صراع الجنرالات يهدد وحدة السودان
يضع البعض للصراع في السودان عنواناً يتلخص في أن بقاء الدولة مرهون بدعم البرهان، أما انتصار حميدتي أو الوصول لتسوية تسمح لميليشيا الدعم السريع بالبقاء ككيان مستقل يعني الانتقاص من سيادة الدولة السودانية أو فشلها.
في الوقت الذي أُعلِنَ فيه عن سيطرة الجيش السوداني على أم درمان في العاصمة السودانية، وطرد قوات الدعم السريع منها، وزيارة قائد المجلس العسكري الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، لها لتكريس هذه السيطرة، تستمر معاناة الشعب السوداني بسبب هذه الحرب التي ليست حربه. وإذ لا يمكن تصنيف هذه السيطرة، سوى أنها جولة أخرى من جولات الحرب العبثية في هذه البلاد، من غير المتوقع أن يكون لهذا الإنجاز من تأثير فارق في حرب أكملت شهرها العاشر من دون أن يُسجَّل فيها غلبة لأحد طرفيها على الآخر. بل على العكس، يدعو هذا الإنجاز إلى الخشية من أن يتخذ البرهان من (النصر)، دافعاً لزيادة وتيرة الحرب التي اندلعت، في 15 أبريل/ نيسان 2023، طمعاً في تحقيق إنجازات مقبلة شبيهة به، متناسياً أن ثمن ذلك سيكون آلاماً وخراباً يلحقان بالسودان وشعبه.
في الوقت الذي كان السودانيون يتوقعون فيه توقيع ما سمي "اتفاق الحل النهائي" بين المكون المدني بقواه السياسية من جهة، وبين المجلس العسكري بقيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دَقَلو، المعروف باسم حميدتي، بداية أبريل/ نيسان 2023، اندلع الصراع العسكري بين القائدين العسكريين، وأدخل البلاد في حرب أهلية جديدة. وكان متوقعاً لهذا الاتفاق أن يكون استكمالاً للاتفاق الذي سبقه والذي كان من أنضج الاتفاقات وأكثرها شمولاً، وهو "الاتفاق الإطاري" لحل الأزمة السياسية في البلاد الذي وقعه المكون المدني والمجلس العسكري، في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2022، والذي وضع أسس انتقال السلطة للمدنيين ضمن فترة حكم انتقالي يقودها المدنيون، بينما تُحَل قوات الدعم السريع ويعود الجيش بموجبه إلى الثكنات فلا يتدخل في الأمور السياسية أو الاقتصادية إلا ما يتعلق بالتصنيع الحربي.
ويُعدُّ الاتفاق الإطاري دليل عمل للمرحلة الانتقالية التي كان سيتنطَّع ممثلو القوى المدنية للسير بها من أجل تكريس شكل الدولة المدنية ومؤسساتها وأجهزتها، وتحقيق العدالة والعدالة الانتقالية والإصلاح الاقتصادي وإصلاح الجيش والأجهزة الأمنية، ووضع جدول زمني لحل قوات الدعم السريع (الجنجويد سابقاً) ودمج عناصرها في القوات المسلحة، وتنفيذ اتفاقات السلام، ومنها اتفاق جوبا لسلام السودان وانضواء الحركات الثورية المسلحة ضمن الدولة. وكان من أهم بنود الاتفاق هو بند إزالة التمكين من أجل تفكيك نظام 30 يونيو، نظام عمر البشير الدكتاتوري، واجتثاث رموزه من أجهزة الدولة والجيش، وهم الذين أعاد البرهان قسم لا يستهان به منهم إلى مواقعهم بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، على الوثيقة الدستورية الذي نفذه بالتعاون مع حميدتي ضد المكون المدني، ووضع في إثره رئيس الحكومة الأسبق، عبد الله حمدوك، وزوجته وزملائه في السجن، بعدما بلغ الأمر بهما درجةً ما عادا معها يتحملان وجود عناصر مدنية إلى جانبهما في الحكم.
