أميركا وروسيا
مرت العلاقات الأميركية الروسية منذ انحلال الإتحاد السوفياتي بعدة مراحل متباينة هي برأيي التالية:
من العام 1991 (منذ تفكك الإتحاد السوفياتي) الى إعلان افلاس البلد في أيلول عام 1998؛
من أيلول 1998 حتى خطاب بوتين الشهير في ميونيخ عام 2007؛
من 2007 حتى احداث أوكراينا في شباط 2014؛
من شباط 2014 الى يومنا هذا.
الفترة الأولى شهدت تحول روسيا من قطب عالمي هو الاتحاد السوفياتي (روسيا تعتبر قانونيا وريثة الاتحاد السوفياتي) الى دولة ضعيفة تخلت عن سيادتها لتسير في نهج مدمر لمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية. فعلى صعيد العلاقات الخارجية ألغت روسيا تواجدها العسكري في أوروبا الشرقية بانسحابات تقهقرية ذليلة ، خاصة من ألمانيا، رامية بجيوشها التي كانت متمركزة هنالك في عراء السهوب الروسية، متنازلة لقاء ذلك عن اي تعويض سياسي او اقتصادي يذكر. من جهة أخرى تخلت عن حلفائها ، بل الأصح خانتهم، في كوبا والهند الصينية وافغانستان وغيرها ، فنجيب الله في افغانستان مثلا، والذي صمد لسنوات بعد الانسحاب السوفياتي، بقي وجيشه دون قطع غيار أو ذخيرة أو وقود حتى اعتقله "المجاهدون" وعلقوا جثته في شوارع كابول. وصارت التبعية السياسية للأميركيين البوصلة الاساسية للسياسة الخارجية في عهد السيد "نعم" (وهو اللقب الذي أطلق على وزير الخارجية في تلك الفترة اندريه كوزيريف (لاحقا رئيس المجلس اليهودي الروسي) لموافقاته الدائمة على كل ما يقترحه الغرب، نقيضا للقب السيد "لا" الذي اشتهر بة وزير الخارجية السوفياتي اندريه غروميكو) . لكن الأخطر من ذلك كله كان التدمير المنهجي للاقتصاد السوفياتي من افقال للمصانع وافلاس للمزارع وتحطيم لقوى الانتاج والقيام باكبر عملية سرقة في تاريخ البشرية عندما تم تخصيص وبيع منشآت النفط ومصانع المعدات الثقيلة والسوفخوزات بأبخس الاثمان (أحيانا دون 1% من قيمتها الفعلية) لتصبح ملكيتها في أيدي زمرة المقربين من الرئيس يلتسين اضافة شركات ورجال اعمال اجانب عملوا في بعض الاحيان الى ايصالها لحالة الإفلاس وفي حالات اخرى لتنصيب انفسهم مالكين لمقدرات البلد.
الفترة الثانية جاءت بعد إعلان إفلاس روسيا وتشكيل حكومة بريماكوف التي رأس فيها ماسليوكوف (رئيس جهاز الخطة الحكومية Gosplan في الحقبة السوفياتية الأخيرة) الطاقم الاقتصادي وأجرى، بمنتهى البراعة، مباحثات مضنية مع صندوق النقد الدولي آلت الى إعادة جدولة ديون روسيا وخروجها، بالمحصلة، من حالة الإفلاس، مرورا بانتقال السلطة الى فلاديمير بوتين الذي عمل جاهدا في تلك الآونة لإيجاد صيغة مقبولة تتيح لروسيا الإندماج بالغرب وتسهيل الطرق أمام الاستثمارات الاوروبية والاميركية في روسيا والسعي لتكون روسيا جزءا من النظام الرأسمالي العالمي. لكن حساب الحقل هنا لم يتوافق مع حساب البيدر، فالغرب الذي هيمن على روسيا في الحقبة السابقة وهي في طول الإنحدار الإقتصادي والإنحلال السياسي وتنامي الحركات الانفصالية في عدد من المناطق، والغرب نفسه الذي وسع منظومته العسكرية (حلف الناتو) شرقا ، استمر في الفترة الثانية على نفس النهج ظنا منه أن روسيا، بعد السنوات الطويلة العجاف منذ بيريسترويكا غورباتشوف لن تتمكن من وقف الهجمة الغربية ، فانتشرت قواعد الأطلسي على الحدود الروسية، واصبحت موسكو في مجال الصواريخ متوسطة المدى. لقد مست وقاحة الغرب الروس في الصميم وتبخرت لدى القيادة الروسية، شيئا فشيئا، الاوهام بأن الغرب "سيأخذ بلدهم بالأحضان" وانهم سينعمون معه بالرفاهية والتطور الذين يطمحون اليه. لذا بدأت في فترة رئاسة بوتين الثانية (2004-2008) مراجعات للسياسات الخارجية ، كانت هادئة بعض الشيء الى أن فجرها بوتين في خطابه الناري في مؤتمر ميونيخ حول السلام والأمن في 10 شباط 2007 والذي تمحور حول النقاط المفصلية التالية:
