أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني حنا غريب: النضال ضد العدوان والاحتلال وضد التبعية والاستبداد مهمة واحدة على القوى الثورية والوطنية الاضطلاع بها

لقد دخلت المنطقة ومنها لبنان مرحلة جديدة من المواجهة وفي ظروف أكثر وضوحا وجذرية. نحن لا نعترف الا باتفاق واحد هو اتفاق الهدنة بين لبنان وفلسطين المحتلة العائد الى عام 1949 في الأمم المتحدة. ويرتبط موقفنا من الاتفاق الأخير بالقدر الذي يتطابق فيه هذا الاتفاق مع اتفاق الهدنة أي الانسحاب الإسرائيلي الكامل حتى الحدود الدولية ودون قيد أو شرط . هذا هو مضمون الهدنة بالنسبة لنا وعليها نبني موقفنا في المرحلة المقبلة من الحكم والحكومة بعد ان تم انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس حكومة جديد.

تعيش المنطقة على وقع تحوّلات عميقة عرفت ذروتها في الساحة السورية. كيف تقرؤون هذه التحوّلات سياقا ومآلات؟
انها تحوّلات عميقة فعلا كونها ذات طبيعة تاريخية في تأثيرها على مستقبل المنطقة. وفهم ما يجري من تحوّلات يتطلب فهم دينامية الصراع الدائر على الصعيد الدولي بحكم تبعية رأسمالياتنا المحلية العاملة في خدمة الامبريالية، وهي تبعية تضمن مصالحها الطبقية الخاصة. هذا الواقع يجعل جملة التحوّلات التي يشهدها العالم، بما فيها منطقتنا، ذات طابع شمولي لجهة ما تنطوي عليه من مشاكل متفاقمة في مجال الطاقة والبيئة والمناخ والنزوح والهجرات السكانية القسرية واللجوء والجوع وسوء الغذاء والأوبئة الصحية، والبطالة والمديونية والركود الأقتصادي .... وهذه المشاكل لا يمكن حلّها في ظل النظام الرأسمالي الذي ولّدها مهما بلغت نزعته التوسّعية وعقوباته وحصاره وحروبه التدميرية المتنقلة التي تتركز الآن على روسيا في أوكرانيا وعلى منطقتنا فتعكس جميعها عجزه عن التحكم بإدارة تناقضات رأسماليته، وتدفع الشعوب المضطهدة وبخاصة شعوب منطقتنا العربية القسط الأكبر من تكاليف هذه الازمات.
فحشد أساطيل الناتو في المتوسط والخليج وتمويل المجموعات المتطرفة وتسليحها ونشر القواعد وإعادة الإحتلال العسكري المباشر هو نتيجة فشل خطط الإمبريالية في إعادة هيكلة الأنظمة السياسية التابعة لها وكذلك فشل كيانها الصهيوني في القيام بوظيفته بحماية مصالحها كقاعدة عسكرية متقدمة لسيطرتها الجيو – سياسية على المنطقة ونهب ثرواتها، بالاضافة الى الضغط على روسيا لأخراجها نهائيا من سوريا وضرب مسار أستانا - وقد تحقق - ومعه الاتفاق (الإيراني – السعودي – الصيني ) وبيان بكين حول الوحدة الوطنية الفلسطينية، وهذا ما يعزّز شروط المعركة الكبرى ضد الصين لمنع قيام نظام عالمي جديد متعدد المراكز القطبية.
ستة عشر شهرا مضت على حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني وعلى العدوان المستمر على لبنان. صمود اسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته جعلت من القضية الفلسطينية قضية اممية من دون ان تجعل منها قضية العرب المركزية . نزلت شعوب العالم الى الشوارع والساحات وفي كل العواصم بينما كان تحرك شعوبنا العربية ضعيفا، وهذه مسألة يجب التوقف عندها ودراسة أسبابها. فليس مقبولا ان لا يجد الشعب الفلسطيني لا ملكا ولا رئيسا ولا نظاما عربيا واحدا يستجيب لنداءات الاستغاثة لأطفال غزة ويتخذ موقفا يوقف المذبحة؟ ان الملحمة البطولية التي سجلها الشعب الفلسطيني ستبقى محط فخر واعتزاز على مدى التاريخ، وسيبقى بالمقابل الخزي العار يلاحق حكام التطبيع والخيانة الشركاء في هذه الجريمة وفي قمع شعوبهم وافقارها وتهديدها وملاحقة قواها التحررية الوطنية واليسارية التي تحركت تضامنا مع الشعب الفلسطيني.
