حين تتسابق الخيالات

 

... هنا في توهة الحياة، تظلُّ الجهاتُ لذاتها وعناصر الطبيعة، اللتان تحوزان على الرقم أربعة...
هناك، في رابعة النهار، خرجتُ وصدري مُشرَعُ الجهات، أصيخُ السَمْعَ، لا شيءَ غير سكونٍ يقطعُهُ سقوط بعض الأشكال الحياتية، تتهاوى عبر رياح المعمورة، ربّما هي محض صدفة، هنا... حيث اجتماع العناصر لذات الأسباب وأضدادها.

أصيخ السمعَ أكثرَ، لا نسمات عليلةً تخترق لهَبَ آب، سوى ثقوبٍ غير مرئية... كما لو يمكننا الموت، لكنّنا لا نموت. سوى ثقوبٍ نسمع فيها صفير الرياح، نرى صُفرتها على الوجوه حين يتبدّل لونها، وتمتقع خوفاً ورعباً، حين يُكَزُّ على الأسنان... فتتراءى ألسنةُ اللهب، وقد شاطرها ماء العيون تماوجاً وانسكاباً، والظمأ يفتك بالأكباد يكاد... وليس غير قنطرةٍ يا ولدي نعبرها إلى عالم الخلود، ولم يتبقَّ غير الثرى وقد درجَ يضمُّ جموع الكائنات منذ بدء التساقط الطبيعيّ، وليس على وجه الأرض غير أنفاسٍ كأوتارٍ، تتقاطع فيها، وتتداخلُ أنفاس الكواكب على شكل كائنات الأرض... "إنفخْ أنفاسَكَ في فتحتيْ أنف الحصان تكسب ثقتَهُ واحترامه"... لكن عليك أن تُحسنَ الاقتراب.

في تالي توهتنا... درَجْنا نتكّهفُ أحلامَ اليقظةِ، ومَن حملَ أدراجَهُ الأولى، بكاها ردحاً... ثمّ استكانَ لأزمنةٍ غير مثالية، لازمتُهُ لاجترارٍ تراجيدي. حول هذي اللازمة كان الآليون الجُدد، روبوتاتٌ من لحمٍ ودم. لكن، لا تُقلَّدُ العادياتُ ضبحا، وتلك الأسفار لمطارحنا، فوق صهو الأبلقِ... أنطوت فيها ملحمة داحس والغبراء، ولمّا تزلِ الأقوام تحت سنابك خيلها وليلها؛ فلا توانٍ لمُتنَبٍّ عن بيدائها حتّى وقوعه في دمه؛ فكنتُ سليلَ الملحِ والخبز، ألحقُ بصانع المطر إلى أبوانٍ لعتباتٍ لا تُحصى، ولي في "عِزّةِ الجمال" عقلي الشهيدُ ودمي، لي خطوطُ الشّمس، والنجوم في كفيْ ليلي ونهاري، أبتهج لصهيل الأصيل، لو نكون لطفاء لابتنيْنا عالمَ الخلودِ بلا سفكِ للدّماء.

دمُنا، ولأنّهُ بلونِ النبيذ، يلوذ لذاتهِ التراب، يتجذّرُ فيه، يتباسقُ الأشجارَ، الأزهار، الأعشاب، وتلك الكرمةَ المنعقدة الشُّهبِ، نعتصرها، منها وعنها " تُطعِمُ وتَطْعَمُ" الأطيارُ، الغُواةُ والفرسان. في نصٍّ ثقبيِّ الحَفْرِ والنقش، ولشدّةِ فرطِ المنامات تحت انحناءة السكين... سمعتُ صراخي القديم، وانتزعتُ من دفتر الذكريات أوّلَ بتلةٍ درجَتْ تعاندُ الزّمن، أوّلَ سيجارةِ وزجاجةِ جعة، أوّل قبلةٍ أتنفّسُها أشواطاً سعياً لجائعٍ يقيمُ في عقلي، في صدري وروحي، ولأنّ الجشعين لا يشبعون، غرزتُ في كبد السماء بيتاً من الشِّعرِ.

أشعرُ بسباق الفرسان، بحتمية سقوطهم في دائرة الدوائر... لا مفرَّ من السهام الناريّة والحِراب، من النسور على هيئة طائراتٍ حربيةِ ذكية. أحياناً، ننسى أسماءنا لأسبابٍ غامضة، أحياناً، لا نعثرُ علينا في الحياة، كما لو نذهب في كلِّ بذرةٍ لتشكُّلٍ جديد، لروابطَ توصلنا بعتبات العيون الأولى. على الدروب بانتظار شرفة عصفور، صورٌ تنشقُّ عن خيالات أصحابها، تقلّدناها لعقودٍ طفوليةٍ، تزهى ساخنةَ الدّماء... حين تتسابق الخيالات، وتلك الحصى المُشقّقة، تحتملُ أركيولوجيا المُنقّبين؛ فلا فرعون طغى، ولا تنمّرَ نمرود، يُثبتُ علمُ الآثار ذلك، وبأنّ أدعياء الشعب المختار شوّهوا التاريخ، ورضينا برواياتهم المُغرِضة.

والآن، في خضمِ الموتِ السريريِّ لأمم العناصر، خيالاتٌ تطهو فوق صهو الملاحم، والرِجلُ العالقةُ في الخراب، تنتظر سيّدَها، وقد أرسلَ للتوِّ برقيةَ عزاءٍ إلى حفدةِ جامعة القبائل.
كان داروين يرمي بوجه الشعوب حقيقةَ التطوّر والتهوّر، والمعارك التالية بين الدين والعلم، لم نُدرك الفائدة المتوخاة، لهذا الهرس تراكمٌ لأفكارٍ شوهاء، تراكمٌ يجتاح أعماقَ الأعناق. حدثَ أنِ افتعلنا ترنّح الأرواح، حدث تهاطل الألوان لاشتمام نزعةِ فرائس الدُّجى، حدث التأمّل والذهول، حدث؛ فانهارَ البدنُ على ذاته، يتكثّفُ اجترارَ النيران والسنين، ولأنّهُ ليس وقتاً، ليس زمناً، ليس تماماً كما يصف الشُّعراء، كما يُسجِّلُ المؤرّخون، كما يدور المتصوّفة في حلقاتِ نورانيةٍ مزمنةٍ... تطرق أعطافَ الحنين لتلك الأماكن، لو نفكُّ رموزَها لمرّةٍ للنسيان.

لا مفرَّ من تلك الخطى الطفولية، تسحبنا خارج الجاذبية، حيث نطارد فراشات النظام الكونيّ بدقّةِ عالية، بلهجةٍ ساخرةٍ من حُلُمٍ في الحُلم. أحلامٌ أبقرُها، ليس لأذيّةٍ تقتات الأدب، أو لجوءٍ لزنازين الأرض والفضاء، ليس لتناسلٍ خارج الطبيعة.

تكعيبيّةٌ دالي لم تستوفِ شروطَ ذاته، وتلك الأنساق المعرفيّة المُغرقة النشوة. ثمة صنميةٌ توهّجَتْ بخلاف العقل الإمام؛ فتهاوت الأنماط السلوكية في شَركِ الاستلاب، وأرض الدُّنيا الواسعة تقتات مَن عليها، لكأنّا أشلاؤنا في مرمى النُظُمِ، لا روحَ لمن لا يستقيم، نقيم فوق صدوع الأكوان المعرفيّة، لا حديثَ آخر لخيالاتنا.