ما زلت أذكر قوله لي عندما التقيته ذات مساء في شارع الكتب الملاصق للتياترو الكبير حيث يجلس على الرصيف ماسحو الأحذية، قال وهو ينظر إلى أحد ماسحي الأحذية الذي كان منهمكاً في تلميع حذاء بين يديه: سأجعل من هذا الانسان بطلاً في رواية تتحدّى "البؤساء" لفكتور هوجو! كان ذلك في شهر أيار سنة 1956. وكان يومها يطمح في أن يكتب رواية يحكي فيها قصة شعب في نضاله وتاريخه في كفاح لا هوادة فيه!
وأذكر أنه قال لي: يجب أن نعلّم هذا الشعب كيف يكون النضال ثورة وكيف يثورون من أجل الحرية والعدالة الإنسانية... لكن، ويا للأسف، إثنان حلّا بينه وبين طموحه الوضّاء: خالد بكداش الذي أبعده عن الحزب وأبعد الحزب عنه، وداء السكّري الذي عجّل بوفاته! لكنه ترك إرثاً أدبياً مميّزاً في ديوانيه: "هتاف" و"فوق الدروب". وهذان الكتابان يجب أن يعاد نشرهما، إحياءً لذكرى شاعر وأديب لم ينصفه التاريخ!
لكن لا بأس أن نعود إلى الوراء من التقدم إلى الامام...
في تلك الحقبة ساد المجتمع جو خانق.. فالحكم بضياعه في الحكم شرّع أبواب السجون، يلقون فيها حتى أنصار السلم.. وأطلق لزبائنيّته العنان فعمّت الفوضى وسادت الرشوة وكثرت التظاهرات في ساحة البرج! في تلك الحقبة نشر ميخائيل صوايا "هتاف" و"فوق الدروب" ورأى شاعرنا أن يطرح السؤال كشكل من أشكال النضال: وهل من كنوز.. وهل من ذهب؟ وهل من وعود وهل من أرب؟ وهل من شكوك، وهل من يقين؟
إن هذا السؤال، أو ما يشابه من أسئلة ما كان ليخطر له على بال ولا كان ليتصوره لولا هذا الصراع في أعماقه!.. يدعوه لأن يثأر ولكن ممن؟ من ماضيه؟ من الزمن؟ من الذين خدعوه زمناً؟ من أدعياء الكفاح؟
ونراه يندفع ثانية ليسأل من جديد: وأين الأماني؟ وأين المعاني؟ وأين المكان؟ وأين الزمان؟
ومع ذلك فهو باقٍ على العهد، على إيمانه بالثورة وبالجماهير، وهو رغم تمزقه، ورغم آلامه ورغم كل ما جدث يظلّ شاعراً صادقاً... وفيّاً... يردد بصدق وإصرار: لا لوعة لا نواح ولو حطّم الدّهر منك الجناح!
وبعد؟ ماذا بعد؟... يخيّل إليّ أني أسمع شاعراً يهتف بنا بصوت كالرعد في سماء صافية:
أنا ما احرقت إلا من حناني
خمرة الروح
بأكواب المعاني
جعلوا من خمرتي كسباً
فباعوا الأرواح
في سوق الزمانِ
لكنني أرى فيما يلي أفضل وأشرف ما قال في الثوّار كخاتمة لهذا المطاف:
وثار في الأرض ثائر
يزف قوي البشائر
ويحيي رميم الضمائر!
* ترك الراحل ميخائيل عون مجموعة كبيرة من المقالات التي لم تنشر. ستعمل النداء على نشرها تباعا. كتب هذا النص في 25 كانون الأول من العام 2018 .