عندما مضى الناس في حياتهم يخطّطون لها ويهندسون ميزاتها، كنّا نحسبهم معنا في مشوار العمر مشركين أيّاهم في مسار حياتنا أيضاً. فيما بعد، مضى هؤلاء دوننا وأكملوا حياتهم. لم ينتظرونا فيما بقيت أجسادُنا وأرواحنا محطةَ " ترانزيت " أبديّة لهم.
*****
في الغرام، أنجذبُ إلى ال characters أكثر من الشكل.
******
حبيبتي هي من أتشارك وإيّاها سردة أغاني على ساوندكلاود، ومن ثمّ نرتشف بعضاً من الويسكي الثقيل .. هي من أُخبِرها بأنّ خيباتنا من اليسار باتت أقوى من خيباتنا من النظام .. حبيبتي هي من ستقول لي كم أنا مضجرٌ من دونها، وأنّ أخبار مجموعة ال ٥ + ١ مع ايران لا تعنيها بتاتاً. حبيبتي هي من ستدعوني لنلعبَ سويّاً darts علّني أصيب سهام قلبها .. هي من سنأكل طعاماً لذيذاً ظهر يوم أحد بدل مشاهدة جبران باسيل .. حبيبتي هي من ستظهر على صدر الصفحة الأولى من مجلة سأترأس تحريرها. حبيبتي هي من ستحبّني أكثر من براد بيت، وأحبّها أكثرَ من كاريس بشّار.
*****
البارحة في إحدى أزقّة الحمراء حدث ما يلي: فتى مراهق يكلّم حبيبته على الهاتف قائلاً لها: " انسي رقمي بتلفونك". عندما استيقظت اليوم، لم يكن ليشغل بالي سوى هَذين الشخصين ورحت أتساءل: ترى هل تصالحا واليوم يصادف عيد الحبّ. هنا في أزقّة المدينة تنمو وتخبو آلاف قصص الحُبِّ الحقيقية، من دون أن نعرف عنها شيئاً. لن يصوّرَ هذا الصبي حبَّهُ ك insta story، ستظلّ حكايته أجمل ستوري بعيدة عن أعين العالم. دوّنها في مدينة تبحث عن شريك حياتها طوال الوقت، فلا تجده، ومن ثمّ تلقي بثقلها على بحرٍ فيه حكايا العشّاق وقصصهم. فيكون البحر حدودها، وحكاياه تاريخها.
*****
نحنُ نستسهل الأمور بعد إنجازها. نقول لأنفسنا: كان أمراً سهلاً. نقول هذا لأنّنا كلّ مرة نجيد هذا الفعل. ليس بالضرورة أن يكون الفعل " سهلا" بل لأنّنا مبدعون. فلنكفْ ترداد هذه اللازمة: لم يكن الأمر سهلاً..!
*****
أتمنّى أن أسرَّ لفتاة أحلامي ماذا أفعل في يومي، ومع من أتواصل، وماذا يشغل " راسي" .. أتمنى لو أستطيع أن أخبرها كم أحبّها وسط أخبار كورونا اليومية وقصف عدن ومفاوضات ليبيا وتحرّكات أنصار نافالني، وتفهمني بعد ذلك. ستقتلني ربما إذا عرفت لِمَ أتابع هذا..؟ وكيف أتعقّب السيناريوهات المحتملة؟ وكيف يشكّل كلّ هذا شغف أصيل؟ لن تفهم ربما أنها ستكون أحلى وأطول نشرة إخبارية.. أحبّ أن أخبرها كم أشتاق اليها حين يرنّ هاتفي كلّ ٥ دقائق، وحين أكتب ايمايل كلّ ١٠ دقائق، وكلّما أحتاج إلى سماع الموسيقى. أريد أن أخبرها أنّي أسرح في خيالي كثيراً، وأنّي تزوجتها قبل أن توافق، وأنّي أخطّط للسفر سويّاً الى برلين قريباً .. لا أحبّ أن أخبرها كم لديّ.. خيال خصب، بل أريدها أن تتيقن، بفعل التجربة، ذلك الخيال. وأنا بخاف خبّر حدن- لو مهما قريب- عن اللّي بدور ببالي. فَ كيف اذا هيّ " ببالي " …
*****
٣٤: اتصلت بي لوزان منذ يومين وسألتني إذا باستطاعتي أنّ أحلّ معضلة statistics. جاوبتها بالنفي، واستغربت سؤالها أصلاً كون اختصاصي لا يمتّ بصلةٍ إلى علم الإحصاء، فبادرت وقالت: ما بعرف عطالله ليه سألتك، بس بحسّك بتعرف بكل شي. يتعبني أحياناً تشعّب شغفي على مجالات عديدة إلى الدرجة التي لا أعرف كي أقدّم نفسي إلى الناس. لا أحبّ تحديد الأمور في نطاق ضيّق وأنا أرفض التخصّص. إذا كان لديك مجال لفعل أمور عديدة، وتعمل في ميادين مختلفة، ولديك طاقات متنوّعة، لماذا حصرها وتضييقها وقوننتها والبخل على انبعاثاتها. لدّي حياة في السياسة والإعلام والمسرح والموسيقى والأدب والشّعر والكتابة والسباحة .. لدّي حياة متخيلة في أغانيّ المفضلّة .. لديّ حياة لم أكملها في موسكو .. وأخرى " أحلى من برلين" .. لدّي حياة أعرتها لعشرات الفتيات اللواتي.. لي فضلٌ عليهن بأنهن بتن يحفظن أغاني عمرو دياب عن ظهر قلب، في ما قلبي بقي محطة ترانزيت أبديّة. لدّي نهم في الإخراج وأريد التخصّص فيه، والسبب أنّي أخرجت لغاية الآن جميع "مقاطع " حياتي باتقان شديد في ما الصدف التي رافقتني كفيلة بإخراج مسلسل من مئة حلقة. على مشارف ال ٣٤، بات الانسحاب من منظومة القلق واجباً لا خياراً، المنظومة تضمّ: المدينة، الأطر السابقة واللاحقة التي انتمينا اليها، ننسحب من الأطر لتبقى الأحلام. الأحلام فقط ولا مساومة عليها .. كاتبٌ ومخرج ٌومعدّ .. أعدّيت عمراً جمعت فيه ومعه تقاطعات يخالها المرء هندسةّ شعرية من الطراز الرفيع. وجدت العناوين المناسبة للدواوين: " أنا آخر اليائسين"، " لم أُحبّ كما يكفي"، " ليس الحبّ للحالمين"، و " لم يحالفني الحظّ، بل أسعفني عقلي" .. وجدت العناوين، وبقي أن نكتب مضمون فصولها في دواوين العمر .. كلّ هذا النص، بفوضاه وإشكالياته، يا لوزان أكبر عملية statistique، لل " ٣٤" ..
*****
أعيش قصصَ حبٍّ دائمةً مع قطع ثيابي. عشت معها وفيها انتصاراتي الكثيرة وخيباتي الأكثر. أحفظ في ذلك النهار الذي تبدّى فيه حلمي، أيّ جينز كنت أرتدي كما أتذكّر لون جاكيتي عندما خاب أملي في سراديب هذه المدينة. أخاف أن أتركها طويلاً، أغيّر الكثير منها حتى خلال اليوم الواحد. أعشق أن يكون لكلّ قطعة مساحة من نهاري ومن جسدي. عشت مع "قطع " ثيابي كل " مقاطع " حياتي فظلّت الوفية لي، وأنا بادلتها بوفاءٍ أكبر منه. عشت معها وفيها انتصاراتي الكثيرة وخيباتي الأكثر.