أما لبنان فكان في قلب المعركة منتصرا لفلسطين رغم تبعات الانهيار الاقتصادي والخراب والشلل الذي أوقعته بها سلطة الفساد ومحاصصاتها الطائفية، ورغم معارضة قوى اليمين اللبناني. شعبه ومقاوموه انخرطوا في المعركة دعما للشعب الفلسطيني ومقاومته وسطّروا بوحدتهم الوطنية أروع الملاحم في الدفاع عن لبنان وجنوبه في مواجهة العدو الصهيوني ورعاته من الاطلسيين وداعميهم. وبفضل هذا الصمود الوطني ودماء الشهداء : مقاومين ، عسكريين، اعلاميين، عاملين في الجسم الطبي، متطوعين في الدفاع المدني ومدنيين استشهدوا مع أخوانهم النازحين في مختلف المناطق اللبنانية، وفرضوا وقف الهجمات البربرية للعدو الذي اعتمد سياسة الأرض المحروقة بالتدمير الممهنج والقتل والتهجير. لكن اتفاق وقف اطلاق النار الذي أعلن مؤخّرا تجاوز القرار 1701، علما ان حزبنا اعترض عليه حينها وازداد اعتراضنا عليه الآن من خلال التعديلات التي أعطيت للعدو بحرية التحرك والاعتداء على لبنان ساعة يشاء وسط خروقات مستمرة برا وبحرا وجوا وفوق العاصمة بيروت، وكذلك في تشكيل لجنة "المراقبة والتنفيذ" وترئيس الولايات المتحدة لها وهي الشريكة المشرفة على العدوان ، بالإضافة الى كون الاتفاق لم يتضمن وجوب الالتزام بالانسحاب "الإسرائيلي" الى الحدود الدولية وفق اتفاق الهدنة الموقّع عام 1949.
ولا بد من الاعتراف انه بنتيجة هذه المواجهة البطولية في فلسطين ولبنان المترافقة مع سقوط نظام الأسد من دون مقاومة، قد أحدثت تحولات عميقة على صعيد المنطقة لصالح المشروع الأمبريالي – الصهيوني – الرجعي العربي وضمنا المشروع التركي. ومن موقع الحزب الحريص والمتابع والمعني بالمقاومة منذ تأسيسها – من حيث هي تحرير الأرض من الاحتلال وتحرير الانسان من الاستغلال والأفقار ومن نظام المحاصصة الطائفية - لم نتفاجأ بهذه هذه الخسائر والتضحيات التي وقعت في مختلف المجالات. علما ان الكيان الصهيوني دفع أيضا ثمنا سياسيا لجرائمه المرتكبة بحق الإنسانية وامام شعوب العالم ككيان عنصري فاشي. ومن الطبيعي ان تنعكس هذه التحولات السلبية الخطيرة على شعبنا وعلى كل قوى حركة التحرر الوطني العربية وشعوب المنطقة،
ماهي تبعات الوضع السوري الجديد على لبنان سياسيا وأمنيا، وماهي انعكاساته على فعل المقاومة ؟
ان بلورة وتنفيذ حلول سياسية داخلية للمشكلات السورية يستوجبان العمل في اتجاه بناء دولة وطنية ديمقراطية عادلة لجميع أبنائها على اختلاف انتماءاتهم، وبناء الاقتصاد وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين إلى منازلهم، وهذا ما ينعكس إيجابا على لبنان، فنحن دعاة بناء أفضل العلاقات الندية والأخوية القائمة على التعاون والتكامل بين بلدينا والاحترام المتبادل بما يضمن مصلحة الشعبين اللبناني والسوري . فسوريا بالنسبة للبنان هي بوابته الى الدول العربية ونحن نتمسك بوحدتها ارضا وشعبا مؤكدين على أهمية تحقيق الحل السياسي بمشاركة جميع القوى السياسية في الحوار السوري – السوري الذي يؤمن الحقوق السياسية والإقتصادية والثقافية الكاملة للشعب السوري بمكوناته كافة، ضمن دولة ديمقراطية موحدة يختارها الشعب السوري. مثل هذا المسار من شأنه ان يبدد المخاوف من احتمال تجدد من أشكال أخرى من الصراعات والاقتتال أو من تغوّل قوى التطرّف الى