جديد أزمة ليبيا: تقدم باتجاه الحل؟

 

ساد الهدوء معظم المناطق الليبية ولا سيما غربها، لا تخرقه سوى مناوشات متقطعة لا تعدو كونها محاولة من الاطراف المتنازعة للقول انها لا تزال محتفظة بسيطرتها على مناطقها ولا تزال تملك اليد الطولى فيها. فيما تدرجت المحاولات التفاوضية لإيجاد حل يعيد الاستقرار والستاتيكو الذي يريح الاطراف الخارجية اللاعبة على الساحة الليبية أولاً ويريح البلاد ثانياً.


كان آخر هذه المحاولات الاسبوع الفائت حيث حطّت المفاوضات هذه المرة في القاهرة التي شهدت جولة جديدة من الاجتماعات لتقريب وجهات النظر بين اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس البرلمان المنعقد في طبرق عقيلة صالح برعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. حسم الاجتماع عدة نقاط مهمة تعهد الطرفان بعدم التراجع عنها مستقبلا".
فيما ارجىء البت بموضوع المرتزقة اللذين يشكلون نقطة خلافية حيث ترفض قوات حفتر بدعم مصري اندماجهم في الجيش الليبي لما يشكل ذلك من انعدام التوازن في القوات المسلحة فيما نقلت مصادر عن حكومة طرابلس تشددها في ملف معالجة أمر المرتزقة وتأمين اندماجهم. اقترحت مصر تأجيل هذا البند الخلافي واللجوء الى المجتمع الدولي لحله كون هؤلاء المرتزقة يشكلون قنبلة موقوتة يتوقع انفجارها في اي وقت.
وفي هذا السياق من المهم التذكير ان المرتزقة بغالبيتهم جلبتهم تركيا من المقاتلين في شمال سوريا التابعين لها للقتال الى جانب حكومة السراج وفي هذا امتداد لتنظيم الاخوان المسلمين التي تعمل كل من تركيا وقطر على توسيعه.
وحظي البند الخلافي الثاني بقبول مبدئي للاقتراح المصري بوضع عملية تصدير النفط تحت ادارة دولية بما يضمن تأمين اكبر عائد ممكن للأطراف كافة" ولكن الفريقان طلبا المزيد من الوقت للإستشارة. ويفسر الاقتراح المصري بشأن النفط المخاوف المصرية من المحاولات التركية المستمرة لتعزيز وضع حكومة الوفاق وتسعى القاهرة جاهدة مؤخرا" لإبعاد تركيا قدر الامكان عن الشأن الليبي واعطاء دور اكبر للامم المتحدة وجولات محادثات المغرب لحل الازمة، غير ان مبادرات الرباط حتى الان لا تعدو كونها جلسات فاشلة في تقريب وجهات النظر. ينتظر في هذه الاثناء نتيجة اتصالات الرباط لترتيب لقاء يجمع عقيلة صالح برئيس "المجلس الاعلى للدولة الليبية" خالد المشري للتمهيد للفترة الانتقالية ووضع دستور جديد اضافة الى بحث توزيع المناصب وتشكيل الحكومة الانتقالية. يحمل المشري افكارا" متقاربة من أجندة القاهرة خصوصا" فيما يتعلق بإخلاء منطقة سرت – الجفرة من السلاح وتشكيل حكومة خلفا" لحكومة الوفاق. ستسأنف هذه المفاوضات على الارجح الأحد المقبل بمتابعة خارجية دقيقة لجولاتها من قبل اللاعبين الاقليمين بشكل خاص (مصر وتركيا) اضافة الى فرنسا التي استفاقت على تخطيها وخسارتها في الملف الليبي حتى الآن وتواصل تفاهماتها مع مصر اضافة الى اقتراحها بانعقاد مؤتمر دولي حول ليبيا وسط وعود مصرية لحفتر بالغاء حظر استيراد الاسلحة المفروض عليه دوليا".
ليبيا ارض ممزقة للعبة اقليمية ودولية
بعد سقوط نظام معمر القذافي وتغذية التنظيمات الاسلامية المتشددة من قبل القوى الاقليمية والدولية المهيمنة مغربا" ومشرقا" باتت البلاد تعاني انفلاتا" امنيا" وانقساما" سياسيا" اضافة الى أزمة اقتصادية حادة وأنهكت طيلة سنوات النزاع بين التنظيمات المسلحة الموالية لهذا الطرف او ذاك. ومن هنا يمكن فهم الادوار الخارجية حيث تلعب مصالح تسع دول على الملعب الليبي الخصب نفطا" وموقعا" جغرافيا" قريب من اوروبا. يعود الدور الايطالي التاريخي الذي سعت ايطاليا الى تعزيزه بعد سقوط القذافي وأبرزت امتعاضها من ادارة شركة توتال الفرنسية بعض المنشآت النفطية ودخولها الى السوق المحلي حيث اعتبرت هذه الادارة تهديدا" لامتداد شركة "ايني" الايطالية التي تملك استثمارات في ليبيا منذ العام 1959 وقد قدمت دعمها لحكومة الوفاق. في المقابل، تتودّد فرنسا للمشير خليفة حفتر في محاولة منها لاستعادة بعض مما خسرته استعماريا" في المغرب العربي. أما الامارات العربية المتحدة والسعودية فدورهما ينحصر في مناصرة حفتر تخوفا" من حكومة السراج ونفوذ الاخوان المسلمين الذي أعلنت قطر انحيازها له مرارا". تتخوف الجارة مصر من اي دعم تركي لتعزيز دور الاخوان المسلمين على حدودها وهي التي مشاكلها الداخلية معهم ومع لمتشددين في سيناء والارهاب المتنقل يقض مضجعها لذلك تدعم شخصا" عسكريا" ذي منطق يتسم بالديكتاتورية والحسم وهو ما تألفه مصر السيسي جيدا" جدا" وتفضله على صعود نجم الاسلام السياسي على حدودها الغربية. اما روسيا فتخطت دعمها لحفتر سياسيا" بل أرسلت مرتزقة ميليشيا "فاغنر" للقتال الى جانب قواته ومهاجمة حكومة الوفاق في طرابلس. وتسعى دول الاتحاد الاوروبي وخصوصا" المانيا الى تحقيق الاستقرار عبر تنظيم بعض المحادثات من أجل تدويل الازمة الليبية وتحقيق مكاسب نفطية وتجارية عبر الاستفادة من موانىء ليبيا المتوسطية.
