سقوط الانقلاب الأردوغاني

ليست اسطنبول كباقي المدن التركية. فبالإضافة إلى أنها العاصمة الاقتصادية لتركيا، هي المدينة التي انطلق منها أردوغان وحزبه للسيطرة على المشهد السياسي لتركيا في السنوات العشرين الماضية. ولطالما اعتبر أردوغان أنّ من يربح اسطنبول، يربح تركيا. لذا لم تكن الانتخابات البلدية تفصيلاً عاديّاً يمكن أن يستسلم له بسهولة حزب العدالة والتنمية الحاكم.

على الرّغم من أنّ مرشّح المعارضة فاز في انتخابات آذار الماضي، إلّا أن حزب أردوغان انقلب على الانتخابات بشكلٍ كاريكاتوري، حيث أقرّت اللجنة العليا للانتخابات بضغطٍ مباشر من الرئيس أردوغان وحزبه إعادة انتخابات رئاسة بلدية اسطنبول حصراً، دون إعادة انتخابات المخاتير وباقي أعضاء المجلس البلدي، وكأن التزوير الذي ادّعى حزب العدالة والتنمية أنه حصل، لم يشمل كل عملية الاقتراع بل فقط الموقع الذي خسر فيه الحزب الحاكم. مع العلم أنّ الاقتراع يجري في ظرفٍ واحد وليس منفصلاً.
وبالرغم من ذلك، أتت نتائج الانتخابات المُعادة كارثية بالنسبة لأردوغان وحزبه، فمرشّح المعارضة أكرم إمام أوغلو حصل على ما نسبته ٥٤٪ من الأصوات، مقابل ٤٥٪ لمرشّح العدالة والتنمية رئيس الوزراء السابق والرجل الثاني بعد أردوغان بن علي يلدريم. فبعد أن كان قد فاز أوغلو بفارقٍ بسيط لا يتجاوز الـ ١٦ ألف صوت في انتخابات آذار، عاد وأكّد فوزه بفارقٍ كبير جدّاً لامس الـ ٨٠٠ ألف صوت في انتخابات الإعادة.
هذه النتيجة الكبيرة تضع مستقبلَ حزب العدالة والتنمية كحاكمٍ لتركيا على المحك. خاصة وإن استمرت التحالفات التي حصلت في هذه الانتخابات، حيث يبدو أنّ المعارضة التركية تعلّمت من تجاربها السابقة، وعلمت أنه لا مجال لهزيمة العدالة والتنمية وحلفائه إلّا من خلال توحّد المعارضة. وهذا فعلاً ما حصل في اسطنبول، فقد انسحب مرشح حزب الشعوب الديمقراطي المقرّب من الأكراد لمصلحة أوغلو، وانتخب مناصروه أوغلو بكثافة، على الرّغم من محاولات أردوغان الحثيثة لاستمالة الأكراد، مستخدماً كل الوسائل ومنها ما كان يعتبر خطوطاً حمراء، مثل استقبال شفيق عبدالله أوجلان على التلفزيون الرسمي التركي.
يبدو أنّ أردوغان بدأ يدفع ثمن تهوّره السياسي. فالكثير من الأتراك لا يوافقون على سياسته الخارجية، المتمثّلة بطموحه بأن يكون "سلطاناً" عثمانيّاً جديداً، هذا الطموح الذي دفعه للتآمر على سوريا، وكذلك مواقفه المتشنّجة في الكثير من القضايا في العالم العربي والإقليم. بالإضافة إلى هذا المعطى، فإنّ النموذج الاقتصادي الذي كرسه أردوغان في تركيا، بدأ يظهر بشكلٍ واضح أنه منحازٌ إلى قلة قليلة من رجال الأعمال المقربين من حزب العدالة والتنمية، كما أنّ هذا النموذج قد أثبت هشاشته أمام الأزمات، وخاصة الانهيارات المتتالية للّيرة التركية في السنتين الأخيرتين. أما المعطى الأهم، فهو الخلافات التي تعصف بحزب العدالة والتنمية، ومن المتوقّع أن تكبر أكثر وأكثر بعد هزيمة اسطنبول، فأردوغان أطاح بكل رموز حزبه كي يصبح الرجل الأول والأخير في الحزب، وهذا جزء من جنون العظمة الذي أصيب به أردوغان وخاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام ٢٠١٦.
ولا شكّ أنّ حزب العدالة والتنمية لا يزال يحظى بتأييدٍ كبير في تركيا، إلّا أنّ خسارة الحزب لمراكز الخدمات المباشرة، والبلديات الكبرى في البلاد، يحرمه من أهم وسيلة سيطرة كان يملكها، والتي تعتبر أداة سيطرة الإخوان المسلمين على الطبقات الفقيرة والمهمشة، ونعني بذلك تقديم المساعدات والإعانات، أي جعل هذه الفئات مرتبطة بالحزب من خلال الدين أوّلاً، والمساعدات الاجتماعية ثانياً. واليوم، خسر حزب العدالة والتنمية الأداة الثانية، ويبقى بيده فقط الموضوع الديني، ومن المؤكد أنّ أي انشقاق داخل العدالة والتنمية سيضعف هذه الأداة أيضاً.
أخيراً، لقد مارس أردوغان وحزبه منذ الانقلاب الفاشل عام ٢٠١٦، كل أنواع القمع والإرهاب داخل وخارج تركيا، حتى وصل به الأمر إلى القيام بانقلاب على نتائج اسطنبول، إلّا أنه يبدو أنّ زمن الانقلابات في تركيا قد ولّى ومسيرة التغيير قد بدأت بتحالفٍ يشمل كل مكوّنات تركيا، وذلك سيساهم حتماً في إقامة نظام يتعاطى بمنطق التعاون والفوز المشترك مع محيطه وخاصة العربي ليسقط إلى غير رجعة منطق الهيمنة والسيطرة العثمانية المغلّفة بغلافٍ ديني.

 

  • العدد رقم: 360
`


النداء