هذه النظرية سيطرت على المسرح العلمي لسنوات طوال، وأصبحت المرجع الأساسي للعديد من السياسات حول العالم، خاصة تلك التي تنتجها المؤسسات الدولية الرسمية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي،...)، فبالاستناد إلى هذه الأفكار يصبح القضاء على عدم المساواة أمراً غير مطروح على جدول أعمال سياسات الدول، وحتى الحدّ من الفقر يتم ربطه بالنمو، فتنمو الدول ولكن مع عدم مساواة هائل، فيزيد الفقير فقراً، وتزداد ثروات الناهبين.
لماذا نعود إلى كوزنتس؟
قد يسأل القارئ نفسه هذا السؤال، فنحن الآن نتحدث عن الصين وحربها ضد فيروس كورونا الجديد، لا بل دعونا ندقّق بتشخيص ما يجري في الصين. إنها حرب البشرية تقف الصين على جبتها الأمامية، واضعة كل إمكاناتها المادية والتنظيمية والشعبية وأيضاً السياسية والاقتصادية لمواجهة هذا الفيروس. فإذا، ما علاقة كوزنتس هنا؟
لطالما اعتقد كثيرون، أو بالأحرى، لطالما ضخّت الدعاية الامبريالية التي تحاول تأبيد سيطرة نظامها على شعوب العالم، بأنّ في الصين حكومةً ونظاماً لا يهمّه إلّا النمو الاقتصادي بهدف اللحاق بالغرب. وهو مستعد في سبيل ذلك إلى استغلال شعبه البالغ تعداده 1.4 مليار نسمة. وعلى الرغم من أنّ السياسة الاقتصادية التي اعتمدت في الصين من "الاصلاح والانفتاح" تعتبر سياسة قريبة جداً إلى الرأسمالية الغربية، إلّا أنّ كل التجارب الماضية تؤكّد أنّ لهذه التجربة ميزاتها الخاصة، وبالتالي فإن تسميتها بـ"الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" لم يكن مجرد تعبير لغوي يهدف إلى تمييع الخلفيات الأيديولوجية للصين. دعونا نفسر أكثر.
لنطرح السؤال على الشكل الآتي: هل الصين رأسمالية؟ للجواب على هذا السؤال، دعونا نعود إلى كوزنتس. لو أنّ الصين تعتمد المنهج الرأسمالي كما هو في الولايات المتحدة مثلاً، لكان اليوم فيروس كورونا اجتاح كل دول العالم. ولنا في ذلك دليلٌ ليس ببعيد تاريخياً، ففي سنة 2009 انتشر في الولايات المتحدة فيروس H1N1، واجتاح هذا الفيروس خلال فترة قصيرة 214 الدولة، وأدّى إلى إصابة أكثر من ميلون ونصف مليون إنسان حول العالم، ووفاة أكثر من 250 ألف إنسان.
بالمقابل، وعلى الرغم من أنّ فيروس كورونا الجديد يتميز عن كل الفيروسات التي سبقته، وفيه خصائص تجعله أكثر قدرة على الانتشار، وعلى الرغم من انتشاره في الصين في وقت حساس جداً، أي عند بداية عطلة عيد الربيع الصيني والتي يسافر خلالها مئات ملايين الصينين، إلّا أنّ الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية تمكّنت من الحد من انتشار هذا الفيروس، ليس فقط في بلد المليار والنصف، بل أيضاً إلى باقي البلدان. وعلى الرغم من التهويل الإعلامي غير المسبوق، تشير الأرقام من منظمة الصحة العالمية، أنّه إلى اليوم، وجدت حالات إصابة في 27 دولة فقط، ومجموع هذه الإصابات لا يتخطى الـ 380 إصابة، ونصف هذه الدول تقريباً سجّلت أقل من أربع إصابات وتم شفاؤها.
لذا، هذا يعني أنّ هناك نهجين مختلفين جداً في التعاطي مع هكذا أزمة. وبالتالي فإنّ النهج الذي اعتمدته الصين يعتبر أنّ الإنسان أولاً، وهذا على نقيض من المنطق الرأسمالي القائل بأنّ الاقتصاد أولاً. فلو اختارت الصين السير بالمنطق الثاني، أي بأنّ عجلة الاقتصاد يجب أن تستمر بالدوران لأنّ سعادة وخلاص البشر مرتبطٌ فيها، لما كانت قد أقفِلَت مدينة ووهان ولا مقاطعة هوبي. فإقفال هذه المقاطعة ومن ضمنها ووهان كانت له آثارٌ اقتصادية سلبية جداً على الاقتصاد الصيني، إذ أنّ ووهان تقع في وسط الصين، وعليها تقوم كل حركة القطارات السريعة، التي تعتبر هذه الفترة من السنة أهم موسم لتحقيق الارباح (السنة الماضية كانت عائدات هذا القطاع أكثر من 400 مليار دولار في فترة عيد الربيع فقط)، وبالتالي إنّ احتمال عدم اقفال ووهان وعدم اتخاذ إجراءات صارمة في باقي المدن كانا ليجعلا الوضعية خطيرة جداً اليوم لجهة انتشار الفيروس، ليس فقط في الصين، بل في كل العالم.
أخيراً، في الصين اليوم حرب ضدّ عدوٍّ شرس، فيروس كورونا الجديد، ولكن لهذا الفيروس حلفاء، لديهم إمكانات إعلامية وتضليلية كبيرة جدّاً، لهذا الفيروس حلفاء يسكنون بيتاً يقال أنه أبيض. لهذا الفيروس حلفاء بنوا امبراطورية قهر من خلال القتل والعدوان والنهب والتضليل. فيروس الامبريالية هو هو فيروس كورونا الجديد، الأوّل فتك بمئات ملايين البشر من كوبا إلى فيتنام إلى اليابان وأفغانستان والعراق مروراً بكلّ بقعة على هذه المعمورة، والثاني هو مجرد خطر آني تسعى الصين بالتعاون مع كل أنصار الانسانية في العالم للقضاء عليه سريعاً، رغم محاولات حليف الفيروس لإطالة عمره من خلال التضليل والاستفادة السلبية، مُصرّاً على مبدأ يجب أن أربح وحيداً وليخسر كل الباقين. يجب أن أستمرَّ في نهب الأمم، ولتذهب البشرية إلى الجحيم. هذا هو منطق الامبريالية الذي سيسقط مع سقوط حليفه كورونا.