زمن كورونا .. تراجع الديمقراطية وتوحُّش الدكتاتورية

يعود من جديد، هذه الأيام، الجدال حول مسؤولية فايروس كورونا وانتشاره، ودور الإجراءات التي اتبعتها الحكومات لمواجهته، في تقوية الأنظمة الدكتاتورية واتخاذ الأنظمة الديمقراطية خطواتٍ، وصفتها شعوبها بأنها قمعية لا تتناسب مع تبجحها أنها قلاعٌ للحرية والتنوير. وإذ خرجت في السنة الماضية، مع بدء الإغلاق الذي بات له قواعد شديدة، تحليلاتٌ مبكِّرة، تحذِّر من تلك الإجراءات، بدأت هذه السنة تظهر تقارير تسجِّل للمستويات التي انحدرت إليها حقوق الإنسان في دول العالم الثالث. وتتحدث أيضاً عن حال الدول الأوروبية، وتشير إلى مخالفة القوانين وانتهاك الأعراف العامة فيها، علاوة على تراجع بعض الدول عن التزامها بمقومات دولة الرفاه التي كانت تعدُّ من حصون الديمقراطيات الغربية.

وبرز السؤال حول ما إذا كان دافع الدول القمعية والدول الديمقراطية، على السواء، إلى تطبيق إجراءات قمعية إضافية هو التغطية على موضوع استجابتها للوباء ومدى تلك الاستجابة، أم أنه فرصة لهذه الدول للتنصل مما يمكن لها التنصّل منه من التزامات معيشية وحماية الحقوق وصون مكتسبات شعوبها الديمقراطية التي حصلت عليها عبر نضالها الطويل الذي امتد قروناً. وقد برز في الغرب ما سمّاه كثيرون "دكتاتورية القيود الصحية" التي غيَّرت نمط حياة البشر، وبات العزل والتقييد كلمات ترفعها السلطات في وجوه مواطنيها كأنها عصيٍّ، في وقت حمَّل كثيرون هذه السلطات المسؤولية عن العجز عن إيجاد دواء لعلاج الإصابات بالفايروس، مستغربين التركيز على مسألة اللقاح وحدها. وتولَّدت خشية لدى الناس، من أن الطواعية التي امتثلوا بها للإجراءات التي اتّخذتها الحكومات، وتضحيتهم بحرياتهم الشخصية من أجل المساعدة في درء الخطر العام، قد تغري هذه الحكومات وتجعلها تخفف من وتيرة البحوث لمواجهة الفيروس فتطيل فترة مكوثه لزيادة الخوف لدى الناس، وبالتالي تقوم بالتخلّي عما تَحَصَّل عليه المواطنون من تقديمات وحريات شخصية عبر السنين.

ويعود تراجع التقديمات الاجتماعية في الدول الأوروبية إلى فترة التحوّلات في أوروبا الشرقية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والدول الأوروبية الاشتراكية التي كانت تدور في فلكه، أوائل تسعينيات القرن الماضي. وهذه الحقيقة ليست ثمرة دراسة مراكز أبحاث، فحسب، بل يخبرك بها أي أوروبي مراقب لتغيرات الأوضاع المعيشية ولحال دولة الرفاه والقانون والحريات التي لا تتوقف الحكومات عن تذكيره أنه يعيش في ظلها. إذ كانت أوروبا الغربية تسعى من خلال بناء نظام السوق الاجتماعي ودولة الرفاه، إلى تقليل عامل جذب النموذج الاشتراكي الصاعد على حدودها الشرقية، والذي حققت دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي التي تبنّته، في مراحل معينة، الكفاية لمواطنيها والسكن والنقل بأسعار مخفّضة، علاوة على تركيزها على إعلاء مكانة الثقافة والفنون في المجتمع، وإيلاء الأطفال والمسنين الرعاية الاستثنائية، لكن مع مصادرة الحريات. لذلك وجدت الدول الغربية التي تتبع النظام الرأسمالي، نفسها مجبرةً على تقديماتٍ تحاول أن تتفوق فيها على تقديمات الطرف الشرقي، إضافة إلى تركيزها على موضوع الحريات وحقوق الانسان، بدءاً من اقتصاد السوق الحرّة، وصولاً إلى الحريات الفردية.

