تنافس قادة الأحزاب بمن فيهم نتنياهو زعيم حزب الليكود وعايير لابيد زعيم حزب يش عتيد ونفتالي بينيت زعيم حزب يمينا، على منصب رئيس الوزراء منذ الانتخابات من خلال المناورات السياسية وإجراء محادثات مع قادة الأحزاب الآخرين بعد الجولة الانتخابية الرابعة خلال عامين والتي دارت رحاها في ٢٣ آذار الماضي.
وكانت خارطة القوى المتمثلة بالكنيست بعد الانتخابات الأخيرة استقرّت على الشكل الآتي:
الكتلة المناهضة لنتنياهو، التي تضم "يش عتيد " (17 مقعدا)، أزرق أبيض (8)، العمل (7)، يسرائيل بيتنا (7)، القائمة المشتركة (6)، ميرتس (6)، والأمل الجديد (6)، فازت بـ 57 مقعداً في الكنيست من أصل 120، وستحتاج إلى دعم جميع الأعضاء الأربعة في القائمة الموحدة وائتلافها من أجل الفوز بأغلبية في الكنيست، وكذلك دعم حزب يمينا اليميني. في المقابل، ستحتاج الكتلة المؤيدة لنتنياهو، التي تضم الليكود (30)، شاس (9)، يهدوت هتوراة (7)، والصهيونية المتدينة (6) دعم يمينا. لكن ذلك سيمنحها 59 مقعداً فقط – ما لم تعتمد على دعم حزب القائمة الموحدة الإسلامي.
سيكون أمام نتنياهو 28 يوماً لتقديم حكومته (أي حتى 5 أيار). وفي حال فشل المرشح في القيام بذلك بحلول ذلك الوقت، يمكنه طلب تمديد لمدة أسبوعين، أي حتى 19 أيار، على الرغم من أن الرئيس غير ملزم بالموافقة عليه.
هذا في الشكل. لكننا هنا لا نتحدث أو نحلّل دولة عادية قائمة استقلت يوماً ما وبنت نفسها وسياستها وقوانينها في محيط طبيعي فيه تنوّع مقبول نوعاً ما. انما هذه ليست حال إسرائيل التي قامت على اغتصاب أرض فلسطين واستباحة شعبها وزرعت نفسها في محيط ملتهب ولم تفلح إلّا في مزيد من الحروب والدمار لجيرانها وبذور انحلال هذا النظام في داخله وليس آخرها إعلان يهودية الدولة الذي إن لم تظهر انعكاساته على الأقليات المسيحية والمسلمة الآن في الداخل المحتل، إلّا أنّ هذا الحدث وانعكاساته سوف يتمظهر لاحقاً ويترك آثاراً جسيمة على مستقبل الكيان الصهيوني وتفاقم أزمته السياسية.
المراقب للوضع السياسي الداخلي في الكيان الصهيوني، سرعان ما يلاحظ دخول الكيان في سلسلة من الأزمات السياسية والقانونية، يُعبّر عنها في إجراء أربعة انتخابات تشريعية في غضون عامين. مظاهر هذه الأزمات يمكن تلخيصها بالتالي: أحزاب تتشكل على وقع كلّ انتخابات لتعود وتختفي وتضمحل بعدها، تكتلات سياسية لا تقوم على أسس ايدولوجية وسياسية بل شخصية ومنفعية، نتيناهو يشخصن الصراع السياسي ويحصر كلّ شيء به، انعدام الثقة بين أطراف سياسية تدخل فيما بينها في تحالفات انتخابية لتتبعثر بعد إعلان النتائج، تلاشي ذلك الانقسام العامودي التاريخي الذي كان يميّز الحياة السياسية في إسرائيل بين " يمين " و " يسار "، فاليمين أصبح كتلاً عديدةً فيه القومي والديني والمتشدّد والوسط، واليسار أيضاً بلا هوية واضحة في ظلّ اندثار لحزب العمل الإسرائيلي. هذا المشهد السياسي المشار إليه أعلاه حاول نتيناهو تعويضه من خلال عقد اتفاقات تطبيع بين دولته وكلٍّ من الامارات والبحرين ومحاولات عقد تطبيع أيضاً مع السودان ودول عربية وخليجية عديدة، وإطلاق حكومته لبرنامج تلقيح المواطنين الإسرائيليين بسرعة وفعالية شديدة قبل الانتخابات لعلّه يحصد ثمارها في الحدث الانتخابي. إلّا أنّ كلِّ هذا لا يغيّر حقيقة أن نتيناهو يعيش أسوأ أيامه حالياً بعد رحيل حليفه الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب وسط تفاقم التهديدات " الأمنية الاستراتيجية " من إيران وحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية.
بالعودة إلى التطوّرات على مستوى تأليف الحكومة، فقد أشارت صحيفة " تايمز اوف إسرائيل" يوم الإثنين في ٥ نيسان الى " يوم مكثّف من الاجتماعات مع الأحزاب السياسية للتشاور حول مرشحها المفضل لتشكيل الحكومة المقبلة، أعرب الرئيس رؤوفين ريفلين يوم الإثنين عن أسفه لأنه “في الوقت الحالي، لا أستطيع أن أرى طريقة لتشكيل ائتلاف”. وفي تصريحات حادة، أضاف الرئيس أنه بعد “أربع حملات انتخابية، استنفدت الديمقراطية نفسها”.
