فن إدارة الوهم
في واقعنا السريالي المعقّد، لا تحدد المشاركة في الانتخابات من ناحية الرغبة، بل بالإرادة الواعية لإعادة موضعة الفلسطيني في النظام العربي المتشكّل والدولي الوليد. اليوم، هناك غطاء دولي يريد ضمان نتائج الانتخابات مسبقاً، ولكنه يحذّر بأنها لا يمكن أن تتم دون موافقة الاحتلال. لذا علينا وعي هذه الشروط ومترتباتها كحقائق لا يمكن التهرب منها.
والقول ان الانتخابات هي طريق الخلاص وانهاء الانقسام، ناهيك عن الجزم بأنها فرصة لإنهاء الاحتلال!، ما هو إلا تسويق لتفاؤل خادع، وأن العكس هو الصحيح تماماً. وبين من يصورها بأنها مفروضة أو يحلّل بأنّ القوى النافذة أعطت كلمة السرّ للشروع فيها لجعل العالم ينظر إلينا باحترام؛ وبين من يروج للمقولة أنّ أوسلو قد شبع موتاً، علماً انه لم يدفن وما زال البعض يتمسك بكفنه لتجديد الشرعية السلبية، لا بد أن ندرك أن بعض آليات الدفع بالانتخابات تريدها كإستعداد لدخول مارثون المفاوضات، وكما سابقاً بذهنية ستعيد انتاج العبث.
هناك من يستغل المطالبة بإجراء الانتخابات بشكل متزامن في الضفة وغزة والقدس، لاحظ وتأكيد على انها ستجري في القدس "وفق الاتفاقات المبرمة"!، أي اتفاقات أوسلو! لذلك نحن نؤكد ان قرار المشاركة بالانتخابات ليس من باب تسويق فن الفانتازيا السياسية ولا التمسك بسقف سياسي هابط، بل من باب المشاركة كموقف مبدئي مبني على برنامج سياسي واضح ورافض لهذه القيود ويسعى لتجاوزها والتحرّر من قيدها، كما النضال من الداخل على تحديات واضحة ـ مشاركة تعطي للمصداقية مكانتها في الخطاب السياسي المبني على النهج التحرري وترجمته قولا وفعلاً. انّ التواضع الثوري يقتضي الإعتراف بواقع الحياة السياسية والديمقراطية المعطلة، كما محاولة تصحيحها حقاً وحقيقة، وبالتالي هي ليست هدفنا بل أسلوبنا النضالي لمواجهة التحديات.
فن شجاعة اليأس
يبنى التفاؤل من شجاعة اليأس، فالمسؤولية الأخلاقية تفترض كل الحقيقة، دون لف ودوران. كما شجاعة اليأس تقتضي المشاركة على قاعدة الاستفاقة من الوعي الزائف، وإضاءة الطريق بهدف الخروج من المتاهة المظلمة لا الدخول فيها، مع التأكيد أن شجاعة اليأس تتطلب الاعتراف بأننا لن نيأس حتى لو لم نستطع كسر الدائرة المفرغة.
