أميركا والصين
منذ بدء العلاقات الاميركية الصينية على المستوى القيادي والتي تعود الى الزيارة التاريخية للرئيس نيكسون الى الصين الشعبية عام 1972 حاول الاميركيون العمل على عدة جبهات أهمها:
- التراجع التكتيكي عن المعاداة السافرة للصين من خلال اعتبار تايوان (الصين الوطنية) ممثلا للشعب الصيني والحؤول دون شغور بكين العضوية الدائمة في مجلس الأمن، والأمم المتحدة عموما، وفتح المجال أمام بدء علاقات ديبلوماسية طبيعية مع الصين؛
- إستغلال حالة العداء التي سادت حينها لأكثر من عقد من الزمن بين الصين والإتحاد السوفياتي والتي وصلت عام 1969 الى حد نشوب صراع مسلح حول إحدى الجزر(دامانسكي أو تشجن باو داو، حسب تسمية كل طرف) المتنازع عليها في مجرى نهر أوسوري على الحدود بين البلدين.
- التعاون في الصراعات الأقليمية الدائرة (أهمها الصراع الهندي-الباكستاني) حيث كانت أميركا والصين معا تدعمان لوجيستيا وسياسيا الباكستان الطرف المعادي للحليف السوفياتي؛
- مد جسور لتعاون اقتصادي حاولت من خلاله الولايات المتحدة الإستفادة من الهوة الإقتصادية الهائلة بينها وبين الصين لتمرير مشاريع يستفيد منها بشكل رئيسي الإقتصاد الأميركي مع إيجاد بعض فرص العمل التي تسمح بتحسن الوضع المعيشي لفئات من الصينيين.
مع حسم الصراع بعد غياب ماو تسي تونغ لمصلحة الخط الذي رسمه تنغ هسياو بينغ (1924-1997) والقائم على "القفزات التطورية الأربع" (Four modernization principle) للصناعات الدفاعية (العسكرية) والزراعة والعلوم والإنتاج الصناعي بدأت الصين مرحلة مميزة من التطور الإقتصادي وصلت معدلاته السنوية الى ما يزيد على 20% لتتنخفض بعدها تدريجيا الى نحو 15% وهي الآن ما زالت بين أكثر المعدلات العالمية (5-7% سنويا) ( ما بين عامي 1990 و 2018 زاد الناتج القومي للصين 2162% مقابل 244% لأميركا و 253% لروسيا). هذه الفورة الاقتصادية والانتاجية جعلت الصين تتبوأ حاليا المركز اللأول في العالم للناتج الاقتصادي (23393 مليار دولار عام 2019 مقابل 21433 مليارا لأميركا و 9542 للهند، 5451 لليابان، 4672 لألمانيا و 4136 لروسيا ) رغم ان نسبة الدخل القومي الى الفرد ما زالت دونها في الدول الغربية (حسب معطيات صندوق النقد الدولي لإحصائيات عام 2019 : 65254 دولارا في أميركا، 56226 في ألمانيا، 49799 في فرنسا، 43149 في اليابان، 28184 في روسيا، 16709 في الصين، مع الاشارة الى ان هذه النسبة في هونغ كونغ تبلغ 62267 دولارا، أي انها قريبة لأميركا، أما في ماكاو الصينية فهي الأعلى في العالم وتصل الى 121764 دولارا)
ان ارقام الدخل القومي الواردة أعلاه يمكن ان تدلنا على الأسباب التي حدت بالولايات المتحدة لفتح حربها الضروس ضد الصين، فعلى المحك خطر كبير يجثم على سيطرة اميركا الإقتصادية والمالية على العالم، سيما وان الصين ترفض ان تكون مطية طيعة للسياسات الأميركية كما هي الان مع أوروبا الأطلسية أو اليابان أو كندا وأوستراليا (رغم بعض الإعتراضات الخجولة لهذه البلدان على الإجراءات الأميركية). بالطبع لا تعجب أميركا ندِّية الصينيين واستقلاليتهم. فبعد تفكك الإتحاد السوفياتي ظلت أميركا تتصرف وكأنها الحاكم والناهي، وأن أحادية القطب ستستمر الى ما لا نهاية حتى اصطدمت بالجدار الصيني فمستها حالة من الغليان السياسي والمنهجي. ومع غياب تصور علمي وتحليلي منطقي لإدارة الأزمة لجأت الى سياسة الإملاءات التي ترافقت مع الكثير من الهجوم الإعلامي والعقوبات التي فرضتها على من تسميهم علنا ب"أعدائها" وفي مقدمتهم الصين و روسيا وإيران وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية.