وقد انتشرت موجة التراجع عن السياسات الديمقراطية والحدّ من الحريات المدنية في الدول الديموقراطية، وازدادت سياسة القمع في الدول الدكتاتورية، لأسباب كثيرة. من تلك الأسباب ظهور بعض الدول الغربية على حقيقتها بعد أن بدت عاجزة عن مواجهة الوباء والاستجابة لحالات الطوارئ، بعد العجز عن معالجة عدد كبير من المصابين، ما أدّى إلى اكتشاف مدى قصور الأنظمة الصحية الغربية التي تستمر الحكومات بتذكير المواطنين بحسناتها. من هنا كان تعظيم خطر الفيروس وتخويف الناس منه لتحقيق مآرب أخرى، ليس أقلّها ما برز من سوء استخدام السلطة لدى بعد الحكام، ومن التجسس على الناس بحجة مراقبة إجراءات السلامة، وقمع المعارضين وتأجيل الاستحقاق الانتخابي في غيرِ دولةٍ، ما ينعكس تغوّلاً لدى المسؤولين المُمدَّد لهم في السلطة.

وفي مسألة تخويف الناس، وصل الأمرُ درجةَ تصريح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن بلاده في حالة حرب، وحالة الحرب هذه تقتضي تعليق العمل ببعض القوانين وفرض حالة طوارئ. وربما من هنا ظهرت حالات القمع في فرنسا واستهداف الصحفيين وتقديمهم للقضاء لمحاولة اسكاتهم، خصوصاً بعد ظهور مشروع قانون "الأمن الشامل" أواخر السنة الماضية الذي يزيد من عنف الشرطة عبر زيادة صلاحيات أجهزتها، والذي واجهه الفرنسيون بالمظاهرات الرافضة، وانتقدته منظمات حقوقية ومفوضية الاتحاد الأوروبي، بل إن الأمم المتحدة، وعبر المفوضية العليا لحقوق الانسان التابعة لها، دعت إلى سحبه.

إن كان هذا في فرنسا، التي تقدم نفسها بلداً للحريات، لا عجب إن مارس مسؤولٌ عنصريٌّ من قبيل رئيس الحكومة الهنغارية، فيكتور أوربان، الذي سنّت حكومته قبل سنة، قانوناً للحماية من فيروس كورونا، يخوِّلها التحكم بالمراسيم وتعليق العمل بالقوانين، ويخوِّلها أيضاً فرض عقوبة السجن والغرامة على كلّ من ينشر أنباء كاذبة، وبذلك ستكثر تأويلاتها حول أي من الأنباء ستكون كاذبة. وتبنَّت حكومات كثيرة حول العالم فرض العقوبات على نشر الأنباء الكاذبة، ووجدت الدكتاتوريات بالفايروس فرصة لزيادة القمع. فعلى سبيل المثال، ما العمل مع الحكومات التي تنشر هي الأنباء الكاذبة حول حقيقة فايروس كورونا وعدد المصابين لديها، وتلك التي أنكرت خطورته، وامتنعت عن اتخاذ إجراءات لحماية مواطنيها، وكذلك التي تستمر بالكلام حول خطورة اللقاحات، ألن تُدْرِج كلّ من يتحدث عن خطورة الفيروس ضمن ناشري الأنباء الكاذبة؟

لذلك نرى أنه، إذا توفرت للحكومات التي تصف نفسها بالديمقراطية الفرصة للانقضاض على هذه الديمقراطية فإنها لا تتوانى، خصوصاً بعدما أظهر الفيروس أنها تبحث عن ذريعة لتتحلل من تبعات تلك الديمقراطية وكفالة حقوق الانسان في بلدانها. وفي هذا السياق، ماذا يمكن لمواطن يعيش في ظلّ أنظمة دكتاتورية في عالمنا الثالث، أو حتى في دول تصنف ديمقراطية ويحكمها أناس دكتاتوريون باسم الديمقراطية، مثل هنغاريا، ماذا يمكن لهذا المواطن أن يتوقع سوى مزيد من القمع والحرمان من الحقوق وتراجع المستوى المعيشي. ويبقى التعويل على افتراض أن ما طرأ هو أمر وقتي، وأن الناس سيعودون بعد تراجع الفيروس إلى التفكُّر بما حلَّ بهم.