أحادية القطب ليست فقط غير مقبولة بل وغير ممكنة؛
لقد امتدت حقوق الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية بعيدا خارج حدودها وباتت تملي إرادتها على الدول الأخرى؛
القوات الأمامية لحلف الناتو تتقدم نحو حدود روسيا والحلف يتنكر لتعهداته بعدم التوسع شرقا؛
لروسيا تاريخ يعود لآلاف السنين وهي تميزت، في أغلب الأوقات بسياسة خارجية مستقلة؛
الأمن الإقتصادي يجب ان يشمل الجميع وفق معايير موحدة.
بالطبع لم يعجب هذا الطرح الاميركيين سيما وانهم وجدوا فيه دلائل واضحة على عدم نية روسيا ان تكون مطية للسياسات الأميركية وتتخلى عن استقلاليتها ودورها كدولة كبرى تملك ترسانة نووية متساوية تقريبا مع مثيلتها الأميركية. ومع نهاية عهد جورج بوش الإبن ووصول باراك أوباما الى السلطة في الوقت الذي شهد انتقال الرئاسة الروسية الى دميتري مدفيديف عام 2008 جرت محاولة لإظهار نية الطرفين على إعادة اطلاق restart العلاقات من جديد، لكن الإدارة الاميركية، وخاصة في فترة تبوأ هيلاري كلينتون منصب وزير الخارجية، اتبعت سياسة تصادمية تجاه روسيا وتدخلت بشكل سافر في مسائل روسية داخلية، كقضية ماغنيتسكي واعتقال ومحاكمة خودوركوفسكي، مستخدمة "معزوفتها" التاريخية حول الحريات وحقوق الانسان، كما استخدمت أحداث "الربيع العربي" للتدخل المباشر في سوريا وليبيا وغير المباشر في مصر. ولا بد من الأشارة الى ان مواقف روسيا ، خاصة إبان رئاسة ميدفيديف تراوحت بين صرامة الموقف والتدخل بقوة، كما حصل مع جورجيا خلال عدوانها على جنوب أوسيتيا في آب عام 2008، وبين ذبذبة موقفها بالإمتناع عن استخدام حق الفيتو لمنع تمرير القرار الذي للغرب وأميركا بالتدخل المباشر في ليبيا، والذي ساهم، ليس فقط في اسقاط القذافي ومن ثم في قتله بوحشية، بل وفي اشعال حرب أهلية في ليبيا لم تخمد نارها حتى الآن.
لقد وجه الغرب أصابع تدخلاته السافرة الى داخل دول الاتحد السوفياتي السابق محاولا تأجيج خلافات حادة بينها وبين روسيا ايمانا منه ان ذلك سيؤدي ليس فقط لإضعاف روسيا من خللال عزلها عن محيطها الطبيعي المتمثل في دول الإتحاد السوفياتي السابق بل ، ولربما، الى تفكك لاحق للإتحاد الروسي نفسه على أسس إثنية، هذه المحاولات بدأت سابقا في حرب الشيشان (1994-1999) ومن خلال تغلغل المنظمات الإرهابية في الداغستان وغيرها من جمهوريات القوقاز وفي تنامي تأثير النزعات الإسلامية السلفية في تترستان وبشكرستان. ومع النجاح المرحلي للسلطات الروسية في كبت هذه الحركات وإضعافها إلا انها لم تزل تخرج بنشطاتها الهدامة بين الحين والآخر. كذلك لا يمكن تجاهل الفوارق الاجتماعية الشاسعة بين سكان موسكو وسانت بطرسبورغ وقلة من المدن الكبرى من جهة وبين غالبية المقاطعات الروسية في وسط البلاد وفي الأورال وسيبيريا والشرق الأقصى حيث يصل أحيانا الفارق في متوسط الأجور والرواتب التقاعدية الى أضعاف. هذا للوضع يمكن للغرب استغلاله من خلال نشاط عملائه من الليبيراليين الروس ومنظمات NGO العديدة العاملة في البلد.