وبعد عدد من الاتفاقات لنقل السلطة للمدنيين، والتي فرضها نضال الشعب السوداني، وبعد عدد من الانقلابات التي كانت تهدف لتكريس قوى الثورة المضادة، وقعت الحرب بين الجنرالين في 15 أبريل نيسان الماضي، فكانت بمثابة الانقلاب الجديد على الاتفاق الاطاري من أجل منع توقيع اتفاق الحل النهائي، وبالتالي إعادة الدكتاتورية عبر تكريس حكم العسكر بدلاً من عودتهم إلى الثكنات. ومهما يكن من أسباب ودوافع الصراع العسكري الذي أكمل قبل أيام شهره العاشر، فإنه قد نسف أي إمكانية أو أمل في دخول السودان مرحلة الحكم المدني الذي من أجلها اندلعت ثورة ديسمبر 2018، والتي كان هدفها القضاء على الديكتاتورية وتحقيق السلام في البلاد. وكما كان متوقعاً، فإن المساكنة الطويلة بين البرهان وحميدتي كانت على شفير الهاوية وتنتظر الشرارة لكي تتحول إلى صراع دموي، لأن حميدتي يرى نفسه وقواته أَوْلى بالحكم من البرهان، وهو الذي خاض حرب دارفور وباسمه الصقت جرائم الحرب وجرائم التطهير العرقي فيها. كما أن قواته هي التي اقترفت مجزرة القيادة العامة، في 3 يوليو/ تموز 2019، لإخماد اعتصام الثوار الذي كان شوكة في حلق العسكر نتيجة ضغطه عليهم بعد تنفيذهم أول انقلاب على قوى ثورة 2018.
وبالعودة إلى سيطرة الجيش على أم درمان، هنالك خوف من اتخاذها مثالاً وقدوة يمكن للجيش أن يقتدي بها للسيطرة على مناطق أخرى. وللعلم نذكِّر أن الصراع اندلع من العاصمة وبقي متركزاً فيها، وإذا ما استغرق الأمر من الجيش عشرة أشهر للسيطرة على أم درمان، فإن السيطرة على بقية أجزاء العاصمة، وعلى المناطق قد يستغرق سنوات يمكن أن تمتد معها الحرب عقوداً. وبالنظر إلى خريطة توزع سيطرة كل فصيل في البلاد، نرى تداخلاً جغرافياً ومكانياً يصل إلى حد تقاسم الفصيلين النفوذ في حي واحد وأحياناً انقسام عائلة واحدة في ولائها لأحدهما. وهنالك عامل آخر ومهم يتحكم في استمرار الحرب، وهو المروحة الواسعة لقائمة المتدخلين في الشأن السوداني التي تتوزع بين قوى عربية وإقليمية، مع وجود أصابع لقوات فاغنر الروسية في دعم حميدتي، ولإسرائيل في دعم الطرفين، وهما الذين زحفا إلى تل أبيب لخطب ودها من أجل تسويق أحدهما أمام المجتمع الدولي.
وأخيراً، وبالنظر إلى الثمن الذي دفعه الشعب السوداني من دمه وآلامه ومستقبله، وبالنظر إلى الخراب الذي خلفته حرب الجنراليْن، وزيادة عزلة البلاد وتخريب الاقتصاد والتعليم وقطاع الصحة والخدمات، ونزوح أكثر من 10 ملايين شخص داخل البلاد وخارجها، واضطرار نصف السكان، أي 25 مليون شخص للعيش على المساعدات، لا سبيل سوى وقف الحرب من أجل وقف تلك الآلام وذلك الخراب. ولا يمكن وقف الحرب إلا عبر وقف تدخل الأطراف الدولية والإقليمية فيها، ووقف دعم طرفي الحرب ومقاطعتهما وتقديم ملفيهما إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب جرائم الحرب التي اقترفاها، سابقاً في دارفور، وحالياً في عموم السودان. وبذلك يعرف كل من البرهان وحميدتي أن لا مستقبل لأي منهما في حكم السودان إلا إذا كانا يريدان إدخال البلاد في عزلة، وحكم بلاد لا تعترف أي دولة في العالم بشرعية حكم أحدهما فيها.
يضع البعض للصراع في السودان عنواناً يتلخص في أن بقاء الدولة مرهون بدعم البرهان، أما انتصار حميدتي أو الوصول لتسوية تسمح لميليشيا الدعم السريع بالبقاء ككيان مستقل يعني الانتقاص من سيادة الدولة السودانية أو فشلها.
قد يكون اللقاء الذي تمّ في أوغندا، بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ورئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، قد فاجأ البعض بتوقيته، أو في عقده، وبشكلٍ سري. إلّا أنّ المراقبين يجمعون على أنّه جرى في سياق الأحداث والتطوّرات والإرهاصات الأوّلية لـ"صفقة القرن" الأميركية، وفي إطارالتموضع والتطبيع، بين بلدان عربية عموماً، ودول الخليج على وجه الخصوص، والكيان الصهيوني. لا سيّما وأنّه اللقاء الأوّل بين مسؤول سوداني، منذ استقلال السودان عام 1956، ورئيس وزراء الكيان الغاصب.