لما الخيارات الكبرى تكون بين مطرقة الأسوأ وسندان الأقل سوءاً، تكون المهمة في تحدي اكراهات الواقع، وإيجاد السبل للتحرر من دائرة المحاصرة بين خيارات مفجعة. إلا إن النتائج الأولية يمكن قراءتها مسبقاً. فشروط تحقيق الانتصار ترسم قبل المعركة، فكيف إن لم تكتمل عدة الانتصار بعد؟ وهذا برسم عن حوارات القاهرة الجارية الآن. التحديات الكبرى لا تحتمل الترف السياسي، وقلب الهرم بوضع السلطة قبل المنظمة. هذا يشي بمؤشرات سلبية، بحيث الخسارة لن تقاس كشأنٍ انتخابي حصري، بل وبعدم استكمال انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني سيصبح الخوف في الانتقال من واقع الانقسام إلى اقتسام غير معلن للسلطة ـ ديمقراطية شكلية تطلق الرصاصة، على فكرة التمثيل السياسي الجامع الذي مثلته منظمة التحرير، والتهامه داخل معادلة الحلقية والزبائنية، وتفريغه من بعده السياسي، وترسخ المكان الطبيعي لإدارة الصراع داخل ومن خلال المؤسسة. إذاً كيف ينتهي الانقسام بعملية انتخابية؟ وماذا سيحدث بعد الانتخابات؟
فن التقاطع بين الثنائيات
المصالحة بالمعنى الفصائلي قد تمت بعد أن تحولت من شراكة بالسلطة إلى الانقسام. واليوم نسمع الحديث عن قائمة واحدة وشراكة وطنية! بعيداً عن الفانتازيا السياسية، ماذا عن اسئلة الواقع والخلافات القائمة؟ وما العلاقة مع المسار السياسي والمفاوضات والاحتلال والمقاومة وسلاحها وشروط الدول المانحة… إلخ؟ المصالحة الحقيقة تكون بين ثنائيات تختلف وتتقاطع، لكنها لا تتصارع في شرعيات موازية واقصائية. علينا رصد تجليات الأزمة الوطنية ومفاعيلها الثقيلة على المشهد السياسي:
١- هناك علاقة تنافرية بين تحرير الوطن وتحرير المجتمع والانسان. فهل وطن حر بمواطنين عبيد هو ما يناضل شعبنا من أجله؟ وهل التركيز على المكون الاجتماعي فقط يجعل منا شعباً حضارياً وديمقراطياً وان في وطن محتل؟ لقمة العيش أولوية وهذا حقنا، ولكننا شعب وأرض وقضية، جوهرها الكفاح الوطني التحرري والديمقراطي، البناء والمقاومة. لذا لا مناص من مواصلة النضال من أجل التحرر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في حزمة واحدة دون تخلٍ أو تنازل.
٢- هناك تناقض عامودي بين النظام والتنظيم والمنظمة، بين سلطة وطنية والحركة الوطنية، وشكل الحكم والقيادة، وما هو النظام المعتمد في ظلّ الاحتلال. نحن أمام سلطة لا ترى نفسها تكتمل مع المقاومة بل تنفيها، وتخضع لاشتراطات الاحتلال المباشر، والدول المانحة، واختلال الموازين، كما لطبقة ناشئة من أبناء "السلطة"، قائمة هلى قيم جديدة، السادة بدل القادة، والموظف والمدير بدل المناضل، والناشط بدل المقاوم، ونخبة أصحاب المنافع الخاصة ورأس المال والسماسرة. اليوم، يدفع شعبنا كلفة تحوّل حركة التحرر إلى سلطة ألحقت بها الحركة الوطنيّة؛ وتكتفي بسلطة أشبه بنظام عربي مصغّر تحت الاحتلال. والهاجس ان تنتج هذه الاليات مزيداً من الوهن مما يجعل الاحتلال لاعباً وليس متفرجاً في المشهد الانتخابي، الذي بات مهيئاً في المنافسات المبنية على الاقطاعية والازدحام القبلي والجهوي على القوائم وداخل الفصيل الواحد. وأسئلة الواقع الملتبس حول الصيغة التي نقوم بإنتخابها، دولة أو منظمة أو حكم ذاتي اداري؟ نظام أو سلطة أو منظمة؟ انتخابات رئاسية لرئيس دولة فلسطين أو تشريعية لانتخاب مجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي؟ وإن كان رئيس السلطة هو نفسه رئيس الدولة، فما هو وضع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية؟ وهل رئيس الرئاسات الثلاثة سيخضع للقانون الأساسي للسلطة أم للنظام الأساسي لمنظمة التحرير؟
٣- هناك تناقض أفقي بين الخاص والعام، الوطن والشتات، الداخل والخارج. انتقال مركز الصراع الى الداخل عذا لا يعني اقصاء الخارج، لأن قوانين الصراع تتطلب أن يتحول كل استحقاق إلى تحدي وطني شامل يتجاوز صيغة السلطة إلى مرحلة تحررية تأسيسية جديدة. الأولوية للمنظمة التي هي الأصل على السلطة التي هي الفرع، أو كحد أدنى بالتزامن معها.