شكل العدوان الذي شنته جمهورية جورجيا في 8/8/2008 (بقيادة ساآكاشفيلي آنذاك) على أوسيتيا الجنوبية ذات الحكم الذاتي أول محاولة لتقليم أظافر روسيا عسكريا (تواجدت روسيا عسكريا في أوسيتيا الجنوبية كقوات حفظ سلام بالإتفاق مع جورجيا بعد الاشتباكات الإثنية الدامية بين الجورجيين والأوسيتينيين في بداية التسعينات)، لكن ردة الفعل الروسية الحاسمة وتغلغل الآليات االروسية الى مسافة لا تبعد عشرات الكيلومترات عن العاصمة تبيليسي وإحجام الإميركييين والغرب عن نجدة صنيعتهم الرئيس ساآكاشفيلي أفشل ذلك المخطط في المهد. الا ان الغرب لم يعلن استسلامه فنقل المعركة الى خاصرة روسيا في أوكرانيا والتي شكلت أحداثها في شباط 2014 بداية المرحلة الرابعة التي ذكرناها أعلاه.
يدرك الغرب، وأميركا خاصة، ان أهم الوسائل لإضعاف روسيا جيوسياسيا هي في خلق عداء بينها وبين جارتها السلافية الأصغر وهي أوكرانيا. فللجمهوريات السلافية الثلاث: روسيا وأوكرانيا وبيلوروسيا تاريخ مشترك وصلات قربى متينة وواسعة الانتشار ولغات تعود الى نفس الأصل وعادات وتقاليد شبه متماثلة. وفي حين ان العلاقات الروسية-البيلوروسية كانت دائما على قدر كبير من الأخوة والصداقة والتعاون بحيث يصعب نبش مراحل خلافية بينهما (تعمل حاليا المعارضة البيلوروسية، وخاصة في السنة الأخيرة، وبشكل دؤوب، على إبعاد بيلوروسيا عن روسيا مستفيدة من أخطاء الرئيس البيلوروسي ألكسندر لوكاشنكو وإحتكاره السلطة لنحو ثلاثة عقود)، فان ذلك لا ينطبق تماما على العلاقات الروسية الأوكرانية . فالتمايز اللغوي والاجتماعي برز أكثر إبان الغزو المنغولي التتري لروسيا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر إذ بقيت مناطق تعود حاليا الى أوكرانيا خارج الاحتلال المنغولي-التتري. عدا ذلك فقد كانت المناطق الغربية من أوكرانيا لفترة طويلة جزءا من الأمبراطورية النمساوية- المجرية .كذلك ألحقت أجزاء منها ببولندا بعد معاهدة بريست-ليتوفسك عام 1918 عندما أضطرت السلطة السوفياتية الحديثة العهد الخضوع لشروط السلام المجحفة مع جيرانيها االغربيين. ولم تعد هذه المناطق الى الإتحاد السوفياتي (ضمن جمهورية أوكرانيا السوفياتية الاشتراكية) الا في منتصف أيلول عام 1939 بعد نشوب الحرب العالمية الثانية (كان ذلك ضمن بنود اتفاقية مولوتوف- روبنتروب الموقعة في أواخر آب 1939) وبقيت ضمن الاتحاد السوفياتي الى حين احتلالها من قبل ألمانيا الهتلرية في صيف عام 1941 وظلت تحت السيطرة الألمانية حتى تحريرها عام 1944 .
