البرجوازية المصرية وإعادة إنتاج شروط بقائها

"وضعية شديدة التعقيد" هكذا يمكن وصف الوضع في مصر، إن السلطة التي تأسست في يونيو 2013 على خلفية رفض شعبي جارف لسلطة الفاشية الدينية – زمرة برجوازية مصرية – تلك السلطة التي وبتدعيم شعبي أطلقت عملية أمنية في مواجهة الوجود الإسلامي المسلح في قلب الوادي كما في سيناء والصحراء الغربية، هذه السلطة التي تمتعت في أعقاب يونيو 2013 بشعبية جارفة، صارت الأرض تتقوض تحت أقدامها كلما أوغلت في البعد الزمني عن لحظة تأسيسها التيأسست شرعيتها، وكلما كان التهديد الفاشي ينحسر في شكله الديني، كلما كان ينمو وجهه الآخر، كلما كان النظام يشد نفسه شداً للمؤسسات المالية الدولية ويرتبط بإملاءات صندوق النقد ممثلاً لسلطة الاحتكارات الدولية، كلما تقوضت الأرض تحت قدميه، وتكثف هجومه على الحريات السياسية وتقلص الهجوم على الإسلاميين كعدو مسلح وعنيف لصالح الهجوم على كل ما هو مدني وقد يشكل نواة لتجميع معارض للتوجه الاجتماعي لسلطة توشك على الغرق تحت سفح جبل ديونها المتعاظم.

إن ما بدأ كتناقض بين كتلة تاريخية ضمت قطاعات شعبية واسعة التحقت بها الأجنحة الأخري للبرجوازية المصرية في الصراع مع الإسلام السياسي كجناح اغتصب السلطة في ترتيبات مشتركة مع أجنحة من ذات البرجوازية على خلفية انتفاضة يناير التي أسقطت جناح لجنة السياسات للحزب الوطني، أو الجناح المدني للبرجوازية المصرية الحاكمة إن جازت التسمية، هذا التناقض تحول بداهة أو استعاد صفته الأساسية، تناقض بين البرجوازية المصرية كطبقة بكل مكوناتها، وبين القطاعات الأفقر من الجماهير المصرية، وكان هجوم الدولة على الفئات الوسيطة، شرائح البرجوازية الصغيرة المدينية التي مثلت العمود الفقري لانتفاضة يناير وشرائح دنيا من البرجوازية المتوسطة، وبقدر ما قوَّض النظام بشكل متسارع شروط وجود وحياة عشرات الملايين من المصريين في موجات متتالية ومتفاقمة من تحرير أسعار الصرف وخصخصة مؤسسات الدولة الاقتصادية ورفع الدعم عن السلع الأساسية في موجات متتالية في إطار زمني محدود بالتوازي مع استدانة بشروط مجحفة تم توظيفها في بنية تحتية تحت الشعار التقليدي "تمهيد الأرض للاستثمار" بقدر ما أوغل النظام في هذه الأرض المحروقة، بقدر ما أوغل فعلياً في الهجوم على كل ما قد يشكل معارضة من نوع ما، حتى تلك التي تقف معه على أرض اقتصاد السوق والتطبيع مع الصهيونية والارتهان للمؤسسات المالية الدولية.
تلك هي خلفية اللحظة المعقدة التي يتسم بها وضع البرجوازية المصرية، من حيث هي طبقة عانت تصدعاً أنتج انتفاضتي العقد الفائت، واستعادت أرضها المزلزلة في ظل مشهد إقليمي وعالمي شديد التقلب، ومن حيث هي طبقة لا تستطيع ممارسة وجودها إلا عبر النفي التام لكل العناصر التي قد تساهم في وضع سيادتها موضع تهديد جزئي أو كلي. وليست قضية علاء عبدالفتاح – التي هي قضية العمل السياسي في مصر – سوى إحدى التجليات التي جعلتها عائلة أحمد سيف عبدالفتاح –والد علاء الشيوعي الحقوقي الراحل – وجعلتها جنسية علاء البريطانية أكثر صخباً لكننا لابد أن نرى ما خلف هذا المشهد، لأنه يقول الكثير.
