ومن كثرة التأقلم مع آليات الصراع على البقاء، صار يكفي أن يرى المارّون طابوراً يصطفّ فيه آخرون، حتّى يقفوا خلفهم دون أن يعرفوا كيف ولماذا ومتى تشكّل الطابور، فربّما كان في آخر النفق صفيحة بنزين أو رغيف خبز أو كيس حليب، لا همّ.
هذه المأساة التي حلّت باللبنانيين أنفسهم الذين حرّروا وقاوموا، وعملوا وبنوا وعمّروا وتعلموا وهاجروا وعادوا، وكدّوا وتعبوا وكدحوا، ليست قدراً أو صدفةً أو تجريباً إلهياً. إنّها صنيعة طبقة حاكمة قامت على تحالف عميق ووثيق بين زعماء الأحزاب الطائفية ورأس المال الريعي والعقاري، نهبت بشكل منظّم المال العام والخاص، وأفقرت الناس لتبني لنفسها امبراطوريةً مالية مكدّسة في الخارج والداخل. طبقة، لها منظومة حاكمة من سياسيين وإعلاميين وأجهزة أمنية وقضائية وشبيحة وميليشيات متكاملة، تجثم على صدور اللبنانيين.
لم يفترقوا في أي استحقاق نيابي أو بلدي أو نقابي، فكلّهم منظومة مصالح واحدة. آخر مآثرهم اجتماعهم في لوائح مشتركة في انتخابات نقابة المهندسين فيما هم يتناتشون حقيبة وزارية أو اثنتين في الحكومة المزعومة، لمحاولة إقصاء وهزيمة لائحة النقابة تنتفض. لكن للمهندسين رأيهم المختلف، فأتوا بالآلاف ليلقنوا أهل السلطة درساً في هندسات الانتفاضة. هزيمة نكراء لحقت باجتماع أهل السلطة، بحيث حصدت المعارضة الأكثرية الساحقة من مقاعد مجالس المندوبين.
أيام تفصلنا عن معركة انتخاب النقيب ومجلس النقابة، وهي الأهم في 18 تموز، لكنّها معركة صعبة في ظلّ محاولة قوى السلطة حشد قواها ومهندسيها وصولاً إلى الضغط عليهم لجلبهم إلى الاقتراع في الجولة الثانية، لعلّهم يستطيعون ردّ بعض ماء الوجه المفقود. لكنّ المهندسين الذين هبوا في الجولة الأولى سيهبّون في الجولة الثانية ومعهم الكثيرون ممّن لن يتركوا النقابة وحيدة، ليثبتّوا الانتصار الأوّل بانتصار ثانٍ يحررّ نقابة المهندسين من سطوة وهيمنة قوى السلطة الساقطة، على أمل انتقال المواجهة إلى كل الاستحقاقات الكبيرة المقبلة، لأنّ طابور الذلّ ليس قدراً.