وفي وقت يواجه فيه تننياهو أولى جلسات الإستماع في إحدى قضايا الفساد التي تتعلّق بمحاباة إعلاميين وفساد التقى الرئيس بأعضاء حزب الليكود اللذين أصرّوا على ترشيح بنيامين نتنياهو وكانت الجلسة عاصفة وغير مريحة بينما أوصى أعضاء حزب يش عتيد بترشيح زعيمه يائير لابيد وهو ما أيّده أعضاء حزب أبيض أزرق أيضاً بينما أوصى حزب شاس الديني بترشيح نتنياهو وأوصى وفد حزب يمينا بتكليف زعيمه وزير الدفاع السابق نفتالي بينيت.
أمّا القائمتان المُمثِّلتان لأحزاب فلسطينيّي عام 1948، فامتنعتا عن التسمية، وإن كانت إحداهما، وهي القائمة "الموحّدة" برئاسة منصور عباس، مستعدّة للائتلاف من بعيد، مع نتنياهو.
وفي ردود الفعل على النتائج، أعرب محلّل الشؤون السياسية في القناة 12 الاسرائيلية عن تشاؤمه من إنتاج حكومة وسط الحديث للمرة الأولى عن تشرذم وتخبّط في عملية ديمقراطية طبيعية يفترض بها إنتاج سلطة جديدة ضمن النظام العام. وعلى المقلب الآخر، تحدّث رئيس تحرير جريدة " رأي اليوم " اللندنية عبد الباري عطوان في تحليله للنتائج عن خروج العرب الذين يمثّلون خمس مجموع السكان (مليون ونصف مليون نسمة) بخسارة كبيرة بعد نجاح مخطط نتنياهو بالتعاون مع السلطة الفلسطينية في رام الله في شق صفوفهم بعد الخلافات على القيادة داخل القائمة المشتركة التي تراجعت قواعدها من 15 إلى 8 مقاعد. وأضاف عطوان إن دور الحركة الاسلامية الجنوبية بقيادة منصور عباس قد ساهم في تراجع دور القائمة المشتركة كما من الممكن أن تختار هذه القائمة نتنياهو لرئاسة مجلس الوزراء.
ومن المرجّح أن تحتاج الكتلتان إلى دعم حزب يمينا اليميني بزعامة نفتالي بينيت، وحزب القائمة الموحّدة الإسلامي بزعامة منصور عباس لتأمين أغلبية 61 مقعداً في الكنيست المكوّن من 120 مقعداً وتشكيل حكومة. ولم يلتزم يمينا، بمقاعده السبعة، والقائمة الموحّدة، بمقاعدها الأربعة، لأيٍّ من الجانبين حيث استبعد المشرّعون من اليمين في كلٍّ من الكتلتين المؤيِّدة والمناهضة لنتنياهو الشراكة مع الأحزاب العربية، مما يعقّد أي إئتلاف أغلبية محتمل، وهو ما قد يتطلب دعم هذه الأحزاب على الأرجح. وتعثّرت الكتلة المناهضة لنتنياهو أيضاً بسبب الخلافات حول من سيقودها. وأشارت تقارير إعلامية يوم الأحد إلى أنه على الرغم من أن بينيت يفضّل حكومة يمينية بقيادة نتنياهو، إلّا أنه إذا لم تكن هذه الحكومة ممكنة، فقد يختار التحالف مع الكتلة المناهضة لنتنياهو لتشكيل حكومة لتقاسم السلطة ومنع انتخابات أخرى.
إذاً، بعود "بيبي" إلى تصدّر المشهد المضطرب في ما ينتظر باحثو ومحلّلو الشؤون الإسرائيلية مصيره الذي يتوقّع له الفشل مجدّداً في إنتاج حكومة ائتلافية وهو الشخصية التي طبعت مرحلة كبيرة اتّسمت بالبراغماتية واللعب على التناقضات إلى جانب اليمينية المتشدّدة والنزعات الاقصائية في الحكم مما يجعله وريثاُ بطريقة عجائبية لمناحيم بيغن بعكس طرحه عند بداية حكمه عندما ادّعى التحديث كما اعتمد خطاباً تخويفياً استقطب النخب المتديّنة واليمينية في المجتمع. وفي تحليل لشخصيته المثيرة للجدل اعتمد الصحافي أمين قمورية "بورتريه" لرئيس الوزراء الاسرائيلي وصفه فيها بالساحر والملك ولص الكراسي. ونقتبس من مقالة قمورية التالي: "بيبي" صاحب القدرة الخطابية جمع أوراق التطرّف، ووضعها على طاولة المزايدات، سعياً للتربّع على قمة هرم السلطة. كذّب الحقائق، وطوّع الجغرافيا، وخاض الصراع نحو بريق الحكم، بلا محرّمات أو تابوهات. هو الإبن الشرعي للصهاينة الأوائل. أكسير صلفهم وغيّهم وكذبهم ولصوصيتهم. أجداده وضعوا اللبِنة الأولى لسرقة أرض فلسطين وهو تعهّد ألّا يترك شبراً منها لأهلها.
تأسيساً على ما تقدّم، لا يبدو أن ثمة أمراً ثابتاً في السياسة الإسرائيلية. هي زئبقية لدرجة أنّ متى يحين نشر هذه المادة، من الممكن أن يتغيّر الكثير من الأمور. غير أن الثابت الوحيد أنّ الكيان الصهيوني دخل في دوّامة سياسية ستزاد على التحدّيات الداخلية والخارجية التي يواجهها مع عدوانية شرسة لا يزال يمارسها على الشعب الفلسطيني وعلى شعوب المنطقة وإن غلّفها بطابع " ديمقراطي " بين فينة وأخرى. ومع رحيل دونالد ترامب من غير المتوقّع أن يستطيع رديفه في تل ابيب أن يكمل المشوار الجدلي نفسه في شرق يستوي على فوهة بركان.