الداخل اللبناني. وأولى هذه المخاطر تتجسّد بأطماع العدو الصهيوني مع استمرار توسيع رقعة سيطرته في محيط الجولان والغاء اتفاقية وقف اطلاق النار الموقّعة منذ عام 1974، وتوغله في الجنوب السوري ( محافظة القنيطرة) وتوسع احتلاله لجبل الشيخ وتمركزه في اعلى قمة ( قمة حرمون) . من هنا على الحكومة اللبنانية التحرك لمعالجة مخاطر هذه التداعيات وتأمين الظروف المناسبة لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم بعد زوال الهاجس الأمني. كما تأمين الحدود الشمالية والشرقية ومتابعة ملف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية مجددين وقوفنا إلى جانب قوى اليسار والتقدّم والديمقراطية في سوريا في نضالها لتحقيق الحرية الكاملة للشعب السوري وتحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة إعمار البلاد وعودة المهجرين إليها، وتعزيز الوحدة الوطنية واستعادة السيادة على كامل التراب الوطني السوري. والتمسك بخيار المقاومة لن يستعصي عليه إيجاد الطرق والأساليب المتنوعة السياسية والعسكرية في حال إستمرار الاحتلال الصهيوني، هذا مع وجوب ان تتحمل الدولة مسؤولياتها بالقيام بواجباتها بحماية سيادة لبنان وثرواته الغازية والمائية.
سقوط نظام الأسد تم في سياق دولي يتسم بتصاعد الصراع بين قوى الهيمنة التقليدية وقوى صاعدة متحالفة مع النظام المخلوع. هل يعني هذا استفراد امريكا وحلفائها بالمنطقة ام ان الصراع سيستمر ويتواصل؟
صحيح القول ان سقوط نظام الأسد تم في سياق دولي يتسم بتصاعد الصراع بين قوى الهيمنة الأمبريالية وقوى متحالفة مع النظام المخلوع. لكنّ سقوط النظام بهذه السرعة ومن دون مقاومة يعود لأسباب داخلية بالأساس . سقط نظام الأسد بعد ان فقد قاعدته الشعبية فلم يجد من يدافع عنه ويتمسك به . رحل بشار الأسد بعد ان سقط نظامه في القضية الوطنية والاقتصادية والاجتماعية وفي قضية الحريات الديمقراطية العامة، تخلى عن الجولان ولم يقاوم الاحتلال ولم يرد على الاعتداءات الصهيونية المتكررة، ما أضعف سوريا وأنهكها وخلق الأرضية الملائمة لبيئة التطرّف في ظل الأطماع والمشاريع الامبريالية والصهيونية المترافقة معها. فبعد عقود من الحكم الذي غلب عليه الطابع الأمني وسيطرة قوى الفساد المتجذّرة داخل جهاز الدولة وبخاصة في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وبعد التغيرات الإجتماعية والإقتصادية التي عصفت بالمجتمع السوري إثر الإنفتاح الإقتصادي في أوائل الألفية وإرتفاع نسب الفقر والهجرة خصوصا من الأرياف والى ضواحي المدن، إنفجرت الإنتفاضة الشعبية السورية كنتيجة حتميّة لسياسات الإستبداد والقمع والفقر والإستغلال، ما شرّع الأبواب، لتحويل الانتفاضة الشعبية الى حرب أهلية مفتوحة على التدخلات الخارجية التي أودت بحياة مئات الآلاف وهجّرت الملايين وشهدت أبشع أنواع الجرائم التي قامت بها معظم أطراف الصراع الدموي، على ضفتي الصراع، وعلى رأسها الجماعات التكفيرية والإرهابية المتطرّفة التي تفنّنت في صنوف القتل والتعذيب والاضطهاد، فضلا عن نظام القمع والاستبداد. وكان سقوط النظام واقعا قبل أن يأتي دخول إيران وحلفائها، ومن ثم الدخول الروسي بشكل أساسي، ولكن وسط المراوحة السياسية السائدة وتعنت نظام الأسد في الاستجابة لمساعي