عادَ من منافيه الإفتراضية ذات الأبعاد اللامتناهية، إلى منفاه الوجودي. هل بمقدور الزمن أن يُترجِمَ الأفكار والأفعال، وقد قيلَ، الزمن يغسلُ النفوس، يُغيِّر، تتحوّل فيه سرديات البشر...!!
لم يكن لديه خططٌ ما، لكن، أنجزها دون أن يعرفها أو يجهلها، وهي احتمالية الأنا الغريبة، القريبة، وجامعة الأسئلة المشروعة، حتّى المنكسر منها في وهدة الصّمت، في تجاوز أو احتباس جوهر النص، في مذهب القلب.. في مقتلتهِ الصغرى والكبرى، وقد كثُرَت الإصابات بمقدار تعدّد النصوص، بمقدار انعقادها بذائقة كاتبها، وهو ليس جزءاً منها، لا بل هُويتُهُ، بوصفها المكاني الزماني الإنساني.
عبْرَ مرحلةٍ متكاملةِ العناصر، كان يختم صيغةَ الحلم بحرفٍ طويل الكلمات والجُمَل، وبعض المعطيات شكلٌّ من كلِّ شيء، والثابت لتشيؤاتٍ هُواتيةٍ ثقافيةٍ مقهورة، بمادتها الحيوية المضرّجةِ الاحتمالات اليقينية واللايقينية، ومعظمها اتخامٌ يفوق القدرةَ نفسها، لذا وقع التشبيه والدال والمدلول والحفر في الهوامش والاقتباس والتقميش خارج حدود السردية لذاتها، فانبنى التحريض والتعهير لكسر التفاعل والحوار.. ولا جدوى، ربّما كي يظلَّ الأدبُ الكتابَ المفتوح بلا نهاية، ومعَ ذلك، ليس المعضلة.
في عالم الكتابة، تَشَكُّلٌ يضربُ بعقل صاحبه، بروحه وجسده، وقد يقبض على غريمه فيه؛ فينحو للتعاقب المفتون الرّغبات، يصرخ في وجهه، وإذا ما لامسَ جهازَهُ العصبيَّ، زاحت البوصلةُ درجاتٍ هي بمقياس الغربة المُحنّطة بملايين السنين والرسائل. في هذا التشكّلِ تتدافع أخيلةُ المغادرين والمقبلين، يلاعبها في العتمة غير متحفِّظٍ للصور، وبعض الخيالات جرعة قوية المذاق، ولأنّهُ دمث الطباع والخِصال، يحاورها ومن ثَمَّ يسحبها عطفاً وفضلاً إلى رشفاته، ثُمَّ يدعها ترتاح من وعثاء السفر تقليداً لعادات الكرم والضيافة.
بعد وقتٍ يعثرُ على أجزائه المبعثرة في الليلة السابقة وما قبلها وبعدها، يحاول لملمةَ الأماكن في ذاكرته، أكثرها غاب في الأرشيف البعيد، يُشكّلُ منها أطفالاً.. لا يُقتلون، يأخذهم بعيداً عن الحروب والخوف. يُشكّلُ شُبّاناً ساعين لحياةٍ كريمة، رجالاً ليسوا غرباء، والشُّهداء.. يجمعهم لذاته، يجهد للوصول إلى تلك اللحظات، حيث الأصوات يتردّدُ صداها في الطلقات، حيث المفاتيح الراسخة في أكُفٍّ ذابت في التراب، حيث تلك الرائحة، لا تملُّ تُدغدغُ الأنوف، تلك الأنوار.. وقد احترقت تُشِّعُ لأصحابها.
يقول، أقوى المشاعر، يدفعها مُبَلَّلَ الملاعب والعتباتِ. كلُّ الأشياء في مكانها، كلُّ اللحظات على توقيتها، كلّ الوجوهِ تتلألأ في الأسحار، والشّمس لا تستريح من الأنفاس، من التثاؤب، من ضفائرَ تضحك ذؤاباتُها.
ولمرّةٍ.. تتواصل، حينما المساء المُكلثَمُ يجمع الرفاق، لصوتها.. سيرة الحُبِّ، نظراتٌ ناعسةٌ تتهادل بصوت الهوى، لآهاتها خروجٌ على النصِّ، علبُ الجِعةِ والسجائرُ الحاميةُ الرؤوس، وبعض اللمسات تكسر من وحدة الخيالات الشريدة.
لم يكن لوحده حين انقلبت الأماكن عن جادة الحياة، وما زال يأتي على أحلامه، يجمع من ظلاله المتكَسِّرةِ المرّةَ تلوَ الأخرى، يخلطها بأجزائهِ؛ فيظهر على نفسهِ قاطعاً لعنةَ الأفّاقين، كاسراً حصارَ السنين.
كان، كلّما حانت لحظة الوصول، عادَ وحيداً لإنهاء واجباته المدرسية، ومكالمةٍ عالقةٍ في سماعة الهاتف، فلا منحى لفُسحةٍ وقعت آخرَ الصفحة، لا منجاةَ من الذي سوف يقع، يُقنِعُ الغيبَ.. يُنبِئُ بحكايته، ولا يدري إنْ لم تخنْهُ الذاكرة، منذ متى يقرأ في لحمهِ ودمه، كي يقولَ ضوءاً، كي يحظى بخطواتهِ الأولى، بلثغةِ كلماته الطفولية، بطفلةٍ.. امرأةٍ، يستدلُّ على الطريق إليها.
وهذا العطب الدمويّ، هذه المرة أيضاً، ثمة خارجٌ عن الإرادة. يا لها من إعجوبة...!!