شكلت احداث خريف 2013 – شباط 2014 والتي بدأت باحتجاجات شعبية على تأجيل الرئيس فيكتور يونوكوفيتش البت باتفاقية التعاون مع الاتحاد الاوروبي، في محاولة منه لإيجاد صيغة أكثر ملاءمة للإقتصاد الأوكراني الوثيق الصلة بروسيا وبالدول التي تدخل في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي-الآسيوي (روسيا، اوكرانيا، بيلوروسيا، كازاخستان، اوزبكستان، قيرغيزيا، طاجيكستان – انسحبت اوكرانيا لاحقا من هذا الاتحاد وكذلك من رابطة (كومونولث) الدول المستقلة التي تشكلت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي) والتي اتفقت على تشكيل اتحاد جمركي فيما بينها مما كان سيشكل في بعض الجوانب تناقضا مع اتفاقية التعاون مع الاتحاد الاوروبي. هذه المظاهرات والتي بدأت سلمية تطورت الى اشتباكات مع قوى الأمن والى استفزازات مسلحة لم تزل حتى الآن غير محددة المصدر أدت الى سقوط عشرات الضحايا (ما اصطلحت السلطات الأوكرانية الحالية والمعارضة آنذاك على اطلاق تسمية "القديسون المائة" عليهم) وتطورت بعد ذلك الى انقلاب حقيقي فهرب يونوكوفيتش الى روسيا واستلمت المعارضة الحكم متبعة سياسة معادية لموسكو وساعية لاستئصال اللغة الروسية من المجتمع الاوكراني مما أدى الى انفصال شبه جزيرة القرم وانضمامها الى روسيا والى اندلاع اشتباكات بين القوات المسلحة الاوكرانية ومعارضي السياسة الاوكرانية الجديدة في منطقة الدونباس الشرقية والتي تقطنها غالبية من الناطقين بالروسية نسبة ملحوظة منهم روس من الناحية القومية. ولا تزال وضعية هذه المناطق معلقة حتى الان بالرغم من التوقيع على اتفاقيات مينسك من قبل اوكرانيا وروسيا والمانيا وفرنسا كإطار لحل المشكلة والتي لم تطبق الى الان، ويتهم كل طرف الآخر بمسؤوليته عن عدم تنفيذها.
صعَّد الغرب (الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي) من مواجهتهم لروسيا وسياساتها بعد أحداث اوكرانيا فلم يعترفوا بالاستفتاء الذي أقرت غالبية سكان شبه جزيرة القرم (84% شاركوا في استفتاء آذار 2014) انفصالهم عن اوكرانيا وانضمامهم الى روسيا (صوت أكثر من 96% من المشاركين لصالح الانضمام الى روسيا) واتهموا روسيا بالتدخل المباشر في الدونباس لصالح الانفصاليين هناك، واقروا سلسلة من العقوبات الاقتصادية طاولت مئات المؤسسات والشركات والأفراد الروس بدأت في عهد باراك أوباما وتصاعدت بصورة ملحوظة خلال رئاسة دونالد ترامب وتستمر حاليا مع جو بايدن.
لا بد من الإشارة الى انه مع مجمل الصلافة الاميركية (والغربية الاوروبية المتضامنة معها) وسياسات الإملاءات المشروطة والتدخل في الشؤون الداخلية لروسيا وكيفية تعامل السلطة الروسية مع معارضيها، بقي الموقف الرسمي الروسي، الى درجة كبيرة، بعيدا عن اتخاذ مواقف واتباع سياسات تتناسب مع العداء الغربي لروسيا ومصالحها الحيوية. ولربما يعود ذلك الى عدة اسباب سنوجز أهمها في ما يلي:
ضعف روسيا الاقتصادي مقارنة مع الغرب؛
بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وتوقف العديد من المصانع عن العمل اوتغير وجهة منتوجاتها باتت العديد من الصناعات المحلية تعتمد على تقنيات وأجزاء اساسية غربية المنشأ، وبناء على ذلك فهي ستكون مهددة بالتوقف إن طاولت العقوبات المصادر الغربية للتقنيات وقطع الغيار؛
الارتباط الوثيق للأوليغارشيا الروسية وكبار رجال الاعمال بالغرب ليس فقط اقتصاديا وماليا بل ومن ناحية الايديولوجيا السياسية؛
تعلق جزء هام من المسؤولين الروس، خاصة في المجال الإقتصادي والمالي، بالنماذج الغربية. حتى يمكن القول ان مجمل الطاقم الاقتصادي في الحكومة وفي إدارة الرئيس هم من الليبيراليين المتعلقين بالنمط الرأسمالي للإقتصاد (Kudrin, Gref, Nabiyulina, Siluyanov, Chuvalov, Chubais, Golikova وغيرهم) . ورغم وجود قلة من المستشارين الوطنيي التوجه في فترات ما، مثلا Sergey Glazev، فانهم تخلوا عن مهمامهم في إدارة الرئيس لأن أيا من اقتراحاتهم لم يعمل به؛
الإعتماد الكبير على أسعار مصادر الطاقة (النفط، الغاز) والتي تحدد من قبل جهات تخضع غالبا للتوجيهات الأميركية؛
تركيز السياسة الخارجية على التعاطي مع الغرب كشركاء (partners) في الوقت الذي كان الأميركيون يتعاطون مع الروس كأعداء (وهذا وارد في مبادئ الاستراتيجية العسكرية الاميركية حيث تصنف روسيا و الصين كعدوين) ويضغطون على حلفائهم الاوروبيين وعلى اليابان وكندا للانضمام الى العقوبات ووقف المشاريع الاقتصادية المشتركة مع روسيا، كما يحدث مع مشروع السيل الشمالي 2 لنقل الغاز الى اوروبا.