روسيا بالدخول في مفاوضات الحلول السياسيّة، تمكنت الولايات المتحدة من زيادة ضغوطاتها وفرض عقوبات قاسية على سوريا من خلال قانون قيصر، وعملت على إطالة أمد الحرب والإقتتال الداخلي ليبقى موضوع التسوية السورية معلّقاً الى حين سقوط النظام تحت وطأة اختلال موازين القوى الناجم عن الانسحاب العسكري للقوى التي أنقذت النظام من السقوط، وذلك من جراء حرب الناتو على روسيا في أوكرانيا والعدوان الصهيوني على غزة ولبنان وايران. وهذا الأمر مكّن تركيا ومن خلفها الولايات المتّحدة، وبالاعتماد على هيئة تحرير الشام والمجموعات الأخرى، من تغيير النظام واستلام السلطة، مع ترجيح ان يستمرّ الصراع اذا لم يتم التوصل الى حلّ سياسي في سوريا. فالعدو الإسرائيلي وتركيا والولايات المتحدة يريدون نهب ثروات سوريا واقتطاع ما أمكنهم من أراضيها بحجة انشاء مناطق آمنة لهم وللمجموعات التي يدعون حمايتها. وهذا ما يستوجب التنسيق والتكامل والوحدة بين مختلف أطياف القوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية والتقدمية والشيوعية في سوريا، لتشكيل قطب سياسي وازن لمواجهة مشروع تقسيم سوريا ووضع قضية تحرير الجولان من الاحتلال الاسرائيلي واستعادة السيادة عليه في رأس أولويات القضية الوطنية والمساهمة في إعادة تشكيل ورسم المستقبل السياسي للبلاد بعيداً عن نظم المحاصصة الطائفية ومشاريع النفوذ والهيمنة الخارجية على القرار الوطني
-كيف تقدّرون مسار القضية الفلسطينية على ضوء الاوضاع المستجدة في المنطقة؟
لم يعدم العدو الصهيوني على مدى 75 عاما وسيلة من الوسائل العسكرية والأمنية والسياسية الا واستخدمها لتصفية القضية الفلسطينية، وهو لا يزال مستمرا لتحقيق هدفه. انقلب على الاتفاقيات وما فيها من تنازلات مستبعدا كل أشكال الحلّ السياسي، ورفض حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة الضامنة لحقوقه المشروعة. واستمر في توسيع الاستيطان في الضفة والقدس، وراهن على تخلي العالم عن القضية الفلسطينية وعلى مواصلة توسّع التطبيع وصولا الى المملكة العربية السعودية، واستخدم أحدث الأسلحة التكنولوجية في قمع الانتفاضات الشعبية والاعتقال والقتل والحصار، وبتغطية أميركية دعما سياسيا وتسليحا لا فرق بين رئيس جمهوري او ديمقراطي، إذ كلاهما قام "بالواجب" من ترامب الى بايدن وما قبلهما، من خلال مسار "تصفوي" من "صفقة القرن" الى توطين اللاجئين في دول اللجوء، الى نقل السفارات إلى القدس و"تكريس" القدس كعاصمة دولة " إسرائيل " الى خفض مساهمة الإدارة الأميركية في تمويل وكالة " الاونروا " وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، الى إقرار قانون يهودية الدولة وإستمرار تهويد القدس وإطلاق العنان للمستوطنين وتسليحهم وضم الجولان وتوسيع الاستيطان تمهيدا لضم الضفة الغربية، الى تضييق الحصار على غزة وفتح قنوات التطبيع العلني في ظلّ حصار بري وبحري وجوي على القطاع لا زال مستمرا منذ عام ٢٠٠٥ وصولا الى حرب الإبادة الجماعية المتواصلة منذ16 شهرا على غزة و"إعلان القدس" مع بايدن أن "حل الدولتين" لم يحن أوانه بعد مرور 75 سنة ...... وصولا الى خارطة الشرق الاوسط الجديد، التي رفعها نتانياهو في الأمم المتحدة في 22 أيلول 2023 لاغيا وجود فلسطين عليها. .
