انتخابات الرئاسة الجزائرية والانتفاضة الشعبية

تبدو خيارات الحراك الجزائري قليلة أمام نتائج الانتخابات الرئاسية التي أفرزت رئيساً يعتبر الابن البار لنظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وقف الرئيس الجديد عبد المجيد تبون وأشاد بالمظاهرات المناوئة للحكومة وتعهّد فور انتخابه بالعمل على توحيد صفوف الجزائريين وصياغة دستور جديد للبلاد يعتمد على تمكين الشباب من السلطة. إلّا أنّ عشرات الآلاف من المحتجّين نزلوا بقوة إلى الشارع مطالبين بعدم عودة كافة رموز نظام الرئيس السابق عبد العزيز بو تفليقة ما يعني اعتبار الرئيس من هذه الرموز.

اتّسمت العملية الانتخاية في الجزائر، التي تشهد شوارعها حراكاً معارضاً للسياسات الحاكمة منذ ما بعد سنوات الظلام الإرهابي، بعدم الإقبال الكثيف ومعارضة واسعة رفضت نتائج هذه الانتخابات واعتبرتها مزوّرة ولا تمثّل الشارع الجزائري المنتفض.
وتتّخذ انتخابات الجزائر أهمية خاصة لا تتجذّر من كونها بلاد المليون شهيد وقبلة الثوار العرب ضدّ الاحتلال والاستعمار، بل لكون تاريخها الجمهوري منذ استقلالها تخبّطَ ومرَّ بمخاضات عسيرة كادت تطيح بالشكل العصري والديمقراطي للدولة.
وقد أمعنت جبهة التحرير الوطني الجزائري في ما يُسمّى تحصين ثورتها ولاحقاً سلطتها، حتّى أضحت نسخة عن نظيراتها الأنظمة القمعية في البلاد العربية وفي شمال إفريقيا تحديداً حيث جارتها مصر، بلاد المئة مليون مواطن، يقودها نظامٌ ديكتاتوري قمعي على رأسه قائد واحد ومن ورائه جيش يحكم بقبضة من حديد.

لعلّ تململ الشعب الجزائري الحر وانتفاضته على الطريقة القمعية والبيروقراطية لسير مؤسسات الحكم التي أرستها جبهة التحرير الوطني الجزائري وأنتجت تحكّمَ طبقة من الكمبرادور بثروات ومصادر دخل البلاد وخلقت هوّة بين الريف والمدينة بسبب المركزية الشديدة في أسلوب عمل الحكومات والتطبيقات القانونية لعمل الوزارات والإدارات العامة. وقد ساهم هذا التململ وانعدام العدالة في توزيع الثروات والهوّة الكبيرة في مصادر الدخل في انفجار الوضع الأمني في أواخر التسعينيّات، ممّا أدخل البلاد في نفقٍ مظلمٍ كان نتيجته رعبٌ يوميّ للأبرياء ومواجهة بين سلطة قمعية لكن بوجه مدني وبين فصائل الجبهة الإسلامية للإنقاذ بمختلف أطيافها واتخاذها مبدأ الاسلام الجهادي والذي أنتج بدوره تمرّداً مسلّحاً وإرهاباً متنقلاً بين جميع محافظات البلاد على اتّساعها.

تصرّفت جبهة التحرير التي تسلّم أفرادها الحكم والإدارات العامة منذ استقلال البلاد حتى اليوم على طريقة المحتل في إدارة شؤون بلاده فاعتمدت تطبيق القوانين الوضعية الفرنسية التي جنحت في كثير من الأحيان إلى تجاهل القيم المجتمعية والدينية تحديداً للشعب الجزائري الذي يدين بالاسلام، في حين أنّ الشعب بأكثريته وخصوصاً الأجيال التي تلت التحرير ولم تغادر الجزائر وكبرت بمعظمها في الريف والأطراف حيث تقصير الدولة وخدماتها فاضحٌ وغياب الثقافة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة جنح بالفئات المهمشة إلى الوقوع في براثن الحركات السياسية والجهادية الاسلامية. ليس بنافل القول إنّ تعنّت أهل الحكم وقتها عبر رفض التسليم بنتائج الانتخابات النيابية عام 1989 وإلغائها رغم فوز الجبهة الاسلامية للإنقاذ وقتها وعلى رأسها عباس مدني بأكثرية ساحقة. تلك كانت البداية لسنوات الظلام التي عاشتها البلاد طيلة عشر سنوات أو ما يعرف بالعشرية السوداء.

حصل الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون على 58.5% من إجمالي عدد أصوات الناخبين الذين لم تتعدَ نسبتهم تسعة وثلاثين في المئة أو أكثر بقليل. هو الرئيس الثامن لبلد المليون شهيد وتم انتخابه على خلفية اضطرار الرئيس السابق للجمهورية عبد العزيز بو تفليقة للاستقالة بعد اندلاع حراك شعبي واحتجاجات ضدّه في جميع انحاء البلاد.
تبون البالغ من العمر أربعة وسبعين عاماً كان في صفوف جبهة التحرير أيضاً كحال كل رؤساء الجمهورية السابقين منذ الاستقلال وهو رئيس سابق للحكومة الجزائرية، إلّا أنّه ترشح مستقلاً هذه المرة. وتأتي نتائج الانتخابات الرئاسية هذه المرة بتبون وسط إقبال شعبي هزيل على التصويت واستمرت الاحتجاجات الرافضة للانتخابات عند الأسبوع الثالث والأربعين للحراك وعلى وقع مطالبات الشارع بالتغيير.

يطرح ما تقدّم أسئلة جوهرية حول حقيقة استقلالية موقف الرئيس الجديد وتحرّره من كاهل وارث الجبهة المتحكم بمفاصل الإدارة في البلاد منذ تحرّرها في حين أكّد الرئيس الجديد ترشّحه حراً وليس بصفته مرشحاً للجبهة.
لربما حقيقة أنّ تبون هو الابن البار من صلب النظام الجزائري هي ما تجعل الحراك مصرّاً على التغيير أكثر من ذي قبل حتى بعد الانتخاب في الثالث عشر من الجاري. تقلّب تبون في مختلف المناصب في الدولة قبل وصوله إلى رئاسة الحكومة وهو ثاني أعلى منصب في الدولة الجزائرية.

وتبرز تحديات كبرى إزاء العملية الديمقراطية الاضطرارية التي أرست حقبة جديدة تشهد اضطرابات تتعلق بمعارضة سياسيات الحزب الحاكم، أبرزها نجاعة إعادة انتاج نموذج الحكم السابق الذي أثبت فشله وأدّى إلى انفجارات عدة آخرها الحراك الشعبي المستمر وضريبة إصلاحات بنيوية في اقتصاد وسياسة بلاد تجاورها تونس التي تسعى جاهدة إلى إرساء نموذج جديد ديمقراطي في ظل تحديات جمّة وليبيا التي تعاني جاهدة للتخلص من المفاضلة بين مطرقة الوهابية وسندان حكم المشير خليفة حفتر.

لا شكّ أنّ المرحلة المقبلة تحمل في طيّاتها تحديات جديدة للحكم الجديد وللحراك المنتظر منه أن يتجذّر وأن ينتج بديلاً ديمقراطيّاً ليذهب بالبلاد إلى مرحلة جديدة من البناء والعدالة الاجتماعية بمعزل عن ترسبات تاريخ البلاد وقادتها.