لكن يبدو ان التمادي الاميركي في نهج العداء لروسيا والتضييق عليها وفشل محاولات تلطيف الاجواء بين البلدين (خاصة مع عدم وصول لقاء بوتين-بايدن الاخير الى نتائج ايجابية اساسية) قد حدا بروسيا الى ادخال تعديلات هامة على سياساتها تمثلت بالامور التالية:
تعزيز القدرات الدفاعية الروسية واداخال منظمومات تسلح متطورة تقنيا، بل واحياتا تفوق مثيلاتها الغربية، لردع اي مغامرة غربية تستهدف البلد وإعادة التوازن الدفاعي الى مستوى شبيه بالحالة ايام الاتحاد السوفياتي؛
تطوير العلاقات مع الصين ورفع مستوى التنسيق في مختلف المجالات؛
تحويل منظمة BRICS الى تحالف اقتصادي سياسي مؤثر عالميا (ضعفت هذه المحاولات بعد وصول اليميني بولسانارو الى رئاسة البرازيل)؛
وهنا لا بد، برأيي، من التوقف بشيء من التفصيل عند التعديلات التي تم ادخالها مؤخراً على استراتيجية الأمن القومي الروسي كونها تعبر عن تحول ملحوظ في السياسة الروسية.
تنطلق هذه الوثيقة بصيغتها الحالية من ان المواجهة مع الغرب قد اتخذت طابعا مطولا وخطيرا بشكل متزايد. وتتضمن الاستراتيجية اطلاق لقب "الدول غير الصديقة" على الولايات المتحدة وحلفائها بحيث لا يمكن الشراكة معهم في المستقبل المنظور، كما تشير الى ان التهديد باستخدام القوى العسكرية آخذ في الازدياد. في هذا الصدد تظهر مصطلحات "استعداد الاقتصاد للتعبئة" و "فترة الحرب" النصف منسية منذ الحرب الباردة.
(في الاستراتيجية السابقة عام 2009 لازم هنالك اعتقاد بان الصعوبات في العلاقات بين روسيا والغرب ذات طابع مؤقت وان النموذج الاميركي المركزي للعولمة لن يتزعزع وانه تنبغي محاولة تصحيحة ليكون أكثر عدلاً. اما الاستراتيجية الحالية فهي تشير، وان بشكل "ناعم"، الى عدم امكانية السير بالقواعد السابقة للعلاقات. بالتالي فهي استراتيجية "التنافس الصلب" من أجل شغل مكان في عالم ما بعد العولمة)
كذلك تنبثق الاستراتيجية من حقيقة ان المصالح والعوامل الوطنية الرئيسية التي تحدد دور روسيا في العالم تتركز داخل الدولة بالاعتماد على جودة الامكانيات البشرية، والقدرة على ضمان القيادة العلمية والتكنولوجية للإدارة العامة، ونقل الاقتصاد الى اسس تكنولوجية جديدة، مشيرة الى الاهمية الحاسمة للمنافسة التكنولوجية. من هذا المنطلق يمكن ان نستنتج ان قيادة الاتحاد الروسي، بعد ان اثبتت للعالم الخارجي ان البلاد عادت الى الساحة العالمية كقوة عظمى، تهدف الآن الى جعل روسيا دولة عظمى ايضا.
