فيروس الاستهلاكية وتدمير الثقافة الأصيلة

الكثيرون يتأسفون (في ظرف التقشف هذا) على الإزعاجات الناتجة عن افتقار للحياة الاجتماعية والثقافية المُنظّمة خارج المركز "السيء" في الضواحي "الجيّدة" (المنظور إليها كمراقد بلا مساحات خضراء، بلا خدمات، بلا استقلالية، أين صارت تنعدم فيها علاقات إنسانية حقيقية). إنّه لتأسف منمّق. فحتّ لو وُجِد في الضواحي كل ما يتم التأسف على نقصه فسيكون المركز هو واضعه. ذلك المركز نفسه الذي، في ظرف سنوات قليلة، دمّر كل الثقافات الطرفية التي كانت - حتى سنوات قليلة مضت - تتمتّع بحياة خاصة، حرّة في جوهرها، ثقافات كانت تضمن حتى للمناطق الطرفية الأكثر فقراً وبؤسا طً تلك الخصوصية وتلك الحرية.

لم تنجح أية مركزية فاشستية في إنجاز ما أنجزته مركزية حضارة الاستهلاك. كانت الفاشستية تقترح نموذجاً، رجعياً وضخماً، ضُرِب به عرض الحائط. وكانت مختلف الثقافات الخاصة (الريفية، التحت بروليتارية والعمّالية) تواصل توحيد شكلها بشكل النماذج القديمة، من دون أية مضايقة، إذ كان القمع ينحصر في الحصول على اندماجها بالكلام فقط، ليس فعلاً. ولكن اليوم، وعلى عكس ذلك، صار الالتصاق بالنماذج التي يفرضها المركز التصاقاً شاملاً ولامشروطاً. يتمّ إنكار النماذج الثقافية الفعلية لقد تمّت الردّة. يمكننا إذاً، أن نؤكّد أنّ “تسامح” الايديولوجيا التمتعية الذي أرادته السلطة الجديدة، هو أسوأ أنواع القمع في تاريخ البشر. كيف تمّ التمكن من ممارسة قمع كهذا؟ بوساطة ثورتين، داخل المنظومة البورجوازية: ثورة البنى التحتية وثورة نظام المعلومات. إنّ الطرقات وتجهيز وسائل النقل بمحركات، إلخ.. ربطت الآن برباط وثيق الضاحية بالمركز، ملغية كل مسافة مادية. ولكن ثورة نظام المعلومات كانت راديكالية أكثر وحاسمة. فعن طريق التلفزيون، ألحق المركز البلد بأسره وجذبه إليه، في حين أن البلد كان تاريخياً مختلفاً للغاية وغنيّاً بثقافات أصلية. لقد أطلق المركز عملية مجانسة مدمّرة لأية أصالة ولأيّ طبع محسوس، أي أنّه (المركز) فرض، كما سبق وأن قلت، نماذجه، ألا وهي النماذج التي أرادها التصنيع الجديد، الذي لم يعد يكتفي بـ”انسان يستهلك”، وإنّما صار يدّعي أنه لا توجد إيديولوجيات قابلة للتصّور باستثناء إيديولوجيا الاستهلاك. هذه تمتعية علمانية جديدة، تتناسى بصفة عمياء كل قيمة إنسانية وغريبة بصفة عمياء عن العلوم الانسانية.

كانت الايديولوجيا السابقة التي أرادتها وفرضتها السلطة هي، مثلما نعلم، الدين: وكانت الكاثوليكية، شكلاً، هي الظاهرة الثقافية الوحيدة التي كانت “توحّد” الإيطاليين. أمّا الآن فصارت الظاهرة الثقافية السابقة في حالة تنافس مع تلك الظاهرة الثقافية الجديدة “الموحّدة”، ألا وهي التمتعية الجماهيرية: وبصفتها منافسة، بدأت السلطة الجديدة بتصفية الظاهرة القديمة منذ بضعة أعوام.