تركيا العدالة والتنمية والجبهات المفتوحة
أما الدور الذي يجدر بنا التوسع به قليلا" هو الدور التركي الذي لا يمكن فهمه بمعزل عن تدخلاته الاقليمية مشرقيا" والتي بلغت مؤخرا" حدود القوقاز. تركيا اردوغان التي تدعم بقوة حكومة السراج تطمح الى أوسع تحالف اخواني في المنطقة والى توسيع نفوذها بما يجعلها تتخطى عتبة أحد اللاعبين في المنطقة الى الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوز شروطه في أي تسوية من الملفات العالقة بأزمات الدول المتوسطية وغيرها. تتسرب تركيا الى شمال لبنان عبر تغذية مجموعات سلفية سنية ودعم مجموعات تدين بالولاء لشقيق رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري كما بات من المعروف دورها الكبير في سوريا وحلمها الامبراطوري بضمّ ادلب كما انهاء مسألة الكرد عندما اقدمت على احتلال عفرين على حدودها. وأدّت المناورات العسكرية الاخيرة وحملات التنقيب عن الغاز التي قامت بها القوات التركية في المتوسط ضمن المياه الاقليمية اليونانية بتوتر بالغ كانت نتيجته استياء اوروبي فرنسي خصوصا" بالغي الشدة. وقامت مؤخرا" بدعم عسكري وسياسي غير مسبوق في معركة بدأت بتحريض خلفي منها للقوات الاذرية التي تقوم بمعارك كبيرة للسيطرة على اقليم ناغورني كاراباخ ذو الحكم الذاتي على الحدود مع أرمينيا. تفتح تركيا جبهات عدة في وقت واحد دون ان تقثل ايا" منها املا" في ملء شغور او انكفاء دولي ما في المشرق والمغرب لتساوم على توسعها واحلامها بمزيد من المغانم للمسلمين السنة العثمانيون.
خريطة توزيع النفوذ في ليبيا
تشير تحديثات خريطة النفوذ التي نشرها موقع "جسور للدراسات والأبحاث" بتاريخ 19-6-2020 الى وقوع المناطق ذات الكثافة السكانية والاهمية الاستراتيجية تحت نفوذ قوات اللواء خليفة حفتر وتبلغ حوالي 60% من مجمل الاراضي الليبية. فيما تسيطر حكومة الوفاق الوطني برئاسة السراج بشكل شبه كامل على المنطقة الغربية بما فيها العاصمة طرابلس مع حدودها الادارية التي تكتسب أهمية جيوسياسية كبيرة بمينائها على البحر المتوسط المواجه لأوروبا وتشترك مع تونس في شريط حدودي مما يتيح لحكومة الوفاق افاق علاقات دولية عربية تتيح لها موازنة الدعم المصري – الاماراتي لقوات خليفة حفتر.ولا زالت مدن الساحل الشرقي بنغازي وطبرق ودرنة تخضع لسيطرة قوات "خليفة حفتر" ويتقاسم الطرفان الساحل الشمالي حيث تسيطر الوفاق على مدينة مصراتة اما مدينة سرت فهي تحت نفوذ قوات حفتر.
يزداد قلق حلف شمال الاطلسي والولايات المتحدة من تعاظم الدور الروسي في المنطقة وخصوصا" الخوف على قاعدة الوطية التي تتمركز جنوب غربي طرابلس على بعد 140 كلم والتي انتزعتها قوات حكومة الوفاق من ايدي المشير حفتر في أيار الماضي بدعم وقصف تركي واضح . كانت تلك المعركة نقطة تحول في الازمة الليبية وكبحت من امكانية القضاء على حكومة السراج والمعسكر التركي القطري مما عاد بالامور الى السياسة واللقاءات التفاوضية في ظل شبه توازن قوى يسود المشهد حاليا".
وليس بنافل القول إنّ الاسباب الرئيسية للصراعات المستمرة بين الاطراف المتناحرين سببها الصراع على النفوذ والموارد الطبيعية، كما الانقسامات القبلية والتشدد الديني والذي يقابله تشدد اخر عهدناه في العالم العربي. فلغاية اليوم تحكم شعوبنا أنظمة قمعية توتاليتارية تصادر التنوع والحريات في المجتمع وتقمع التناقضات تحت عنوان " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وهذه المعركة قد تكون وهمية في كثير من الأحيان ويتخذها الحاكم حجةً لتثبيت اقدامه واطباق الخناق على البلاد اكثر فأكثر وما السيسي الا نموذج فاقع عن هذا الامر. لا تنحصر القبلية العرقية منها أو العائلية أو الطائفية في بلادنا العربية ولا تنتفي بمرور الزمن والتقدم بل تتكوّر كالنار تحت الرماد لتتخذ موقعا" وتنطلق مجددا" لتدمير ما تبقى من مجتمعات وذاكرة انسانية حضارية لدى الشعوب المثخنة من المحيط الى الخليج.