يمكننا الاستنتاج ان ركائز الاستراتيجية الاساسية الاربعة هي:
السيادة؛
أفضلية التطور الداخلي؛
أفضلية الاتجاه اليوروآسيوي في السياسة والأمن والتطور؛
الأمن العسكري كعامل لا غنى عنه لإجبار الغير على الحوار.
ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما مدى واقعية حل المهام الواردة في الوثيقة في المستقبل القريب؟ في السنوات الأخيرة تبنت السلطات الروسية العديد من الوثائق الاستراتيجية ذات الأهداف المحددة بشكل صحيح والتوقعات المتفائلة، ولكن تبين ان هذه التوقعات مبالغ فيها. لا شك ان الاخفاقات ناتجة عن اسباب مختلفة، منها ما هو خارجي، ومنها العوامل الداخلية والتي جعلت التخلف النسبي لروسيا عن منافسيها في العديد من المجالات أمرا واقعا.
إن إنجاز المهام الكبيرة التي يضعها الإتحاد الروسي ضمن أولوياته، ومن ضمنها تأطير العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية على أُسس المساواة والاحترام المتبادل وأخذ المصالح الحيوية لكل بلد بعين الإعتبار، غير ممكن مع استمرار ما يمكن تسميته بالإنفصام بين سياسة روسيا الدولية، الهادفة الى جعلها قوة عظمى لا يمكن تجاهل مصالحها، وبين سياساتها الداخلية، وخاصة الاقتصادية منها، والتي تلعب في الكثير من الأحيان دور المعرقل، واضعة العصي في الدواليب، أمام تطور البلد نحو الهدف الاستراتيجي الكبير الذي حدده لنفسه.
روسيا والصين
مرّت العلاقات بين روسيا/الاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية بمراحل عديدة تاريخيا:
العلاقة الحميمة والتعاون اللامحدود في خمسينات القرن العشرين؛
الفتور ومن ثم القطيعة والعداء من الستينات حتى أواسط السبعينات؛
خفض نسبة التوتر مع بقاء خلافات أساسية بين البلدين (أواسط السبعينات-أوائل التسعينات)؛
علاقات طبيعية لكن تقريبا دون تعاون (فترة التسعينات)؛
بناء علاقات تعاون في مختلف المجالات يتنامى منذ بداية هذا القرن الى يومنا.
بالطبع تعود طبيعة العلاقات الى عوامل موضوعية وذاتية. فمع بدايات نشوء جمهورية الصين الشعبية كان للبلدين جملة مصالح مشتركة، منها انتصارالاشتراكية في أكبر دولة سكانيا في العالم وأهمية هذا الامر ايديولوجيا وسياسيا بالنسبة للاتحاد السوفياتي، وحاجة الصين للتصنيع والكادرات المهنية والعلمية وهو ما كان بإمكان الاتحاد السوفياتي وحده تأمينه لها، ووجود تفاهم بين ستالين وماوتسي تونغ على العديد من الامور الجيوسياسية.
بدأ الفتور بين البلدين بعد إحراز الصين انجازات ملحوظة في السنوات العشر الاولى من عمرها وسعيها الى لعب دور ريادي في السياسة العالمية وفي الحركة الشيوعية وإصرارها على امتلاك السلاح النووي والضغط على الاتحاد السوفياتي لتأمين ذلك (وهو ما كان السوفيات يسعون لتجنبه)، إضافة الى إنعدام "الكيمياء" بين ماو وخروشوف. ووصل الأمر الى نزاع حدودي ومعارك عسكرية حول جزيرة دامانسكي/تشجن باو داو سقط فيها مئات القلى والجرحى (وفق معاهدة ترسيم الحدود عام 1991 تخلى الاتحاد السوفياتي للصين عن هذه الجزيرة). وساهم اندلاع "الثورة الثقافية" في الصين في تعميق الهوة بين البلدين خاصة بعد اتهام الصين للسوفيات بالانتهازية والانحراف عن الماركسية-اللينينية.