هذا المسار التصفوي مستمر ومقاومته مستمرة أيضا بالمقابل من قبل الشعب الفلسطيني ومقاومته وبمختلف اشكالها السياسية والشعبية والعسكرية في غزة والضفة والقدس واراضي ال48 وفي المخيمات ودول الشتات في العالم وفي حركة مقاطعة إسرائيل". مقاومة مستمرة عبر الانتفاضات الشعبية المتلاحقة وانتفاضات الاسرى وأهالي حي الشيخ جراح في القدس، وتصديهم لمحاولة تهجيرهم، ومن ثمّ إنخراط الفصائل الفلسطينية في المواجهة من قطاع غزة، ومن بعدها في الإنتفاضة الشعبية التي واجهت الإحتلال داخل أراضي 48 وفي الضفة الغربية، فضلا عن العمليات البطولية للمقاومة ضد الاحتلال وظاهرة العمليات الفردية للشباب الفلسطيني وتصديهم لقطعان المستوطنين وضم الأراضي ولتوغل قوات الاحتلال الى داخل المخيمات في مدن الضفة الغربية وفي استباحة دور العبادة في القدس . مسار مستمر في المقاومة يشهد على ذلك عملية 7 أكتوبر في غزة التي شكلت ذروة الملاحم البطولية للشعب الفلسطيني ولصموده الأسطوري بوجه الحصار والتدمير وحرب الإبادة الجماعية. وما كان لهذا الصمود ليستمر لو لم يصل الشعب الفلسطيني الى قناعة راسخة ان لا خيار أمامه الا المقاومة، دفاعا عن وجوده وحقوقه المشروعة مقدما مئات الألا ف من الشهداء والجرحى في ظل اختلال موازين القوى لصالح العدو الصهيوني المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأطلسيين ودول التطبيع العربي وأنظمة الأستبداد. أثبت الشعب الفلسطيني ان قضيته لا يمكن تهميشها وعزلها بعد أن عادت وفرضت نفسها قضية أولى في العالم. وعلى الرغم من تصاعد الهجوم الصهيوني- الأميركي على القضية الفلسطينية ، إلا أنّ ذلك لم يؤد، للأسف، إلى تحقيق المصالحة الداخلية المنشودة بين حركتي فتح وحماس وباقي فصائل منظمة التحرير والمقاومة الفلسطينية. وفي هذا السياق، جرت محاولات حثيثة في السنوات الماضية كان آخرها بيان بكين، لكنها كسابقاتها بقيت وعوداً وإستمرت السلطة الفلسطينية في إلتزاماتها المبرمة مع سلطة الإحتلال الإسرائيلي، بموجب إتفاق أوسلو وإستمرّ التنسيق الأمني في الضفة الغربية. يعتبر حزبنا في هذا المجال أنّ تحقيق الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب الفلسطيني من شأنه أن يقطع الطريق أمام الكيان الصهيوني للمضي قدماً في تحقيق مشروعه وبلورة برنامج وطني شامل تشكّل المقاومة ركيزته الأساسية، عسكريا وسياسيا وشعبيا. وبالرغم من حصول الصفقة الثانية للأفراج عن الأسرى بين الكيان الصهيوني والمقاومة، فان المعركة ستبقى مستمرة والعدوان مرشّح أن يتضاغف مع استلام ترامب، لا سيما أن الأخير أعلن ان مساحة " إسرائيل صغيرة" وهو ضد حتى مشروع الدولتين. ويستحيل ان تتقبل المقاومة بقاء الاحتلال وتستسلم، وبالتالي سيبقى الوضع في المنطقة متفجرا طالما لم يحقق الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة كاملة بعد كل ما قدمه من تضحيات أثبتت انه يستحق نيلها، ومقاومته في غزة مستمرة وفي الضفة والقدس. لقد باع نتنياهو موضوع توقيع الاتفاق مع لبنان وموضوع ترتيب الصفقة مع المقاومة الفلسطينية، فماذا سيقبض بالمقابل؟ التطبيع مع السعودية؟ ضم الضفة ؟ ....؟ سيعاود نتنياهو الحرب كما يعلن حفاظا على حكومته من الانهيار وظنا منه ان المقاومة الفلسطينية ، أصبحت ضعيفة بعد اتفاق وقف اطلاق النار على الجبهة اللبنانية وسقوط النظام في سوريا وانسحاب ايران وتراجع فعالية الجبهة العراقية واليمنية. ورغم كل هذه المستجدات تبقى القضية الفلسطينية القضية المركزية والجامعة لنضال شعوبنا العربية وقوى التحرر والتقدم في العالم، وصولا الى إقامة الدولة الوطنية على كامل التراب الفلسطيني، وعاصمتها القدس وحق العودة لجميع اللاجئين. ومقابل ما جرى من تطبيع عربي مع العدو الصهيوني حتى تاريخه، يجري ترتيب تطبيع من نوع آخر بين ايران والسعودية ودول الخليج، مع الاشارة الى أن هذه الأخيرة تقيم علاقات مع الصين ومع روسيا كما يقوم تعاون استراتيجي بين روسيا وايران. و لطالما إعتبر حزبنا أن الكيان الصهيوني ما هو إلاّ قاعدة متقدمة للإمبريالية في المنطقة، لا بل أنه ذراعها التنفيذي، وبالتالي فإن النضال ضدّ هذا الكيان هو نضال ضدّ الإمبريالية بشكل أساسي. وقد عبّر حزبنا دوماً عن عمق أهمية إستعادة محورية النضال الفلسطيني، وهو إذ يعتبر نفسه جزءاً من اليسار العربي، يعلن أنه وبالتعاون مع كافة الأحزاب والقوى اليسارية العربية، سيناضل من أجل إستعادة وهج هذ القضية كونها القضية المركزية والجامعة لنضال شعوبنا العربية وقوى التحرر والتقدم في العالم، وهذا ما يستدعي إستعادة اليسار الفلسطيني لدوره التاريخي كرافعة للقضية الفلسطينية. كما وأنّ حزبنا معني بدعم الفلسطينيين من أجل إستعادة حقوقهم في إطار دولة وطنية مستقلة عاصمتها القدس، وحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين من الأراضي التي تهجروا منها عام ١٩٤٨، وهذا ما يتطلب إطلاق برنامج وطني شامل للمواجهة والانسحاب من كافة أشكال التعاون والتنسيق الأمني المبرمة في اتفاقية أوسلو. ويرى حزبنا أنّ تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية وإصلاح مؤسساتها وتحديث النظام السياسي الفلسطيني، تشكّل حلقات أساسية في بناء مشروع وطني شامل للمواجهة. فقوى المجتمع الفلسطيني مدعوّة لتفعيل كل إمكانات وطاقات المواجهة سواء تلك الموجودة لدى الشعب الفلسطيني أو لدى الشعوب العربية الأخرى، وهذا ما يشكّل الحجر الأساس لمواجهة الصهيونية ومشاريعها التوسعية في فلسطين والعالم العربيّ
تمكن لبنان أخيرا من تكليف قائد الجيش برئاسة البلاد التي تعيش على وقع اتفاق الهدنة بين المقاومة والكيان الصهيوني التي تنتهي في 26 جانفي. هل من علاقة بين الاستحقاقين؟
