يعيش لبنان وسط فوضى سياسية ناجمة عن تخبَط الحكم في معالجة المشكلات التي يواجهها على مختلف المستويات. تجلَت هذه الفوضى مؤخراً في انهيار قيمة الليرة اللبنانية، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وفي حجز أموال أصحاب الودائع الصغيرة، وفي ظل عجز السلطة عن الرقابة، كذلك في وعودها الواهية بإجراء الإصلاحات التي تحدّ من الفساد، في الوقت الذي تبدو فيه مؤسسات الحكم والإدارة غارقة في الفساد إلى أبعد الحدود وينخر فيها الإهتراء حدّ العجز.
"من الآن وصاعداً سيحكم المصرفيون"
إثر ثورة تموز 1830 في فرنسا، يُنقل عن أحد المصرفيين الفرنسيين قوله "من الآن وصاعداً سيحكم المصرفيون" (ماركس وآنجلز، 1895). يمكن أن نتخيّل أصحاب المصارف والرساميل يردّدون هذه الجملة ويعلنون انطلاق حكمهم في لبنان سنة 1992. عهد المصارف وهيمنة الريع هو العهد الوحيد الحقيقي الذي شهدته الجمهورية اللبنانية الثانية. هو الثابت على مرّ المتحوّلات والمتغيّرات على مرّ عقدين ونصف.
ها قد مضى حوالي مائة يوم على اندلاع الانتفاضة الشعبية، والسلطة ما زالت تماطل وتتحايل على الناس، غارقة في تحاصصاتها ومعايير نظامها الطائفي. كما مضى ثلاثة أشهر تقريباً على استقالة حكومة سعد الحريري تحت ضغط الشارع، واصلت خلالها الأطراف السلطوية هدر الوقت في تشكيل الحكومة دون طرح لأي برنامج إنقاذي.
مثّل اتفاق الطائف زواجاً مارونياً بين برجوازية صاعدة بعد الحرب الأهلية مع أمراء الحرب والميليشيات. بهذا المعنى، فإنّ النظام السياسي اكتسب قوّته ليس من صلابة الدولة بمفهومها المركزي القويّ، بل من مدى تجذّر "الدولة العميقة" فيه. لطالما كان كيان الدولة في لبنان ضعيفاً وهشّاً أي منذ إعلان دولة لبنان الكبير وحتى تاريخ ولادة الجمهورية الثانية.
أكثر من خمسين يوماً مضت، والذين راهنوا على تعب الحراك الشعبي أنهكهم التعب. انتظروا فاكْتَووا بلهيب الانتظار، وكل دواء يصفونه لشفاء جروحهم من سيوف الثورة يستحيل داءً ويصير ملحاً يُرشّ على جروحهم. أفلست السلطة وفقدت شرعيتها منذ زمن طويل وانكشف إفلاسها وتعرّت تحت ضغط الشارع والناس المنتفضين.هنا جاء دور طابور الضفادع التي خرجت من مستنقعها لتملأ الدنيا نقيقاً: تنظير ناصح لجماهير الثورة في ظاهره تارة، أو داعياً إلى الحكمة والتعقل تارةً أخرى، ولكنّه في باطنه يهدف في جميع الأحوال إلى إحباط الانتفاضة. لا هدف لهم سوى إضعاف المواجهة ووضع العراقيل بوجهها، لكنّها ظلت دوماً أقوى منهم.