بعد وفاة ماو واشتداد الصراع على السلطة في الصين مرت العلاقات السوفياتية-الصينية بفترة ركود انحسر خلالها التوتر لكن لم يسعى الجانبان الى تعزيز الروابط. وبعد وصول تنغ هسياو بينغ الى السلطة إنشغل الزعيم الصيني بترتيب أوضاع بلاده الاقتصادية والسياسية ولم يجد، بتصوري، ان التعاون مع السوفيات سيفي بحاجات بلاده سيما وان الاتحاد السوفياتي كان في حالة ركود اقتصادي تبعها تحول سياسي مع انطلاق البيريسترويكا التي لم ترق للزعامة الصينية، خاصة بعد الانحسار التدريجي لدور الحزب الشيوعي السوفياتي وامكان انعكاسه سلبا على وضع الحزب الشيوعي الصيني. وجاءت أحداث ميدان تيان-آن-مين لتؤكد هذه المخاوف، لكن التعاطي الحاسم للسلطات الصينية مع تلك المظاهرات ومنفذيها لتوئد البيريسترويكا الصينية في مهدها.
في عهد يلتسين لم تول روسيا اهتماما بالصين بل حرصت على تمتين تحالفها مع الغرب وانجرافها في سياساته. والصين بدورها كانت تراقب الوضع دون أخذ أي مبادرات. في هذه الفترة نشطت الحركة التجارية على مستوى الأفراد بين الروس والصينيين، فقام العديد من الروس برحلات الى الصين مارسوا خلالها "تجارة الشنطة" جالبين الى روسيا العديد من البضائع (خاصة الثياب) في حين اهتم الصينيون بتجارة الخشب والمواد الطبيعية المستخدمة في تحضير الادوية وغيرها.
المرحلة التالية من العلاقات الروسية الصينية بدأت مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعماء الصينيين جيان زي مين، هو جن تاو والاخير شي جين بينغ، والتي انطلقت من حاجة الطرفين لتعزيز علاقات الجوار وتطوير التبادل الاقتصادي بين البلدين (ازداد من 8 مليار دولار عام 2000 الى 111 مليار دولار عام 2019) وتوسيع مجالات التعاون لتشمل الجانب العسكري والتنسيق السياسي، سيما في مواجهة الحملة العنيفة على كل منهما من الولايات المتحدة الاميركية التي تخاف النمو الاقتصادي الصيني وتحسب حسابا كبيرا للترسانة النووية والعسكرية الروسية. ومما لا شك فيه ان السياسة الاميركية المعادية للصين وروسيا معا ساهمت في حث هذين البلدين للوصول الى مستوى عال من التعاون والتنسيق في ما بينها. وهنا لا يمكن الا ان نشير الى شمول هذا التعاون الجانب العسكري من خلال المناورات الحربية التي يقوم بها الجانبان دوريا براً وبحراً وجواً.
هذا وكان لتشكيل "مجلس شانهاي للتعاون" عام 2001 (يضم الصين وروسيا وكازاخستان واوزبكستان وقيرغيزيا وطاجكستان) و BRICS (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب افريقيا) في العام نفسه (بداية كانت تسمى BRIC حتى انضمام جنوب افريقيا عام 2011) اثر هام في رفع مستوى التعاون الاستراتيجي بين روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية، وان كان "مجلس شانهاي للتعاون" محصورا الى جانب البلدين بالجمهوريات الآسيوية في الاتحاد السوفياتي سابقا، فان BRICS تضم أكبر دولتين في آسيا وكبرى دول أيركا اللاتينية وأهم دول أفريقيا تطورا (مجوع سكان دول المنظمة يفوق 3 مليارات انسان وناتج الدخل القومي فيها ازداد من 3 تريليون دولار عام 2000 الى 21 تريليون دولار عام 2019).
في مقارنة لامكانات كل من الصين وروسيا نجد ان أي تكامل بينها يؤمن للطرف الآخر ما يحتاجه للتكامل. فالدخل القومي الصيني يفوق الروسي بنحو 9 أضعاف، في حين انه اذا تطرقنا الى القدرات العسكرية فترسانة روسيا النووية، مثلا، تزيد عن مثيلتها الصينية بأكثر من 25 ضعفا.