فهل ستُحدث الانتخابات تغييراً جوهرياً؟ حتماً لا، لأن مدخلها هو انتاج تشكيل سياسي على جسد اجتماعي وجغرافي يتناقص، قد تكون القدس خارجه أو منقوصة فيه، كما الشعب الفلسطيني في الشتات. القطع يكون بتأصيل جوهر الصراع الذي يفترض المقاومة، وتحديث أدوات الصراع. هذا هو المبتدأ للشرعية الفلسطينية. بدون منظمة التحرير الفلسطينية، بنهجها التحرري والتشاركي والديمقراطي الجامع، نكون قد دخلنا مرحلة تأبيد القالب السلطوي وتنازلنا عن مشروعنا التحرري، بفصائله الوطنية والإسلامية واليسارية، وعموم الشعب الفلسطيني.
كيف ينتصر اليسار على نفسه؟
اليوم اليسار الفلسطيني (الشعبية والديمقراطية والشعب والمبادرة) وبيئة وشخصيات ومجتمع اليسار، جميعها أمام امتحان جدي. دفعنا الثمن باهظاً في الجولتين السابقتين عام 1996 وعام 2006. لدينا دروس غنية ولا نحتمل المزيد من الخطأ، خاصة ان الاجتماعات، حتى كتابة هذا المقال، لم تفضي عن نتيجة للاتفاق على قائمة موحدة. وكالعادة تتكاثر النزوات عشية الانتخابات، وينتشر أصحاب "الأيغو" والأنانية التنظيمية والفئوية الضيقة والاستعراضية. لكن هل من مهرب عن استحقاق قطب ديمقراطي موحد للتغيير والتحرير وللبناء والمقاومة، ولفتح آفاق جديدة لبناء مؤسسة وطنية جامعة لعموم الشعب الفلسطيني؟
اليوم، اليسار أمام تحدي تشكيل قطب وطني ديمقراطي لاستعادة دوره ووظيفته التحررية. من يأمل أن يكون عنصر توحيد عليه أن يمتلك رؤية توحيدية وان يتوحد هو، ومن يبشر بالديمقراطية عليه أن يمارسها. ان مسؤوليتنا تقتضي كسر حالة التجاذب الثنائي القائمة. نحن أمام فرصة التحدي والاستجابة: فإما نظل رهائن لمتلازمة الفشل والعجز والاستجداء والاستزلام والتبعية والجمود والاصرار على المسارات الخاطئة؛ واما الانتقال إلى خطوة متقدمة لإحداث الفعل الايجابي النوعي لأن ينتصر اليسار على نفسه.
انتصار اليسار أو هزيمته لا يحصى بعدد الأصوات فقط، بل بقدرته على الخروج عن النماذج الخاطئة والقطع مع الوهم وإدارة الفشل، ان يكون هو بحد ذاته قوة تغييرية حتى ينال ثقة الناخب قبل صوته. هناك فرصة تاريخية لليسار أن يقدّم نفسه كمكون وخيار ثالث له لون وطعم وشخصية خاصة تسهم في افشال فانتازيا بناء الدولة تحت جلد الاحتلال.
لن ينتصر من ينجح في الانتخابات، بل سينتصر من هو الأكثر حرصاً على الحقوق والثوابت الوطنية وتمسكاً بكينونة الشعب الفلسطيني غير المنقوصة. كلنا ثقة بشعبنا الفلسطيني.. سينتخب وطنه ومستقبله وحريته.. سيصوت إلى الأكثر كفاحية في حماية المشروع التحرري، ولصالح تطوير واصلاح المنظمة كقائدة لنضال شعبنا في سبيل التحرير والتحرر.. سيؤيد القطع مع الاتفاقات المبرمة ومسار التسوية والمفاوضات المزعومة.. سيعطي الثقة لمن يجدد مؤسساته بشكل ديمقراطي، ولمن يمتلك برنامج ورؤية سياسية تغييرية لمواجهة فشل أوسلو والرهان على الادارة الامريكية الجديدة..
الرهان الصحيح هو على الشعب الفلسطيني وكافة طاقاته وقواه الكامنة والممكنة فيه، فهل يقدم اليسار نفسه إلى هذا الشعب العظيم كنافذة أمل ليكون الخيار الأسلم والرهان الأصلح؟
ملاحظة: من المفترض أن تجري الانتخابات التشريعية في فلسطين المحتلّة في 22 أيار 2021، والرئاسية في 31 تموز 2021.
*روائي وقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين