الانتفاضة: الانتظام والتنسيق والاستعداد للمواجهة

"من الآن وصاعداً سيحكم المصرفيون"

إثر ثورة تموز 1830 في فرنسا، يُنقل عن أحد المصرفيين الفرنسيين قوله "من الآن وصاعداً سيحكم المصرفيون" (ماركس وآنجلز، 1895). يمكن أن نتخيّل أصحاب المصارف والرساميل يردّدون هذه الجملة ويعلنون انطلاق حكمهم في لبنان سنة 1992. عهد المصارف وهيمنة الريع هو العهد الوحيد الحقيقي الذي شهدته الجمهورية اللبنانية الثانية. هو الثابت على مرّ المتحوّلات والمتغيّرات على مرّ عقدين ونصف.

أدّت السياسات الاقتصادية التي أُرسيت مطلع التسعينيّات لأن يبتلع الريعُ الاقتصادَ في ظل غياب خطة شاملة توجّه الاقتصاد وتبنّيه بعد الحرب. سرعان ما قامت الدولة بتخفيض معدّلات الضرائب على الأجور والأرباح طامحة لتؤسّس لـ"جنة ضريبية" تجذب الاستثمار. إلّا أنّ إجراءً كهذا ينافي أسس الدولة الحديثة التي تعتمد الضرائب مصدراً لإيراداتها خصوصاً في ظل شبه انعدامٍ للموارد الطبيعية. تراجع الإيرادات هذا في مرحلة البناء المصحوبة بحاجة لإنفاقٍ عالٍ، رمى المجتمع اللبناني في هاوية الدين العام. أدمنت الدولة على الاقتراض، وباتت المصارف وكبار المودعين، تبتزّ هذه الدولة بالجرعة التالية. وبالتالي، تحوّل إقراض الدولة إلى "استثمارٍ" آمنٍ لا خطورة عليه كون السلطات النقدية والمالية كانت تؤكّد طوال عقدين ونصف على دفعها جميع الديون والفوائد لدائنيها غير مكترثة بالتورّم السرطاني لهذا الدين. وكذلك كان إقراض الدولة أعلى ربحيّةً من أيّ استثمار آخر بسبب الفوائد السخيّة التي كانت تدفعها الدولة. نتيجة لذلك، تمّ إغواء رأس المال وتوجيهه إلى أن يُستثمرَ بمديونية الدولة، وبالتالي حجبه عن القطاعات الإنتاجية في المجتمع.

"كان كل قرضٍ جديد يوفّر للأرستقراطية المالية فرصةً مناسبةً لنهب الدولة، الموضوعة بصورةٍ مصطنعةٍ على عتبة الإفلاس، وكان يتعيّن على الدولة أن تأخذ قروضاً من المصرفيين بأجحف الشروط" (ماركس وآنجلز، 1895)

إنّ الدين العام في أي بلد وخصوصاً في لبنان ليس مجرّد مؤشر اقتصادي حيادي اجتماعيّاً، بل هو آليّة لتحويل الثروة من أيدي العمال والموظفين والطبقات الشعبيّة إلى جيوب القلّة القليلة في المجتمع، أي الفئة المستفيدة منها من هذا الدين. هذا ما تحدّث عنه ماركس سابقاً وعاد وأكّده الاقتصادي توماس بيكيتي حديثاً مبيّناً بالأرقام والقياسات الرياضية حجم اللامساواة في الدخل والثروة في مختلف دول العالم. فالدولة في هذه الآلية تلعب دور الأداة التي تقوم بجمع الضرائب من المواطنين العاملين وتقدّم حصّة كبيرة إلى دائنيها. وكلّما كبرت مديونية الدولة المرتفعة نتيجة القروض المتزايدة والفوائد العالية التي عاظمت حجم الدين وحجمه نسبة للناتج المحلي وخدمة الدين العام، كلّما كبر حجم الثروة والدخل الذين يجري تحويلهما إلى هذه الطبقة. هكذا أدّى الدين العام إلى تركيز مكثّف جدّاً للثروة والدخل بيد الأوليغارشيا؛ تلك الفئة القليلة في المجتمع المتحكّمة بزمام السياسة والمجتمع كما ماله واقتصاده. وقد ظهر ذلك جليّاً في عدّة تقارير ومنها الورقة البحثية للباحثة اللبنانية ليديا أسود التي أظهرت عام 2014 أنّ ثلاثة آلاف شخص في لبنان فقط يستحوذون على حصّة دخل مساوية لما يتلقّاه النصف الأفقر من اللبنانيين، أي ما يزيد عن مليون ونصف لبناني. أما لناحية الثروة فإن الـ10% الأغنى يسيطرون على 70% من مجمل الثروة، فيما يسيطر الـ1% الأغنى من اللبانيين على 45% من إجمالي الثروة. هذا التركز في الثروة والدخل هو أعلى ممّا هو عليه في دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا والصين. (أسود، 2014).
والجدير ذكره أنّ هذا التركز في الثروة والدخل لا يحمل فقط مدلولات مساواتية وعدالية أي مستويات متدنيّة في العدالة الاجتماعية، إنّما ينعكس سلباً على الاقتصاد. إنّ تركّز وتمركز الثروة والدخل بيد القلّة على هذا النسق يحولها لودائع كامنة وراكدة مكدّسة في المصارف وعلى شكل سندات خزينة وأصول عوضاً عن تدويرها على شكل رؤوس أموال تُستثمر لتوسعة الاقتصاد وإنمائه وتعزيز قطاعاته الإنتاجية التي من شأنها خلق فرص العمل التي توظّف المواطنين وتستوعب الخرّيجين.

انتظام انتظام حتى نغيّر النظام
بدأت في السابع عشر من أكتوبر الانتفاضة الشعبيّة مع وصول هذا النموذج الاقتصادي والسياسي إلى انهياره الذي كان يسير إليه ميكانيكيّاً مذ أُرسيَ واستمرّ مدعوماً بسياسات تؤمّن إعادة إنتاجه. وإن كان الجناح المطلبي من الإنتفاضة يكابر ويريد تحقيق مطالبه عبر إجراءات تصحيحية في السياسات الحالية، فإنّه يجب التأكيد أنّ تحقيق جلّ هذه المطالب غير ممكن إلّا بالخروج من النموذج الاقتصادي-السياسي القائم.
ومن هنا تقع على الجناح الشعبيّ الثوريّ في الإنتفاضة مهمّة السير في هذا التغيير الثوري.

أوّلاً، بالتصدّي للعدوان الذي تشنّه الأوليغارشيا على الطبقات الشعبيّة عبر الإجراءات التعسّفيّة التي تتّخذها المصارف اليوم عبر احتجاز رواتب الموظّفين والودائع الصغيرة. إنّ هذه الإجراءات تمسّ بالمباشر سبل العيش التي يجب تحديدها كخط أحمر والتوقف عن المساس بها، وذلك في إطار "ترسيم الحدود" الذي يجب أن تجريه الإنتفاضة الشعبيّة مع الأوليغارشيا وسلطتها السياسية.
وفي هذا السياق، يجب المراكمة على التحرّكات التي طالت المصارف حتى الآن من أجل تنظيم وتأطير جميع المتضرّرين من هذه الإجراءات. لقد بات لزاماً على جناح الإنتفاضة الثوريّ دعوة المتضررين من إجراءات المصارف، موظّفين وصغار مودعين، لاجتماعاتٍ واسعة في جميع المناطق، لرصّ الصفوف وشنّ حرب الدعاوى القضائية، وأبعد من ذلك. ذلك هو المدخل للبدء بمشروع انتظام الطبقة العاملة في لبنان مسلّحةً بمشروعها النقيض.
أمّا العدوان الأعمق الذي تشنه الأوليغارشيا ضدّ الطبقات الشعبية عبر سرقة عملها والقيمة التي تنتجها فهو يجري على محورين. الأول، هو تعويم الليرة اللبنانية في اقتصادٍ يستورد جلّ ما يستهلك. هذا يعني اقتطاعاً أوتوماتيكيّاً من حصّة الموظفين والعمال أي أجورهم. فإذا افترضنا أنّ سعر الصرف الموازي في السوق الآن هو 2000 ليرة لكلّ دولار أميركي في مجتمع يشتري بالدولار سلعه الاستهلاكية من الخارج، فإنّ هذا يعني فقدان الطبقات الشعبية لـ 33% من قيمة أجورها. أمّا المحور الثاني، فهو التضخّم المهول الذي يطال أسعار السلع. فكذلك إنّ زيادة في الأسعار بمقدار 30% مثلاً تعادل فقدان الطبقات الشعبية لـ 30% ممّا تحصل عليه.

ثانياً، يترتّب على الانتفاضة الشعبيّة التحضير لحربٍ استباقية ضدّ الإجراءات التي بدأت تُتداول في أروقة مراكز القرار النقدي والمالي المحلية والدولية. إنّ تحويل الودائع إلى الليرة اللبنانية في ظلّ التعويم القائم للعملة أو الذي قد يتمّ فرضه، يعني أيضاً فقدان أصحاب هذه الودائع لحصة من قيمة ودائعهم. كذلك التحضير لمواجهة فرض إجراءات التقشّف التي يوصي بها عادة صندوق النقد الدولي في ظروف مشابهة. ومواجهة التقشّف تنبع من أنّ إنفاق الدولة اللبنانية الاجتماعي أساساً، أي خارج خدمة الدين العام واحتياجاتها، يكاد ينحصر بالحد الأدنى كرواتب وأجور موظفيها التي لا يجب المساس بها. بالإضافة إلى لا جدوى التقشف في مواجهة الأزمات الاقتصادية المشابهة التي، على العكس تماماً، يجب أن تُجابَه بإنفاق أكبر للدولة لتنشيط الاقتصاد.

ثالثاً، توخّي العلميّة. إنّ عدوان الأوليغارشيا لا يجب أن يواجَه بالخطابات أو التحركات الشعبويّة والعبثيّة الهدّامة بل بأخرى علمية تحفظ مصلحة الطبقات الشعبية والتحضير لبناء الاقتصاد المنتج. ففي المعركة ضدّ المصارف يجب التأكيد على بعض النقاط. أوّلاً، لا يجب أن يكون هدف المعركة ضدّ المصارف سحب الناس لجميع مدخراتها واكتنازها في بيوتها الأمر الذي يُعدّ مدمّراً للاقتصاد. فالهدف هو تأمين سبل عيش الطبقات الشعبيّة لا حجب السيولة عن المستثمرين ومستوردي السلع الضرورية (الغذاء، الأدوية، المستلزمات الطبية... إلخ) الذي يؤدّي إليه الإكتناز. ثانياً، يجب الحذر من "تقديس/تصنيم" الدولار على غرار "تقديس السلعة" بتعبير ماركس. إنّ الإصرار على سحب الناس لما يحتاجون ممّا يملكون من دولارات في المصارف حاليّاً هو بهدف منع سرقتهم. وبالتالي الهدف هو ضمان حقوق الناس وسبل عيشهم لا الدولار بذاته. وهذا ما يجب أن يكون منطلق الطرح الثوري النقيض لطروحات الأوليغارشيا وما وراءها من مؤسسات نقدية ومالية. ثالثاً، إن الطروحات حول كيّ ورم الدين العام السرطاني يجب كذلك أن تنطلق من هاجس بناء الإقتصاد اللبناني المنتج بقدر ما تنطلق من تخفيف العبء عن المجتمع وخزينة الدولة الآن.

خاتمة
إن كانت الثورة هي التغيير في البنية الإجتماعية، في علاقات الإنتاج في المجتمع، فهذا إذاً فيصل ميزان الثوريّة بين جناح وآخر في الانتفاضة. والتغيير الثوريّ يكون بنقل لبنان من جمهورية الأوليغارشيا المبنية على الخمول الريعيّ والتحاصص الطائفي واللاعدالة إلى جمهورية مبنية على الإنتاج والعلمانية والعدالة الاجتماعيّة. وهنا يجب التأكيد أنّ مفتاح الدخول إلى هذه الدولة هو وضع المجتمع على سكّة التراكم الرأسمالي الذي يحتاجه. وإن كان طرحُ نيكولاي بوخارين لروسيا في عشرينيات القرن الماضي يقول بالمضيّ نحو الاشتراكية على عربات الفلّاحين، فإن واقع لبنان مطلع عشرينيّات هذا القرن يقول بأن بطاقة الدخول في قطار الاشتراكية تُقطع من على كونتوارات المصارف، ضمن خطّة شاملة لمجتمعٍ جديد.
إنّ اتخاذ هذا المسار من عدمه كفيلٌ بأن يجيب على تساؤلات وهواجس يكثر طرحها حول قيادة الانتفاضة وخطوتها التالية وأهدافها ومعاركها. وهو كفيلٌ أيضاً بأن يطهّرَ الانتفاضة من تيّارات الانتهازيّة والإصلاحيّة، وأن يزيد من مشروعيتها الشعبيّة والزخم الجماهيري.

المراجع:

Assouad, L. (2017). Rethinking the Lebanese economic miracle: The extreme concentration of income and wealth in Lebanon. World Wealth and Income Database.
Marx, K., Engels, F., & Dutt, C. P. (1895). The class struggles in France (1848-50). Martin Lawrence.
Piketty, T. (2013).Capital in the Twenty-First Century. Translated by Arthur Goldhammer, Harvard UP, 2014.

  • العدد رقم: 371
`


محمد بزيع