فلأول مرة منذ ما ييزيد عن ست سنوات، يحدث هذا الصخب السياسي في مصر، تنفتح ثغرات بهذا الحجم في سد الصمت حتى من هؤلاء الذين يقفون موضع تناقض حاد مع علاء عبدالفتاح وما يمثله من خيارات سياسية، لكن الرجل قد فتح معركة بآليات لم يعد بحوزته غيرها، إضراب كلي عن الطعام بالتزامن مع حدث دولي على أرض مصر، استخدام ورقة جنسيته البريطانية – نقطة خلاف شديد ولا تخدم قضية الديمقراطية في مصر التي لن تحلها سوى الجهود الوطنية الديمقراطية للمصريين أصحاب المصلحة – هذا الصخب الشديد إنما يكتسب طابعاً مأساوياً لأنه يأتي ضمن مشهد يتدخل به لاعبون دوليون، وكأنما لم يعد بإمكان الوطنيين المصريين فتح أفواههم إلا وسط مشهد أوسع تشكله حيتان دولية ولا يشكلون فيه سوى الهامش، وكأنه لم يعد بإمكان الوطنيين المصريين الكلام دون خوف ما قد يجلبه هذا الكلام إلا حين تغل تلك العناصر الدولية قدرة النظام على مد ذراعه الأمنية مؤقتاً على الأقل، فتوقيت اختيار علاء عبدالفتاح لبدء إضرابه ليس من قبيل المصادفة، لقد قرر وضع قضيته في مشهد دولي يحقق أكبر ضغط ممكن على النظام، بالطبع انطلقت موجة التضامن مع علاء بحدة هذه المرة في ذات السياق، وقطاع من هذا التضامن قد انطلق دون حساب لوجود المؤتمر من عدمه، وهو ذات القطاع الهش المحدود الذي حاول الصراخ لأجل أحمد دومة فخرج صراخه همساً. اتخذ الدعم زخماً أكبر بتعاظم ردود الأفعال على رد الفعل الرسمي ودخول عناصر برلمانية في السياق ما أنتج جلبة على مسرح كان عليه لاعب واحد أوحد يحتكر كل الأدوار، فهل صارت الوطنية المصرية في وضع لا تستطيع فيه الخروج إلى خشبة المسرع إلا بمعية نقيضها الدولي، إن هذا هو التناقض الذي قد يكون النظام قد ساهم في تشكيله عبر احتكار ممارسة السياسة في البلد كتقليد برجوازي أزلي. إن النظام قد منع كل سياسة، وتلك في حد ذاتها ممارسة سياسية تستهدف أن تسري الممارسة الطبقية البرجوازية في اتجاه واحد من أعلى إلى أسفل دونما أي إمكانية تتوفر لهذا الأسفل – المستويات الأدنى في الهرم الاجتماعي – من إنتاج استجابات سياسية ملائمة لممارسات اجتماعية وسياسية لم يعد بالإمكان وصفها بأقل من الفاشية.
إن النظام في إدارته للقضية يستخرج جعبة مصطلحات لم يتم تحديثها منذ زمن طويل، فإن كان استخدام علاء لجنسيته البريطانية يعكس الخلل الواقعي والشروط اللامتكافئة التي تحكم مصر كبلد طرفي أعادته برجوازيته لحالة التبعية الاقتصادية والسياسية للامبريالية البريطانية وأخواتها، فإن النظام ذاته يتنكر لحقيقة أنه استعدى على شعبه كل الدائنين والمؤسسات المالية الدولية، واستدعى كل القوى الجهنمية لامبريالية الاحتكارات المالية كي تأخذ من دم هذا الشعب نصيبها عبر سلسلة الإجراءات التي ذكرناها سابقاً والتي في التحليل الأخير تعمق تبعية الاقتصاد المصري لتلك الامبريالية وتعزز تشوه هيكلها الاقتصادي بما يجعله مفتوحاً لكل أزمة تضرب تلك الامبريالية وخاضعاً لحاجيات خروج تلك الامبريالية من أزمتها المستدامة التي تتخلها زلازل دورية. في هذا السياق لا يستطيع أيديولوجيو النظام – وهم من الرثاثة بحيث يعد وصفهم بالأيديولوجيين تفخيماً لهم في غير محله، وهم من البلادة بحيث يضعون النظام ذاته في مأزق وهم من محدودية الإمكانيات على درجة تجعلهم يدينون الطرف الآخر – أسرة علاء وتحديداً سناء سيف بعد مؤتمرها الصحفي – برفضه الرأي الآخر بينما تتكون برامجهم ومداخلاتهم من مونولوج طويل مفتوح لا يصمد لأي نقد لو انفتح له باباً – أقول لا يستطيع أيديولوجيو النظام استخدام ثنائية الوطنية – الاستقواء لأنهم بهذا قد يجدون أنفسهم مضطرين لتفسير العلاقة بين الوطنية والأرض وصيانتها.
