة كل ما يناسبها من بنود اتفاق الطائف لتأمين هيمنتها المطلقة وتعميم نفوذها ليشمل كافة المناطق اللبنانية عبر أزلام أحزاب السلطة وميليشياتها. وعليه فإن الحديث عن خصوصيات المناطق الخاضعة لسلطة القوى الطائفية، أمر يستدعي الحذر والحسبان لكثير من ردات الفعل التي قد تحصل من قبل تلك الأطراف التي اعتادت التعالي فوق القوانين لتفرض قوانينها الميليشياوية مستندةً إلى عوامل عدة، وفي طليعتها إخضاع الناس وتقديم الولاء لقاء ضمان المنفعة الشخصية، الأمر الذي أتاح لها تأمين حاضنة شعبية المرتكزة على الزبائنية والمحسوبية.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن ما جرى في مدينة بنت جبيل وقرى القضاء التابع لها، بنظر الجهات النافذة، ينذر بخطر داهم ويشكّل خروجاً عن القاعدة وتمرّداً على المألوف. ولأنّه يمثل، بحسب الجهات نفسها، تخريباً للسلم الأهلي وتعرّضاً لأمن المنطقة وللمقاومة... ولأن ما جرى، حسب اعتباراتهم، نكرانٌ للجميل. يستخدم هؤلاء النافذين هذه المقولات تبريراً لما جرى من تعديات وافتراءات طالت المتظاهرين أمام سرايا بنت جبيل. فيما أن حقيقة الأمر كان ممارسة أبسط وأدنى أشكال الاحتجاج وتحت سقف ادّعاءاتهم بكثير وتحت سقف القانون وبمواكبة القوى الأمنية وبطرق سلمية من قبل مواطنين يعانون الأمرّين، والذين نزلوا إلى الساحات وتظاهروا ضد سياسات السلطة. ألا يكفيهم ما تحمّلوه من وطأة الاحتلال على مدى عقود من الزمن؟ وهل يُعقل أن تبقى لعنة المعاناة مرافقة لهم وهم من بذلوا الغالي والنفيس من أجل التحرير للخلاص من إذلال الاحتلال والعودة إلى حضن الوطن وكنف الدولة العادلة؟
تظاهر أهل بنت جبيل والقرى المجاورة بعدما مارست السلطة وميليشياتها شتّى أنواع الذل وارتهان الكرامات بحق الجنوبيين. والأغلبية الساحقة من السكان المقيمين في قرى منطقة بنت جبيل هم من مزارعي التبغ الذين لم تكترث السلطة لهمومهم يوماً بل انحازت إلى جانب شركة الريجي في احتكاراتها وأمّنت لإدارتها الفضاء اللازم للاستمرار في نهب المزارعين وسرقة محاصيلهم، ونكران كافة حقوقهم في زيادة الأسعار أو الضمان أو دعم تسليفات القروض. أما الحق في العمل، فحدّث ولا حرج، حيث باتت الوظيفة حكراً على المحسوبيات. والدخول الى المستشفى يلزمه موافقة المراجع ودورة العمل في إطار المهن الحرة هي أيضاً تخضع لسياسة الاحتكار.
وهذا ما يطرح عدة تساؤلات لدى المواطنين. هل يا ترى نزول هؤلاء المواطنين بمختلف أوضاعهم وظروفهم الاجتماعية للتظاهر والاعتصام والاحتجاج سواء في ساحات بنت جبيل أم سواها أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل نزول المزارعين للاعتصام أمام مكاتب الريجي للتذكير بمطالبهم المزمنة والمشروعة، أمراً "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل اعتصام الشباب وحاملي الشهادات المُعطّلين عن العمل للمطالبة بفرص العمل أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل التظاهر للمطالبة بتطبيق القوانين ومحاسبة الفاسدين وناهبي المال العام، أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل استخدام مكبّرات الصوت للهتاف ضدّ الجوع والفقر ورفع الظلم أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟!
لتلك الأسباب كانت الانتفاضة في بنت جبيل وفي كل الساحات، لتلك الأسباب نزل المواطنون إلى الشوارع، سلاحهم النشيد الوطني ورايتهم العلم اللبناني، ومن أجل ذلك نحن باقون في الساحات حتى سقوط منظومة الفساد التي أوصلت الوطن إلى شفير الهاوية والاقتصاد الى درجة الإفلاس والانهيار بكامل مكوّناتها وتحميلها المسؤولية.