*****
من رآني مؤخراً يعرف أنّ مزاجي كان متقلّباً جداً وإنّي كنت تعِباً.. وأنا المقلّ في إظهار تعبي للآخرين. ينسحب المشهد العام عليك مهما حصنّت نفسك بأمور تحسبها مضادات أرضية أو جوية ضدّ الإحباط. أتعبني كلُّ شيء هنا وأبحث عن مكان جديد لأهبط عليه. هنا ستدخل نفسك في متاهات نقاشات داخلية تدور حول المدينة البديلة وكأنّنا نملك أصلاً ترف التفتيش عن مدننا. نحن نريد أن نسكب أحلامنا على مدن أخرى. نفتّش عن ذواتنا في مدننا. في ناس بتسكن مدن بس في مدن بتسكن ناس..! وبين أحلامنا ومدننا، تزداد المسافة ويكبر الإحباط. المشكلة تغدو أنّ إحباطنا من اليسار أقوى من إحباطنا من النظام، وخيباتنا من الأصدقاء أعظم من خيباتنا من الأعداء، وأنّ الوقت أكبر من أيّ عدوّ …
*****
والروح تبلغ مداها فينا، يسبقنا جسدنا إلى شعاع الروح. هي مداد العمر الآخذ في التقلّص والتقمّص. الروح مطواع الجسد وحركتها البطيئة. هي شبق الحكاية، ولذة اللحظة الأولى، وخفقان القلب بعد أوّلِ خوفٍ بعد أوّلِ رعشةٍ بعد أوّل حبّ. في اللحظات الأولى، تسبق الرغبة الروح. في اللحظات التي تليها، يمشيان في ماراتون أبدي، في سباق الهزيمة المكرّرة. نحمل أجسادنا بعد كلّ انكسار، نهتف على ميغافون روحنا، وما هتفت لسواها …
*****
يشدّني التاريخ / أعيش المستقبل/ ولا حاضرَ لديّ
******
لا جغرافيا للأمل/ هذا حساب العمر/ كيمياء الروح/ وفيزياء الهوى
*****
لا حظَّ لي في أنصاف الاحتمالات/ ولا في ربع الساعة الأخير/ ولا في ثلث القمر
*******
الحُلمُ لا يكون إلاّ في الجمع / لذلك لا فتاة أحلام لديّ/
******
أعيش غصْباً عنّي في محطات انتقالية/ بين لحظة العقل ولحظة الوهم/
*****
زمن منشطر / أنشطر نصفين: نصفٌ لقبلي ونصفٌ لبعدي
******
لكنّي أسقط في فنّ الاحتمالات / لم يسعفني الحظّ / بقيت خارج الزمن / خارج الاحتمالات / أعدمتها
قنبلة موقوتة في قلبي
*****
انفجرت المدينة/ لم يوقظني المنبّه يوماً/ كنت دوماً أسبقه/ كما أسبق الزمن الا أنّ احساساً عميقاً لديّ
بأنه سيرديني ب ضربة قاضية
****
صحيح أنّ الأوضاع في البلد كانت دوماً غير مستقرّة إلّا أنّ ما كان يميّزها أنّنا استطعنا – نحن الحالمين – أن نحفر حيّزاً لنا ولأحلامنا فيها فأعطينا لأنفسنا طاقةً وحيوية أفرغناها في السياسة والمجتمع والشّعر والأدب والمسرح والتمثيل والحياة الثقافية والأغاني والسهر وحياة الليل. لم تمدّنا بيروت بتلك الطاقة، بل نحن كنّا نمدّ أنفسنا بها طوال السنوات السابقة لكي نجد مبرراً للعيش فيها. كانت هي تئن بوجعها، من اضطرابات الستينيات، وشغف السبعينيات، وحروب الثمانينيات، وسِلم التسعينيات، وفورة الألفين، وجنون ال ٢٠٠٥. بين كلّ هذه الحقبات الزمينة وفي ثناياها، كانت العبوات الناسفة تزنّر المدينة بأكملها. كنّا نمشي بين عبوةٍ وأخرى، غير مدركين متى نلقى حتفنا. اغتيل سمير قصير أثناء تأديتي لامتحان في الكيمياء، وكنت أراجع مادة التاريخ لصفّ الباكالوريا عند اغتيال جورج حاوي. هذه المدينة تقع بين كيمياء العبوات وتاريخ الاضطراب. وعندما مرّت الأيام، حوّطنا أنفسنا بحزبٍ وإطار كان ملاذنا الآمن كلّ ما كانت الخيبة تجتاحنا. شيئاً فشيئاً، كان يضيق الإطار علينا، وتضيق مسافة الأمل، فغدا الحزب الذي نشدناه بديلاً عن بلد يحمل التباساً، تحوّل الى أزمة ثم أزمات ثم أزمات دورية، إلّا أن أدخلنا ودخلنا فيه ومعه وعبره بسلسلة من الأزمات المتكرّرة والقاتلة أحياناً. نحن يتامى أحزابنا ربّما صحيح، ونحن ضحايا أحلامنا ربّما أصح، ولكن عين الصواب في أنّ هذا البلد تحوّل إلى مجزرة يومية. مجزرة يراد لها أن تكون فلاش بالك أبدي. يشدنّي التاريخ، أعيش المستقبل، ولا حاضر لديّ. لربما تختصر حالتي النفسية الراهنة مصير المدينة بأسرها هذه الأيام. إنها مدينة لحظوية جداً .. فيها زمن يمتدّ. انفجرت المدينة. لم يوقظني المنبّه يوماً. كنت دوماً أسبقه. كما أسبق الزمن ...
الصورة ل: لمى نابلسي