بعد نيلِ الجزائر استقلالها، حكمَ حزبُ جبهة التّحرير الوطني الجزائر وحده. وبعد عقودٍ من هذا الحكم، أي في أواخر الثمانينيّات، وفي ظلّ انخفاضِ أسعارِ النّفط الّذي يشكّل مصدر الدّخل الرئيسيّ للبلاد في السّوق العالميّة وفيما كان الفسادُ ينخرُ الدّولة، ومع تراكمِ عواملَ عدّةٍ أخرى، اشتدّتِ الأزمةُ الاقتصادية على الجزائريّين وتفاقمتِ الأزمةُ السياسيّةُ في البلاد ممّا أدّى إلى اندلاعِ انتفاضةٍ شعبيّة فيها في اكتوبر 1988. وكانت أولى شعارات هذه الانتفاضة: إلغاءُ حكمِ الحزب الواحد. وبعد عدّة أشهر، نجحتِ الانتفاضة بتحقيقِ مطلبها الرئيسي وأُقرَّ دستورٌ جديدٌ للبلاد. وقد شكّلَ هذا أوّلَ الغيث، فبعدَ هذه المرحلة بالذّات، كانت حقبةٌ جديدة من الصّراعات الدموية بانتظار الجزائر.
انتخابات عام ١٩٩١
أجرت الجزائر أولى انتخاباتها عام ١٩٩١، وكانت جبهةُ الإنقاذ الاسلاميّة المرشّحة الأقوى لهذه الانتخابات. وهي جبهةٌ أصوليّة وُلدت وتضخمّت ولاقت شعبيّةً كاسحة في الجزائر في وقتٍ قصير. وعلى هذا الموضوع، يعلّقُ بونتيكورفو بالقول: إنّه لأمرٌ منطقي، فالجبهةُ اختصرت أغلب الطّريق لكونها أنشئت على قاعدةٍ جاهزة فيها جميعُ مقومّات الحزب (كالتنظيم والدعاية والمال والنشاط، الخ)، فهناك ١٠٠٠٠ جامع تحت سيطرتها للقيامِ بهذا العمل..
فانتهت الدّورةُ الأولى للانتخابات إذاُ بفوز جبهةِ الانقاذ الإسلامية. لكنَّ هذه الانتخابات لم ترَ النور إذ أُلغيت الدّورةُ الثّانية وأنشئ المجلسُ الأعلى للدّولة الّذي ما لبث أن استدعى الرّئيس بوضياف، وهو أحدُ أركان الثّورة الجزائرية، للعودةِ من منفاه الطّويل واستلامِ الرّئاسة. وانقسمَ الجزائريّون حول إلغاء الانتخابات إلى عدّة آراء، فاستنكرَ بعضهم القرار فيما رأى آخرون أنّ هذا الإلغاء هو القرار الأنسب. وفي هذا الصّدد، يقابلُ المخرجُ بعض الجزائريين لتوثيقِ آرائهم: تقولُ إحدى النّساء النّاشطات مثلًا أنّ حكمَ الجبهة كان ليشكّلَ جحيماً لأغلبِ النّساء الجزائريّات. وتروي كيف أنّ الممارسات الإرهابية تجاه النّساء كانت قد بدأت بالفعل، حتّى قبل استلامهم السّلطة، حيث كانت حواجزُ الجبهة تتحّققُ من أوراقِ كلِّ امرأة وشابّ يمرّون في الشوارع، فإذا لم يكونا متزوّجين، يبدأون فورًا بضربِ المرأة. وتسردُ كيف حدثَ هذا مسبقاُ لإحدى صديقاتها. وفي مقابلةٍ أخرى مع جزائريٍّ داعم للجبهة، يقولُ هذا الأخير: ''على الأقل، تعرفُ الجبهة مَن الجدير بالحكم بين المرأة والرجل''. وعلى أيِّ حال، إنّ مسألة المرأة ليست المسألة الوحيدة الحسّاسة في المقابلات، إنّما الجديرُ بالذّكر هو بُعدُ نظر المخرج الّذي كان قد تناول هذا الموضوع بدقّةٍ قبل عشرات السّنوات عند إخراجه للفيلم، بحيثُ تقصّد الإشارة إلى محاولات تغييب دور المرأة الجزائرية.
وهذا الانقسامُ لدى الشّعب الجزائري، بين مؤيّدٍ للجّبهة ومعارض لها، وبين معارض لإلغاء الانتخابات ومؤيّدٍ له، شكّلَ البداية والشّكل لانقسامٍ أكبر بكثير؛ هو انقسامٌ بين الجزائريين الّذين يقبعون في براثن الفقر ويتعلّقون بوعودِ وآمال المشروع المخلّص وفئةٍ أخرى تمسكُ الدّولة والمؤسّسات العسكريّة والدينية على اختلافها.
الرّئيس بوضياف
كما سبق وذكرنا، بعد إلغاء الدّورة الثّانية، استُدعيَ أحدُ آباءِ الثّورة الجزائرية، المحبوب محمّد بوضياف، لاستلام سدّة الحكمِ. لكن هذه المرّة أيضاُ، كانت نارُ الخرابِ الجزائريّ أقوى من أن يبصرَ هذا الحلّ النّور. فاغتيلَ الرئيسُ بوضياف خلال افتتاحه صالة مسرحٍ في قصر الثّقافة. وتقاذف الشّعب الاتهامات بلا أيّ جدوى بين الإسلاميين والعسكر حتى انتهى الأمرُ بالرواية الرسمية إلى اعتباره عملًا فردياُ من بومعرافي مبارك. ولا عاقلَ يصدّقُ طبعاً هذه القصّة.