ان جميع المعطيات الجيوسياسية تفرض وجود أوسع تعاون بين الصين وروسيا، سيما وانهما يواجهان نفس المنظومة التي تضمر لهما العداء وتعمل على تقويض امكانياتهما. فما هي العوامل التي تعيق وصول هذا التعاون الى درجاته القصوى؟
بتصوري ان الصين مااتزال غير متأكدة تماما من جدية التعامل الروسي مع الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، ويعود ذلك الى ضعف الاقتصاد الروسي واعتماده لدرجة كبيرة على التقنيات الغربية، اضافة الى ما أوردناه أعلاه عن هيمنة الليبيراليين على السياسات الاقتصادية وطبيعة الأوليغارشيا الروسية الغربية الهوى. في هذا المجال قد يكون لاستراتيجية الامن القومي الروسي الجديدة ما يمكن ان يبدد هذه المخاوف الصينية.
بالمقابل فان قسما من القيادة الروسية، بل وجزء لا بأس به من الروس، يتخوفون من "تبتلع" الصين بقدراتها الاقتصادية والبشرية روسيا، فغالبا ما يأتي الاعلام (خاصة اليميني واليبيرالي) على ذكر المدّ الصيني، خاصة في سيبيريا ومنطقة الشرق الاقصى المتاخمة للصين حيث توجد بالفعل أعداد لا يستهان بها من الصينيين العاملين في مختلف المجالات التجارية والحرفية، اضافة الى عملهم في المصانع والمزارع. لكن الأمر يعود، برأيي، الى درجة كبيرة، ليس للأطماع الصينية (مع ان ذلك يمكن ان يخالج مخيلة بعض الشوفينيين الصينيين)، بل للقصور الكبير في السياسة الاقتصادية الروسية التي ترعى بالدرجة الأولى مصالح كبار الشركات والمصارف ورجال الأعمال الملتصقين ببعض أطراف الطبقة الحاكمة. ان تقديمات الحكومة الروسية للفئات الشعبية الواسعة، ورغم الحملات الدعائية الواسعة في أجهزة الإعلام الرسمي، وما قد يتراءى للبعض عن فعاليتها وأهميتها، لا تغطي حتى عامل التضخم الفعلي في البلاد والذي يلمسه الناس يوميا من خلال ارتفاع الأسعار والخدمات.
خاتمة
انّ العلاقات بين المثلث أميركا-روسيا-الصين على درجة كبيرة من الأهمية على مختلف الصعد، وبالأخص من الناحية الجيوسياسية، ناهيك عن تأثيراته على العالم بأجمله، بما في ذلك ما يخص قضايانا العريية. ومع الاعتراف بأن هذا البحث أعجز من يشمل جميع الجوانب المتعلقة بهذه العلاقات بالتفصيل، فانه قد يكون من المفيد أن يشكل انطلاقة لمقالات أخرى تتناول هذه الامر بدرجة أعلى من الشرح والتحليل.
1- يكتب دمتري سايمس، المحلل الأميركي المعروف، في كتابه “After the Collapse”, NY, 1999, pp. 15-20 ، عن حديث دارفي حضوره بين الوزير كوزيريف والرئيس الأميركي السابق نيكسون عام 1992: آنذاك بادر نيكسون الوزير كوزيرف بالسؤال عن كيفية تحديد روسيا لمصالحها القومية على ضوء سياساتها الجديدة فكان جواب كوزيريف التالي: "لقد عانت روسيا كثيرا في الماضي من التركيز الشديد على مصالحها الخاصة على حساب بقية العالم، لقد حان الوقت الآن لروسيا ان تفكر اكثر فيما يتعلق بالقيم الانسانية العالمية". لكن نيكسون عاد فسأل عن بعض المصالح المحددة التي تعتبرها روسيا، كقوة صاعدة، مهمة لنفسها، فما كان من كوزيريف الا القول انه ربما تكون هنالك مصالح روسية بحتة، لكن الحكومة الروسية لم تتح لها الفرصة بعد للتفكير فيها، وأضاف "ربما يود الرئيس نيكسون، بصفته صديقا للديقراطية الروسية، مساعدتنا في تحديد هذه المصالح؟" بعد الاجتماع لم يتمالك نيكسون نفسه عن القول:"لا استطيع ان أن أتخيل ان الروس يحترمون يرقانة مثل هذا".