وبالنسبة للصين فقد تركزت الحملة الأميركية على مواضيع هونغ كونغ والإيغوار والجهومات السيبريانية والحريات والتجسس الصناعي وغيرها، إضافة الى فرض ضرائب إضافية على الواردات الصينية ومحاربة التكنولوجيات الصينية المتقدمة والمنافسة لمثيلاتها الاميركية (كتطوير الصينيين لتقنية 5G، مثلا). لكن الصينيين اثبتوا، حتى الآن، انهم ليسوا لقمة سائغة يستطيع الأميركيون بسهولة فرض إملاءاتهم عليهم. ولعل جولة المحادثات الأخيرة بين البلدين في ولاية ألاسكا في 19 آذار/مارس الماضي لمثال ساطع على تعاطي الصينيين مع التدخلات الاميركية، فبعد المداخلة الافتتاحية لناظر الخارجية الأميركية بيلينكن ومستشار الأمن القومي سوليفان جاء رد حاسم من جانب الوفد الصيني ممثلا بمسؤول العلاقات الخارجية يانغ جي تشي ووزير الخارجية وانغ يي باتهام أميركا باستخدام قوتها العسكرية وسيطرتها المالية كوسيلة للضغط على الدول. ورفض الصينيون بشكل قاطع أي تدخل أميركي في أمور هي شأن داخلي للصين مذكرين ان الصين لم تسمح منذ 20 أو 30 سنة بمثل هذه التدخلات (يفهم هنا انه حتى عندما لم تكن الصين بمثل قوتها وعظمتها الحالية فان هذه الأمور كانت مرفوضة قطعيا). الاميركيون اتهموا الصينيين بعد المباحثات انهم قدموا مسرحية من خلال مداخلاتهم. ربما، لاننسى ان تاريخ المسرح الصيني يعود لآلاف من السنين سبقت نشوء الولايات المتحدة الأميركية ، وبرأيي فقد نجح الوفد الصيني في تمريغ انوف المفاوضين الاميركيين بالوحل، وهذا ما بان واضحا على وجوههم التي باتت شاحبة اللون وهم يستمعون الى "الدروس" الصينية.
ان مقارعة الصينيين الندِّية انما لتعبر ان الأوراق ليست كلها بحوزة الأميركيين، كما يحب الأخيرون أن يكون الأمر على ذلك النحو. صحيح من جهة أن صادرات الصين الى أميركا تزيد على 600 مليار دولار، وهذا عامل شديد الأهمية بالنسبة للصناعة والتجارة الصينية ، ولا شك ان اي عقوبات أميركية سيكون لها آثارها السلبية ، لكننا لا يجب ان ننسى بالمقابل إعتماد الاقتصاد الاميركي على البضائع الصينية ، بل والأكثر تحديدا اعتماد المستهلك الأميركي عليها، فهذا المستهلك لن يتقبل دفع أثمان زائدة على مشترياته ، وبالتالي سينتج تناقص مصالحي بين الحكومة وابناء البلد قد يؤدي الى نتائج لا تحمد عقباها.
كما لا يمكننا ان نغفل دعم الغالبية العظمى من الشعب الصيني لنهج قيادته والذي يجعل القيادة الصينية تتصرف بهذا المقدار العالي من الثقة بنهجها السياسي والإقتصادي لتنفذ بنجاح خطواتها التكتيكية على درب استراتيجياتها السياسية والاقتصادية والدفاعية التي اقرها الحزب الشيوعي الحاكم.
إن المحاولات التي تقوم بها قلة في هونغ كونغ (حتى وان شكلت نسبة ملحوظة بين سكان المدينة) أو جزء من الإيغوار أو سكان التيبت لخلق حالة من عدم الاستقرار في البلد، والتي يشارك فيها ما لا يصل الى 0.1% من مجمل سكان الصين، أضعف من ان تشكل خطرا وجوديا على النظام في بكين سيما وان ميزان القوى في القيادة الصينية حسم منذ سنوات لصالح الخط الذي يتزعمه شي جين بنغ والقائم على تمتين السيادة الصينية كقوة عظمى لا يمكن التعاطي معها الا وفق هذا الاعتبار. أما التغطية الإعلامية والدعم السياسي واسع النطاق من قبل الغرب عموما وأميركا على وجه الخصوص لما يجري في الصين من قلاقل بين الحين والآخر فقد فشل حتى الان في خلق حالة جدية من التزعزع أو عدم الاستقرار داخل المجتمع الصيني. ولا شك ان الغالبية العظمى من سكان هونغ كونغ،مثلا، يدركون تمام الادراك ان البحبوحة التي يعيشون فيها هي بفضل لعبهم دور الوسيط التجاري بين الاجنبي وبلدهم، وان اي قطيعة او توتر شديد مع بكين سيكون لها عليهم وقع الكارثة وستودي بمدينتهم المشعة الى أفق مظلم، لذا من المشكون بأمره ان يقطعوا "انبوب الاوكسيجين" الذي يتنفسون اقتصاديا من خلاله.