ولكن مجرد اختيارِك هذا السلاح في حرب العدو، لا يكفي للقضاء على العدو، ما لم تضربْ به فعلاً، أو ما لم تُحسن الضربَ في المَقاتلِ والمَفاصلِ ذاتِها، لا في الأطراف والحواشي وحدِها ! . .فلننتظر ، إذن ، كيف يُقاتِل العرب إسرائيل بلا المقاطعة الاقتصادية ؟ .. المقاطعة الاقتصادية، تعني الحصارَ الاقتصادي، والحصارُ هذا لا يكونُ حصاراً حقاً ألاّ أذا كان مًقفَلاً من جهاته الأربع ، أو الستّ إذا صحَّ التعبير، وهو صحيح ..
ليس حصاراً حقيقياً أن تَسدَّ بعضَ المنافذ على عدوك، بينا هناك عدةُ منافذَ يتلقّى منها الهواء والماء والضياء، ويتلقّى منها الغذاء والكساء والدواء ، ويتلقّى منها كلَّ ما تحتاجُ إليه الحياة من مقوِّمات الحياة! ..
لكي يكونَ الحصارُ الاقتصادي لإسرائيلَ سلاحاً قاتلاً حاسماً ينبغي أن يجعلَ العربُ منه حلقةً مفرغة تحيط بها من كلِّ جهاتها، ثم تجعل لهذه الحلقة المتماسكة أبعاداً تعمق في الأرض، وترتفع في الفضاء، وتمتدُّ في الموانئ، الجوية والمائية، وفي المداخل والمخارج البرية كلها.
***
إننا نخدعُ أنفسَنا، ونحدعُ شعوبَنا، حين نُقيمُ هذه المكاتب المسمّاة مكاتب مقاطعة إسرائيل، وتمرُّ السنون وهي قائمة، ونعتقدُ بأننا مقاطعون حقاً، في حين ترى إسرائيل، رغم ذلك، تعيش كما يعيش الأحياء الأصحاء في عافية، غير محرومةٍ شيئاً من أسباب الحياة، ومقوِّمات الوجود، وعوامل البقاء والنمو والامتداد والاعتداء ..
أمام هذه الظاهرة ، تبرزعلامةُ استفهام ، لتُشيرَ ألى وجوه النقص في هذه "المقاطعة" من جهة، ولتسألْ من جهةٍ ثانية:
ــ هل تنحصرُ مهمةُ هذه المكاتب، ومؤتمراتها المتوالية، في تعقّبِ الشركات العالمية التي تتعاملُ مع إسرائيل، وإثباتها في اللائحةِ السوداء حيناً ، ثم محوها من اللائحة بعد حين ؟ .. صحيح أن هذه بذاتها جديرةٌ بأن تكونَ مهمةً كبيرة مَعنياً بها جداً ، فهي ـ بلا جدال ـ إحدى الوسائل الناجعة في إحكامِ الحصار الاقتصادي على إسرائيل ..
ولكنْ، هل تؤدّى هذه المهمة بدقّة ، ومِن غيرِ أخطاء ؟ .. هذا أولاً ، وأما ثانياً ، فهل يعلمُ ضباطُ مكاتب المقاطعة أنّ حركةَ التهريب بين إسرائيل والبلاد العربية لم يهدأْ نشاطُها قط منذ قيام إسرائيل حتى اليوم ؟ .. وهل عجزَ هؤلاء أن يوقفوا حركةَ التهريبِ هذه عن نشاطها، رغم السنين، ورغم المؤتمرات ورغم الخيْرات التي تمدّ بها هذه الحركة حياة إسرائيل فتنعشَها، وتبطل سلاحَ المقاطعة العربية حتى تجعلَه سلاحاً مغلولاً لا يقطع ولا يوجع ؟ ..
وأما ثالثاً ـ وهنا بيتُ القصيد ـ فهل صنعتْ مكاتبُ المقاطعةِ شيئاً حيال الدوَل الغربية ، كأميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا الغربية، التي تخرق الحصارالعربي على إسرائيل من مختلف جهاته دون رادع؟ ..
إنّ هذه الدول لا تكتفي بأن تُنعشَ إسرائيل بالمال والسلاح والمواد الاقتصادبة المتنوعة، وتعينها على العدوان، فضلاً عن البقاء والتطور وتجاهل حقوق العرب أبناء فلسطين .. بل هي ـ كذلك ـ تتغلغل برساميلها واحتكاراتها إلى الاقتصاد العربي ذاته ، لتسيطرَ عليه وتمنعه من التطور والتقدم والازدهار المستقل ...
خداعاً وباطلاً أن نملأَ الدنيا ضجيجاً بما نسميه المقاطعة العربية، ونحن نفتحُ بأيدينا أبوابَ الحياة لأسرائيل، إما بالتعامل مع الدول التي تُنعشُ إسرائيل، وإمّا بالتغاضي عن تقوية هذه الدول لإسرائيل، وإما بفتح الطريق البحري (خليج العقبة) لمواصلات إسرائيل ! ..
* مقالة للمفكر الشهيد حسين مروة نُشرت في جريدة "الحياة" البيروتية نشرت بتاريخ 4 آب (أغسطس ) 1959.