يواجه النظام معضلة، فهو إما يعزز مظهره كنظام خاضع وطبقة خاضعة، بالإفراج عن علاء كحالة فردية استطاعت الكشف عن مكمن ضعف النظام وتوفرت لها العلاقات والطاقات التي في اللحظة المؤاتية بذلت جهداً موجهاً، أو أن يُجبر علاء على كسر إضرابه بكل الوسائل المتاحة لإجبار سجين معزول على البقاء على قيد الحياة، أو أن يموت الرجل نتيجة إضرابه وهي نتيجة غير مستبعدة تماماً، بالضبط كاحتمالية تصفيته وإعلان انتحاره كإنهاء لمشكلة وجوده. وبقدر ما إن كل الاحتمالات مفتوحة فإن النظام قد يغامر بصورته كي يحافظ على استقرار وضعه في ظل تعقد الوضع الاقتصادي والاجتماعي، إن خروج علاء هو أقرب الاحتمالات للحدوث، لكنه أيضاً لا يلغي إحتمالية أخرى وهي ثقة النظام في أنه دمر كل أقنية العمل السياسي في مصر، في الجامعة والشارع وماتت الفورة النقابية التي حدثت فيما بعد انتفاضة 2011 وبالتالي فإن النظام قد يقامر بأخذ كل المكاسب، يحافظ على التابوه الوطني برفض الضغط الدولي للإفراج عن علاء باعتبار أن موته في السجن لن ينتج أي رد فعل يكون من القوة بحيث يشكل خطراً على النظام في حين أن موته في السجن قد يكون إعلاناً نهائياً وتتويجاً لنظرية رأس الذئب الطائر، ليكون مصيره عبرة لكل جيله.
إن النظام يصر على كون علاء عبدالفتاح سجيناً جنائياً وليس سياسياً، ومن الواضح تماماً أنه قد جرى الخلط بين القضايا الجنائية والسياسية لاستخدام الأولى كأداة تأديب ضد خصوم الثانية، فكما أنه لا توجد محاكمات ثورية بما أن الثورة فشلت حتى وإن انتهت بسقوط وجه من وجوه الطبقة الرأسمالية المصرية – مبارك – فإنه لن تكون هناك محاكمات سياسية ضد من اقترفوا ذنب الخروج، فالمحاكمة السياسية تحدث صخباً، يمكن استخدامها للدعاية السياسية، إنها محاكمات مسيئة للنظام، وهو مضطر للتعامل مع خصومه – من غير حملة السلاح – كمجرمين، وهم في نظره عصاة مجرمون في نظره فعلاً، لكن قصة القضية الجنائية ليست سوى شعراً مستعاراً أو ماكياجاً من النوع الردئ لأنه لا يخفى على أحد أن الخصومة سياسية وهي خصومة مع جيل بكل مكوناته وتوجهاته.
يبقى أن نقول، إن النظام يسئ بممارسته للأسس التي اكتسب بها شرعيته في 2013، لأنه يفتح باباً واسعاً للحديث عن الإفراج حتى على الأفراد الذين رفعوا السلاح من قوى الإسلام السياسي، ومموليهم، وإن السحق الشامل للحريات والاختفاء القسري والمحاكمات الصورية والتلفيقات التي تطال جيل يناير، سوف يتم استخدامها بشكل متزايد للتشكيك في صوابية الإجراءات المتخذة ضد تنظيمات الإسلام السياسي وارتباطاتها المالية، إن الوضع الحالي ينذر بانزلاقاً غير معروف العواقب.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 411
`


محمد عثمان