• تعود ظاهرة "الدعم" إلى عقود خلت، حين لجأت الدولة اللبنانية إلى توجيه أشكال صريحة ومستترة منها نحو فئات ومجموعات من السكان والقطاعات، تحت ضغط اعتبارات بعضها الأساسي مصلحي وزبائني، وبعضها الآخر مرتبط بمحاولة تطويق الانعكاسات الاجتماعية الناجمة عن اختلال أداء اقتصاد السوق ("الحرّة”)، خصوصاً في الحقب التي ترسّخت فيها السياسات الليبرالية النيولبيرالية في البلد. وشمل الدعم حقولاً عدّة، لا سيما تعريفات استهلاك الكهرباء والمحروقات وشراء محاصيل التبغ وتوزيع القروض السكنية وتمويل التعليم الخاص المجاني والاستشفاء على حساب وزارة الصحة فضلاً عن برامج القروض المقدّمة بشروط تسهيلية إلى المؤسسات العاملة وغير ذلك من حقول.
• أثبتت الدراسات أن أنساق الدعم المتوارثة في لبنان تميّزت تاريخياً بكونها غير عادلة وغير فعّالة. فنصيب العمال والفئات الاجتماعية الدنيا والمتوسطة من منافع الدعم كانت أقلّ بكثير عمّا يحصل عليها الميسورون والفئات العليا من الطبقة الوسطى، وخصوصاً المتحكّمون بشبكات التهريب في الداخل والخارج. مع العلم أن الدعم تركّز تاريخيا في أسواق تخضع لسيطرة تكتلات احتكارية ترتبط بعلاقات وثيقة مع أطراف داخل السلطة وحولها. وفي المحصّلة، بدل أن يشكّل الدعم وسيلة لتحصين شبكات الحماية الاجتماعية وتصحيح الخلل في توزيع الدخل، حوّلته القوى المسيطرة إلى أداة إضافية لتعزيز علاقاتها الزبائنية وتعميق أوجه عدم العدالة في البلاد.
• الجديد في هذه الظاهرة تمثّل بعد الانهيار الاقتصادي عام 2019 في اضطلاع مصرف لبنان – بالرغم من تلاشي احتياطه من العملات الأجنبية – بأشكال مستجدّة مما أسموه "دعماً"، وذلك عبر التزامه بتأمين الدولار الأميركي بالسعر الرسمي (1515 ل.ل) إلى موردّي السلع والخدمات الأساسية، لا سيما المحروقات والقمح والأدوية، بهدف الحدّ من نطاق الانهيار الاجتماعي واحتمال تحوّله إلى سبب رئيسي لعدم استقرار النظام السياسي. وتقصّد الخطاب الرسمي توصيف هذا الإجراء بصفته "دعماً"، في حين أنه لم يكن سوى نتاجاً للانهيار الاقتصادي المالي الذي تتحمل مسؤوليته سياسات القوى المسيطرة التي أدّت إلى تقويض ونهب ادخارات اللبنانيين ولقمة عيشهم.
• مع تسارع النفاذ التدريجي لاحتياط العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، بدأت تنشر مسودّات وزارية حول "مشاريع/تصوّرات" لترشيد الدعم بعدما ارتأوا عدم إلغائه دفعة واحدة. وتتناول هذه الورقة، بالعرض والتحليل والتقييم، أبرز ما تضمّنته المسودّة المشتركة الصادرة عن مجموعة وزارات معنية بالدعم في 25 كانون الثاني 2021.
مبرّرات تعديل الدعم في "المسودّة" الوزارية المشتركة
تستند هذه المسودةّ (وأيّ مسودّات وزارية أخرى يرجّح أن تصدر لاحقاً) إلى الحجج الأساسية التالية:
• إن إجمالي احتياط مصرف لبنان بالعملات الأجنبية يبلغ راهنا 17.69 مليار دولار - بما فيه الاحتياط الإلزامي البالغ 17.1 مليار - ما يعني أن ما بقي متاحاً للاستخدام من قبل البنك المركزي لا يزيد عن 590 مليون دولار فقط (مع العلم أن ثمّة ملفات قيد الدرس بمئات ملايين الدولارات ويتوجّب على الدولة دفعها في حال ثبوت استحقاقها).
