واذا ما نجحت في خلق صعوبات اقتصادية ومعيشية في بلد يتّصف اقتصاده الموروث بالضعف والتخلف، إلا انها فشلت في اثارة الاضطرابات وصمدت كوبا وشعبها باعتمادها الطريق الاشتراكي في توزيع الثروة، بمعزل عن حجمها، كما أسهمت كوبا في مساندة شعوب كثيرة، سواء في موقفها التضامني أم بتقديم عشرات آلاف المنح لطلاب البلدان الفقيرة للدراسة في جامعاتها، او بارسالها طواقم طبية ومعلمين لعشرات البلدان المحتاجة.
لقد سقط رهان واشنطن على سقوط الثورة الكوبية مع الانهيار السوفياتي، ثم بعد وفاة قائدها فيديل. ونظمّت انقلابات عسكرية وفرض رؤساء من صنعها، لتطويق كوبا وعزلها، لكنها أصيبت بخيبة أمل، فشعوب أميركا اللاتينية ترى أنّ كوبا الحرّة تمثل مطامحها في تحرير أوطانها وإخراجها من مستنقع البؤس والتخلف، وهي تواصل نضالها من أجل ذلك. فبعد الانقلاب العسكري في بوليفيا ضد الرئيس إيفو موراليس، انتصر الشعب البوليفي انتخابياً وأعاده وحزبه اليساريّ الى السلطة. وتستمرّ نيكاراغوا حليفة كوبا وكذلك فينزويلا. ويواصل الرئيس اليساري في المكسيك لوبيز أوبرادور سياسته المستقلة مبدياً استعداده لمساندة كوبا غذائياً وانسانياً في وجه الحصار الأميركي المشدّد، وكذلك رئيس الارجنتين، وها هي البيرو التي كانت مركز اجتماعات الحكام اليمينيين في منظمة الدول الاميركية وضد كوبا، فقط بعد مماطلة وضغوط ومحاولات إبطال نتائج الانتخابات الرئاسية، أقرّت رسمياً ومنذ عشرة أيام فقط بفوز المرشح اليساري "بيدرو كاستيلو" الذي يتبنى حزبه الماركسية. أمّا في البرازيل، فتتراجع شعبية الرئيس البرازيلي الحالي بولسونارو وهو من أتباع الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب، ويتصاعد تأييد إغناسيو لولا دا سيلفا وحزبه العمالي اليساري. ويتواصل الصراع ضد تآمر وضغوط واشنطن. فقد جرى منذ اسبوعين اغتيال رئيس هايتي جوفينيل مويز في منزله واصابة زوجته. وتبيّن أنّ مرتزقة كولومبيين مع اثنين أميركيين تابعين لقيادتهم في ميامي ارتكبوا هذه الجريمة.
ومع تقدم المسار الاستقلالي التحرري لشعوب تلك القارة، يزداد عداء واشنطن ضد كوبا وثورتها التي كانت أول دولة تكسر طوق هيمنتها في قارة تعتبرها تاريخيا حديقتها الخلفية. ومن خلال إقامتي في كوبا كممثل لحزبنا ووسائل اعلامه وللصلة بالقوى الثورية والتحررية في بلدان تلك المنطقة، واحتكاكي بالجالية اللبنانية والعربية، أتيح لي الاطلاع على ما تعانيه شعوب تلك البلدان من فقر وبؤس وقمع، ناجم عن الاستغلال المديد للشركات الرأسمالية الأميركية وشركائهم الصغار محلياً. مما يكشف الرابط الوثيق بين التقدم الاجتماعي وتحرير الوطن من هيمنة الخارج، لوقف استغلال ثروات الشعوب وعرقها. كما اتيح لي الاطلاع من خلال لقاءاتي مع قياديين في كوبا، أنّ 80% من الشعب مع الثورة، وإنّ أكثرية ال20% الباقية ليسوا أعداءً للثورة. فهم ينعمون بالانجازات الصحية والاستشفائية والتعليم في جميع مراحله، ويشعرون بالكرامة الوطنية بتحويل كوبا من جزيزة للعب القمار واللهوّ والدعارة، الى مكانة مرموقة عالمياً.
انّ الاساس في نجاح الثورة وصمودها يكمن في جذرية النهج الثوري والتعبئة السياسية للشعب واطلاعه على أسباب وأضرار الحصار الاقتصادي الاميركي. وقد أدّى الوعي الشعبي الذي كان يركز عليه فيديل الى خلق ثقة متبادلة بين القيادة والجماهير. فجذرية النهج الثوري هي العامل الاهم في مواجهة جذرية عداء الامبريالية لمصالح الشعوب وتحررها. ارتباطاً بمشاركة الشعب، أقدمت القيادة الكوبية تحضيراً لمؤتمرات الحزب الشيوعي الكوبي، الى أوسع مناقشة مع الهيئات والاوساط الشعبية بشأن معالجة المشكلات الاقتصادية وتخفيف الضائقة المعيشية، وللإستفادة من جمال هذه الجزيزة ودفء مياهها ونظافة شواطئها...الخ فاعتمدت تطوير القطاع السياحي وفرصة توظيف رأسمال خارجي ضمن القوانين الكوبية. كما اتاحت لأكثر من 190 نوعاً من العمل الخاص. وإعطاء المحافظات والبلديات دوراً في شؤون التنمية الانتاجية والاقتصادية في مناطقهم، تحت سقف الخيار الاشتراكي.
لقد كان منتظراً أن يستكمل الرئيس الاميركي جو بايدن ما بدأه الرئيس الأسبق أوباما حيال كوبا. لكنه لم يفعل ذلك حتى الآن. ويبدو انه يتنافس مع ترامب لاكتساب أصوات اللوبي الكوبي في ميامي في الانتخابات المقبلة، وقد استغلّت واشنطن جائحة كورونا والتقلّص الكبير في عائدات السياحة التي تجلب العملة الصعبة لكوبا، ليحرًضوا على الاضطراب. لكنهم فشلوا أيضاً، والسبب أنّ أكثرية الشعب الساحقة مع الثورة. والتحرك المحدود في بعض الاماكن سرعان ما انتهى مع دعوة الرئيس الكوبي ميغيل كانيل الشعب لمواجهتهم. واستتبّ الوضع في كوبا التي كانت وما تزال رمزاً ومثالاً للشعوب.