استُكمِلت التظاهرات في يومها الثاني، من مصرف لبنان إلى "استراحة صور"، المنتجع المتعدي على الأملاك البحرية، والذي تشير المعطيات المتوفرة إلى أنّه مملوك من قبل رنده بري. فتم حرقه وتكسيره من قبل بعض المتظاهرين وأغلبهم من موظفي الاستراحة وموالين للسلطة وبعضهم ما زال قيد التوقيف من قبل الأجهزة الأمنية. تزامناً مع هذه التظاهرة، اعتصم آخرون على مفرق العباسية فقطعوا الطريق وحرقوا صور رئيس مجلس النواب نبيه بري ووضعوا الخيم وبدأوا اعتصامهم هناك.
وفي اليوم الثالث من الانتفاضة، دعوا لتظاهرة منظمة سلمية أكدوا فيها على عدم استعمال الشتائم، واستخدموا فيها هتاف "كلن يعني كلن" و"تسقط سلطة رأس المال"، فكان "بلطجية" السلطة لهم بالمرصاد من كل حدب وصوب، لا يفرّقون بين نساء ورجال وشباب وأطفال، فانهالوا ضرباً على المعتصمين على مرأى الجيش اللبناني. ونتيجة للضرب المبرح الذي تعرّضوا له، عاد معظم المعتصمين إلى بيوتهم، والبعض الآخر لم يتمكّن من الوصول إلى التظاهرة. لكنّ شباب صور المستقلين والشباب المنتمين إلى قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي أصرّوا على استمرار التظاهرات في شارع "أبو ديب" في قلب المدينة، ولكن تمّ قمعهم بقوة السلاح من قبل ميليشيات السلطة وعلى مرأى الجيش أيضاً ومن دون لا حسيب ولا رقيب. وقد انتشر تسجيلٌ مصوّر للحادثة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تظهر أنّ "البلطجية" والقوى الأمنية، على حدٍّ سواء، في خدمة السلطة. فأتى الردّ سريعاً من قبل الثوار الذين نزلوا مجدّداً إلى الشوارع وتضاعفت أعداد المعتصمين تباعاً. فكان الاعتصام المفتوح في ساحة العلم، حيث أقيمت الحوارات المفتوحة وعلَتْ الهتافات المطلبية وأصوات الأغاني الثورية. كما أُعيد إقفال طريق العباسية ووضعت الخيم على الشارع العام من جديد. وانضمّ إلى ساحات الاعتصام عدد من المنتديات المستقلة والجمعيات النسائية. ولم تغب حقوق المرأة من بين الشعارات المطلبية، التي رفعت في ساحات الاعتصام، ومنها حق المرأة في منح جنسيتها لأولادها.
وكما كان متوّقعاً، سلطة الأمر الواقع لم تستسلم، بل استكملت استخدام أساليب "البلطجة" والتهديد وعمدت إلى الضغط على أرباب العمل وتهديد الموظفين بالفصل في حال المشاركة في التظاهرات الشعبية. وبعض المتظاهرين تمّ طردهم من عملهم بشكل تعسفي. هذا بالإضافة إلى عمد البعض، بالقوّة والترهيب، على إجبار كلّ من شتم سياسيّي السلطة الحاكمة على تسجيل اعتذارٍ مصوّر. كلّ ذلك أدّى إلى انسحاب الكثير من المعتصمين من ساحات الاعتصام للحفاظ على وظائفهم وسلامتهم وسلامة عائلاتهم. ونتيجةً لهذا التهديد، وتجنّباً لأي افتعال للمشاكل من قبل قوى السلطة، فُتِحت الطرقات، وانضمّ ثوار المنطقة إلى ساحة العلم في صور. وقد تعاطفت جميع المناطق اللبنانية، كما اللبنانيون في الخارج، مع منتفضي صور وهتفوا "صور صور صور كرمالك بدنا نثور".
لم ينتفِ الخطر الأمني نهائيّاً عن المعتصمين، فهم معرّضون للاعتداء في أي مكان وزمان. ولا بدّ لنا أن نحيي أبطال مجهولون حملوا أكفانهم على أيديهم، وناموا في خيم الاعتصام للتأكيد على استمرار الانتفاضة من صور إلى كل لبنان. لا يعرفون معنى الاستسلام ويقولون، ليس لدينا ما نخسره، فكلّ ما لدينا هو هذه الانتفاضة الشعبية، لأنها أملنا الوحيد: إما أن تنجح انتفاضتنا أونهجر بلادنا التي نحبّ.
المفارقة هنا أننا لو عُدْنا إلى اليومين الأولين من الاعتصام، عندما شتم المنتفضون زعماء الجنوب بالأسماء وحرقوا الصور وقطعوا الطرقات وجالوا في التظاهرة على السراي في صور والمناطق المناصرة بشدّة لحركة أمل وحزب الله، لم يظهر البلطجيون في حينه، وغاب المناصرون، ولاذوا بصمت عميق. هل كان صمتهم علامة الرضا؟ جاء الهجوم الشرس من قبل البلطجية المسلحة في اليوم الثالث لإعادة إثبات نفوذهم بالقوة، بعد أن تمّ شحنهم وتجميع قواهم من قبل قيادتهم، ليقولوا نحن هنا، ليس فقط لترويع المعتصمين، بل لتخويف المناصرين أوّلاً. هم يعرفون أنّ هناك جمهوراً كبيراً مؤيّداً للانتفاضة الشعبية في مدينة صور، يلتزم بعضهم الصمت، وبعضهم من يدعم بإطلاق "أبواق" سياراتهم عند مرورهم جنب الاعتصام، كإشارة لتأييد معنوي من بعيد.
بين الشيوخ والنساء والشباب، ومن بين الرعب والفرح المتّحدين في قلوبنا، تستمر صور في انتفاضتها المتينة كشجرة النخيل الشامخة فوق رؤوس المعتصمين في ساحة العلم التي تستمر كمساحة للنقاش والفنّ والثقافة، ومنبراً للانتفاضة وللتضحيات في سبيل التغيير.