وفي الفصل العاشرِ، وتحتَ عنوان (تصفيات في هرم السلطة) في كتاب '' الإسلاميون والعسكر سنوات الدم في الجزائر''، الّذي يتحدّث فيه الكاتب محمد سمرواي، وهو عقيد الاستخبارات السابق، عن جوانب العمليّة ويحيطُ بها، يُرجُع هذا الأخيرُ مسؤوليّةَ العمليّة إلى العسكر. لكن تبقى هذه العمليّة بمثابةِ حلقةٍ مجهولة من ضمن سلسلةِ فوضى عارمة كانت الجزائرُ تسيرُ باتّجاهها فيما هي تطحنُ كلَّ من يقفُ في وجهها.
وقبلَ بضعة أيّامٍ من اغتيال بوضياف، وخلال وجودِ بونتيكورفو بالجزائر، أجرى هذا الأخيرُ مقابلةً مع الرّئيس بوضياف الّذي عبّرَ عن موقفه بأنّ ديمقراطيّةَ الجزائر ما زالت غير ناضجة لأنها غير مبنيّةٍ على قواعدَ تسمحُ فعلاُ بالاختيار الدّيمقراطي، وأنه في حال أجريت الدّورة الثّانية كانت البلادُ لتسيرَ نحو الخراب.
في العودةِ إلى المحاولات الغربيّة
خلالَ مقابلةٍ على التّلفزيون الإيطالي "ميكسر" الّذي نشرَ عودة بونتيكورفو إلى الجزائر، تَظهرُ محاولاتُ الإعلامي الإيطاليّ بشكلٍ واضحٍ أثناء مقابلته مع المخرج، بأن يصطادَ بالماء العكر، إذ يحاولُ تحميلَ مسؤوليّة الّذي يحصل للإسلام، باعتباره ديناً مقروناُ بالتعصّب الأعمى ورفض الآخر، بخاصّة عندما يظهرُ بونتيكورفو في بعضِ أماكن الجزائر مرفوضاً. لكنَّ المخرجَ الماركسي يقطعُ الطّريق مباشرةً على الإعلامي، ويرفضُ هذه الأحكام والدّعايات الغربّية الهادفة. ويبدأُ بإعطائه أمثلةً ودلائلَ تاريخيّة وواقعيّة تُؤكّد أنّ ممارسات الجبهة المتطرّفة ليست خاصّةً إسلاميّةً إنّما هي ردّةُ فعلٍ على ظروف الواقع، أي ظروفِ الفقر والتّجربة مع الاستعمار وغيرها، ممّا يجعلُ هذا الشّكل من الرّفض شكلًا مقبولاً لدى الجزائريين.
وبالرّغم من أنَّ بعضَ الجزائريّين وبالأخص من ناشطي الجبهة، رفضوا التكلّمَ مع المخرجِ وطردوه من بعضِ الأماكن باعتباره غربيّاً، إنمّا يبدو أنَّ الثّقة والرّصيد اللّذين اكتسبهما غيلو عند الشّعب الجزائري منذ إخراجه لفيلم معركة الجزائر لم يتبدّدا بسرعةٍ؛ فالشّعوب بالرّغم من كلّ شيء، تملكُ القدرة على تمييزِ صديقها من عدوّها.
فعلى سبيل المثالِ، استطاعَ المخرجُ بشكلٍ استثنائي وغيرِ مسبوق، أن يحضرَ مع كاميرا التّصوير دفنَ أحدِ قادةِ المقاومة وصلاتِه. وقد سُمحَ له كذلك بالدّخولِ إلى أحياءِ الفقر في القصبة بترحيبٍ كبيرٍ من أهله، وهي مقرُّ فيلمه القديم معركة الجزائر. وقد حصلَ هذا السّماح بفترة منعٍ تامٍّ لمدّة سنتين متتاليتين لأيِّ صحافيٍّ أن يدخلَ إلى القصبة. ومن هناك، عبّر عن الحالة القائمةِ بجملةٍ واحدة: ''إذا أردت في أيِّ وقتٍ أن تعرفَ بحقٍّ ماذا يجري في الجزائر، عليك التوجّه إلى القصبة.
خاتمة
إنّ أهمّ العبرِ من هذه العودة تتعلّقُ بمسألة علاقةِ دولنا بالغرب، حيثُ بقيت بلادُنا في تلك المرحلةِ تابعةً للاستعمار الجديد رغم استقلالها من الاستعمار القديم. هو استعمارٌ بآليّات التبعيّة الجديدة، من نهب منظمات النفط العالمية والتّكنولوجيا والتّبادل غير المتكافئ، إلخ. وتبقى هذه التّبعيةُ مسبّباً رئيسيّاً لحالات الفقرِ والبؤس في مجتمعاتنا العربيّة وكلّ تبعاتها الاجتماعية. وهكذا، وبعد أحداث عام ١٩٩٢ في الجزائر، دامت مسبحةُ الدّماء عشر سنواتٍ حتّى عام 2002؛ وعُرفَت هذه السّنوات العشرة من تاريخها الأسود باسم "العشرية السوداء".