لقد دخلت المنطقة ومنها لبنان مرحلة جديدة من المواجهة وفي ظروف أكثر وضوحا وجذرية. نحن لا نعترف الا باتفاق واحد هو اتفاق الهدنة بين لبنان وفلسطين المحتلة العائد الى عام 1949 في الأمم المتحدة. ويرتبط موقفنا من الاتفاق الأخير بالقدر الذي يتطابق فيه هذا الاتفاق مع اتفاق الهدنة أي الانسحاب الإسرائيلي الكامل حتى الحدود الدولية ودون قيد أو شرط . هذا هو مضمون الهدنة بالنسبة لنا وعليها نبني موقفنا في المرحلة المقبلة من الحكم والحكومة بعد ان تم انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس حكومة جديد. والجميع شاهد على امعان قوات الاحتلال الصهيوني ليل نهار بأعمالها العدائية في التوغل وتدمير قرى الجنوب والقصف والقتل وترويع الأهالي من دون رادع ممن وافقوا وأقروا اتفاق " وقف الأعمال العدائية"، وقاموا بترئيس الأميركي لما سمّوه لجنة "المراقبة والتنفيذ" التي ليست سوى لجنة للاشراف على متابعة العدوان من جانب واحد. وفي هذا المجال شدد الحزب عشية اجراء الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة على الدعوة كي تكون التشكيلة الحكومية من خارج منظومة السلطة التي أوصلت لبنان الى الخراب وبعيدة كل البعد عن نظام المحاصصة الطائفية مع إعطاء الحكومة صلاحيات استثنائية لتتمكن من اتخاذ القرارات الكفيلة بتنفيذ ما ورد من تعهدات إيجابية في خطاب القسم وفي مقدمها:
مقاومة الاحتلال الصهيوني بكل الوسائل لفرض انسحابه الكامل دون قيد او شرط حتى الحدود الدولية وفق اتفاق الهدنة؛ إعادة الاعمار لكل ما تهدم وبأسرع وقت ممكن من أجل إعادة أهلنا النازحين الى قراهم في الجنوب والضاحية الجنوبية من بيروت والبقاع والمناطق اللبنانية التي طالها العدوان الصهيوني، مع تقديم التعويضات الكافية عما لحق بهم من خسائر وما دفعوه من تضحيات ودماء غالية وبما يحفظ كرامتهم وعزتهم وتعزيز صمودهم؛ إقرار رزمة من القوانين الاشتراعية في الإصلاح السياسي لا سيما القوانين الانتخابية البلدية والنيابية على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي والدائرة الواحدة او الموسّعة؛ إقرار القوانين الرامية الى بناء الاقتصاد المنتج عبر تغيير السياسات الاقتصادية – الاجتماعية وتأمين حقوق الطبقة العاملة والمتوسطة والفئات الشعبية وأصحاب الودائع الصغيرة وتصحيح الرواتب والأجور ومعاشات التقاعد وتعويضات الصناديق الضامنة ووقف نزيف هجرة الكوادر والكفاءات الشابة وتعزيز دور القطاع العام في الصحّة والتعليم الرسمي والجامعة اللبنانية والإدارة العامة ومؤسساتها. وفي هذا السياق، نؤكد ان انتخاب رئيس جمهورية للبنان وتكليف رئيس جديد للحكومة ليس سوى خطوة أولى لا يمكن أن تحقق أهدافها دون رؤية سياسية وطنية واضحة تترجم الى أفعال ملموسة بعيداً عن أي مساومات أو تدخلات وضغوط خارجية، وتعطي الأولوية لمصلحة وطننا وشعبنا، وتحدث خرقا في النظام السياسي بدل إعادة إنتاجه من جديد.