إنّ نموذج الرجل الشاب والمرأة الشابة اللذان تقترحهما وتفرضهما التلفزة لا يمت للدين بصلة. هذان الشابان هما شخصان لا يؤكدان وجود الحياة إلّا عبر منتجات الاستهلاك (وبطبيعة الحال، لا يزالان يحضران القدّاس يوم الأحد: بواسطة السيارة). لقد تقبّل الإيطاليون بحماس هذا النموذج الجديد الذي تفرضه عليهم التلفزة وفقاً لمعايير الإنتاج المنتج للرفاهية (أو من الأفضل القول، المنتج للخلاص من البؤس). لقد تقبّلوه: ولكن هل يستطيعون إنجازه؟

كلّا. فإمّا أن ينجزونه مادياً وبشكل جزئي، وبالتالي ينجزون نسخة مضحكة منه، وإمّا لا ينجحون في إنجازه إلّا بدرجة دونية تجعل منهم ضحاياه. فصار الشعور بالإحباط، باليأس والقنوط والقلق العصابي حالات نفسية جماعية. فمثلاً كان البروليتاريون الدونيّون، إلى غاية سنوات قليلة مضت، يحترمون الثقافة ولم يكن جهلهم يُحدث في نفوسهم الشعور بالعار. بل كانوا يفتخرون بنموذجهم الشعبي كأميّين، هم الممتلكون لسرّ الواقع. كانوا ينظرون نوعاً ما بتكبّر واعتلاء إلى “أولاد پاپاهم”، البورجوازيون الصغار، الذين كانوا ينفصلون عنهم، حتى عندما كانوا مجبرين على خدمتهم. أمّا الآن، وعلى عكس ذلك، بدأ البروليتاريون الدونيّون يشعرون بالعار بسبب جهلهم: لقد كفروا بالنموذج الثقافي الخاص بهم (المراهقون لا يتذكّرون هذا النموذج حتى، لقد فقدوه تماما)، والنموذج الجديد، الذي، يحاولون محاكاته ينبذ الأمية والفظاظة. ويلغي الشبان البروليتاريين الدونيّين، الذين تمّت إهانتهم، مصطلح عملهم ويستبدلونه على بطاقة هويتهم بمصطلح “طالب”. وطبعاً، منذ أن بدأوا يستحون من جهلهم بدأوا كذلك يحتقرون الثقافة (وهذه ميزة بورجوازية صغيرة تبنّوها بسرعة بفعل التقليد). وفي نفس الوقت، يصبح الشاب البورجوازي الصغير، خلال تطابقه للنموذج “التلفزي”-الذي صنعته وأرادته طبقته بالذات، ممّا يجعل ذلك النموذج طبيعياً بالنسبة له - فظّاً وتعيساً. وإذا تبرجز البروليتاريون الدونيوّن، صار البورجوازيون يتشبّهون بالبروليتاريين الدونيّين. وتمنع الثقافة التي ينتجها هؤلاء “الانسان” القديم الكامن في نفسهم من التطوّر، بحكم أن تلك الثقافة تتميّز بالتقنية وبنفعية قصوى، ممّا ينتج عنه تقلّصاً للقدرات الذهنية والأخلاقية الكامنة فيهم.


إنّ للتلفزة ضلوع كبير في هذه الظاهرة. ليس بصفتها “وسيلة تقنية”، أكيد، وإنّما بصفتها أداة للسلطة وبحكم أنّها هي نفسها سلطة. ليست التلفزة فضاءً يتم من خلاله بثّ الرسائل، وإنّما هي مركز صانع للرسائل. هي الفضاء التي تصبح فيه عقلية ما محسوسة، ولولا هذا الفضاء لما يتم معرفة مكان وضعها. وتتجلّى بشكل ملموس نظرة السلطة الجديدة عبر نظرة التلفزة.

لا شكّ (والنتائج تبرز ذلك) أنّ التلفزة مستبّدة وقمعية وتجاوزت في استبدادها وقمعها كل وسيلة إعلامية في العالم. فالجريدة الفاشستية وكتابات شعارات موسولينية في مخازن الغلّة تثير الضحك: مثلما يثير الضحك وبشكل موجع المحراث أمام جرارة. إنّ الفاشستية، أقولها وأكرّرها، لم تكن أساساً قادرة حتى على خدش روح الشعب الإيطالي: أمّا الفاشستية الجديدة، عبر وسائل الإعلام والاتصال الجديدة (خاصة منها التلفزة) لم تخدش روح الشعب فحسب، بل مزّقتها، اغتصبتها، ووسّختها إلى الأبد…

بقلم: بيار باولو بازوليني Pier Paolo Pasolini –(1922-1975): كاتب وشاعر ومسرحي ومخرج سينمائي إيطالي. أحد أبرز الأسماء في الأدب والسينما الإيطاليين الحديثين.

الترجمة من الايطالية: محمّد وليد قرين

عنوان النص الأصلي: Acculturazione e acculturazione
تاريخ صدور النص: 9 ديسمبر 1973، على الجريدة الإيطالية Corriere della Sera كورييريه ديلّا سيرا.