- ماهو دور القوى الثورية في المنطقة في ظل التعقيدات الحاصلة وماهي رسالتكم الى هذه القوى؟ المعركة أصبحت واضحة وهي تتطلّب بالضرورة استخلاص الدروس والعبر. فوحدها المراجعة وتقييم التجربة وتحديد الاسباب ومكامن القصور الفكري والسياسي واستخلاص استنتاجات وخلاصات شفافة وسليمة، هو الكفيل باعادة استنهاض الوضع على أسس صحيحة، وهذا مطلوب من الجميع وبخاصة ممن تولوا قيادة المعركة . فالمعركة لم تنته بعد، والعدو سيضاعف من عدوانه مع مجيء ترامب واستلامه السلطة في الولايات المتحدة الأميركية من اجل تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الهادف لتصفية القضية الفلسطينية وتقسيم المنطقة الى دويلات متصارعة تنفيذا لمشروع "إسرائيل الكبرى ". والخلاصة الأولى مما ورد انه لو كان للأنظمة العربية موقف حازم بدعم الشعب الفلسطيني لتوقف العدوان الصهيوني بدقيقة واحدة، فلماذا لم يحصل ذلك ؟ السبب واضح هو ان البرجوازيات العربية الحاكمة، بتبعيتها الكاملة للامبريالية وسياسة التطبيع التي اتبعتها وبإفقارها لشعوبها وقمعها ومساوماتها مع العدو، وصلت الى حدّ خيانة القضية القومية بغية حماية مصالحها الطبقية. والخلاصة الثانية هي ان الفشل الذي أوصلنا اليه فصل مهمات التحرر القومي عن مهمات التحرر الاجتماعي بحجة ان المطلوب هو البدء بالتحرر القومي أولا كون التحرر الاجتماعي يأتي تلقائيا في مرحلة ثانية، مما يفرض على الأحزاب الشيوعية واليسارية اما الالتحاق أو الانتظار ليأتي دورها لاحقا. وهكذا تمت عمليا شرزمة وتقسيم قوى حركة التحرر الوطني واضعافها طوال مسيرة النضال الممتدّة على مدى عقود، فكانت النتيجة استمرار أزمة حركة التحرر الوطني العربية متجسّدة في أزمة قيادتها البرجوازية. فلم تتحرر شعوبنا لا قوميا ولا اجتماعيا وبقي الشعب الفلسطيني الوحيد بين شعوب العالم تحت الاحتلال حيث تواجه قضيته اليوم خطر التصفية. ومع هذا الخطر تتعرض منطقتنا لمختلف اشكال وأنواع خرائط التقسيم التي تروّجها مراكز النفوذ وقوى الاحتلال الإقليمية والدولية. الخلاصة الثالثة هي وجوب التعامل مع قضيتي التحرير والتغيير بصفتهما قضية واحدة لا تتجزأ، أي عدم الفصل بين التحرر القومي والتحرر الإجتماعي، وبالتالي وجوب التحرر من الهيمنة الامبريالية ومن برجوازياتها المحلية في آن معا. وهو ما حاول حزبنا ترجمته لدى اطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية عام 1982 والتي حرّرت ثلثي الأراضي اللبنانية من الاحتلال الصهيوني ثم جرى الالتفاف عليها ومحاصرتها وضربها داخليا وإقليميا في أواخر الثمانينيات . الخلاصة الرابعة هي حل أزمة قيادة حركة التحرر الوطني العربية بالعمل على قيام حركة تحرر وطني جديدة ببرنامجها وقيادتها ضمن إطار تحالف طبقي شعبي يكون قادرا من موقع ندّي على بناء تحالفات مع قوى عالمية وإقليمية. إن حركة تحرّر بهذه المواصفات يجب أن تستولد من رحم مقاومة عربية شاملة تتوحّد فيها طاقات القوى اليسارية والتقدمية حول أولويتين متلازمتين ومتكاملتين: أولوية المقاومة بكل الوسائل بما فيها خصوصا المقاومة المسلّحة ضد العدوان الصهيوني والاحتلال الأجنبي، وأولوية مواجهة نظم التبعية والقمع والإستبداد السياسي والإجتماعي التي شكّلت تاريخياً المرتكز الداخلي الفعلي لهذا العدوان. الخلاصة الخامسة على المستوى الوطني تتمثّل في النضال من اجل بناء الدولة العلمانية دولة المواطنة الديمقراطية، دولة العدالة الاجتماعية، دولة المقاومة الوطنية الشاملة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا عبر جيشها الذي عليها تسليحه. وفي انتظار قيام دولة بهذه المواصفات، تبقى مقاومة الاحتلال حقا مشروعا لكل مواطن أو حزب يرغب في الانخراط في هّذه المقاومة.

*أجريت هذه المقابلة في 20/1/2025، وتنشر بالتزامن مع جريدة "صوت الشعب" التونسية.