• إن مجموع الدعم المباشر الذي تولّى مصرف لبنان تسديده عام 2020 بلغ نحو 5930 مليون دولار، ويتوقّع أن يرتفع إلى 6910 مليوناً عام 2021 إذا ما بقيت الأمور على حالها من دون أيّ تعديل في سياسة الدعم (الارتفاع عام 2021 عائد إلى أن دعم سلة الغذاء لم تطبّق إلّا لستّة أشهر عام 2020).
• إن ترشيد الدعم له إيجابيات وسلبيات: في الإيجابيات، أنه يحدّ من استنزاف احتياط مصرف لبنان ومن عمليات التهريب والتلاعب بالأسعار؛ وفي السلبيات، أنه يعزّز التضخم ويدفع سعر صرف الليرة اللبنانية نحو التدهور كما أنه يقلّص الاستهلاك والنمو، ويخلق ضغوطاً إضافية على المالية العامة (بسبب تمويل البطاقة التمويلية).
ما هو مضمون السيناريوهات التي تقترحها الخطّة الحكومية؟
تتضمّن المسودّة الوزارية المشتركة استحداث بطاقة تمويلية الكترونية تمنح للأسر المحتاجة وفق أربعة سيناريوهات لـ "ترشيد" الدعم، توائم بين خفض قيمة أو نسبة الدعم الحالي (المقدّم للمحروقات والقمح والأدوية)، وقيمة البطاقة التمويلية المقترح استحداثها للأسر. وحتى لو طرأت تعديلات على المسودّة المشتركة وسيناريوهاتها قبل بدء نقاشها في المجلس النيابي، فان ذلك لن يغيّر كثيراً في الوجهة الأساسية لحجم التكاليف وأنواع المعالجات المقترحة.
• السيناريو الأول: يلغي كلّيا الدعم الذي سبق أن خصّص عام 2020 للبنزين (مليار دولار) والمازوت (1،1 مليار دولار) والغاز (100 مليون) والكاز (35 مليون) والقمح (150 مليون)، ويخفّض دعم الدواء إلى النصف (600 مليون عام 2021 بدل 1200 مليونا عام 2020) ويستمرّ في دعم فيول الكهرباء (900 مليون). وهذا يخفّض الدعم السنوي المباشر إلى 2450 مليون دولار عام 2021، بما يشمل أيضا كلفة صيانة الكهرباء (250 مليون دولار) ومصاريف القطاع العام الأخرى بالدولار (600 مليوناً). ومع إضافة كلفة البطاقة التمويلية المقترحة والبالغة 1200 مليون دولار يصبح مجموع الدعم 3650 مليون دولار بدلاً من 5930 مليوناً عام 2020. وقد يجري تعديل هذا المبلغ تبعاً للاتفاق النهائي في مجلس النواب على قيمة البطاقة الشهرية وعملة الدفع.
• السيناريو الثاني: يحافظ على دعم القمح 100% ويستمرّ في دعم البنزين والغاز لمدة شهرين والمازوت جزئيا لمدّة سنة، مع خفض 10% في دعم الكهرباء. تنخفض قيمة البطاقة التمويلية إلى 140 دولار شهريا للأسرة (من دون حسم موضوع العملة). ويبلغ مجموع الدعم المباشر 3370 مليون دولار، ويضاف إليه مليار دولار للبطاقة، ليصبح مجموع الدعم 4370 مليون (72.5% من الدعم المسجّل عام 2020).
• السيناريو الثالث: هو شبيه بالثاني، ولكنه يضيف دعم الغاز لمدّة سنة والسلّة الاستهلاكية لمدّة 3 أشهر (80 مليون دولار شهرياً)، وتصبح معه قيمة البطاقة 108 دولار للأسرة شهرياً (دون تحديد العملة). ويبلغ مجموع الدعم المباشر 3700 مليون دولار، وتضاف إليه كلفة البطاقة المقدرة بنحو 775 مليون دولار، ليصبح مجموع الدعم 4775 مليوناً (75.5% من الدعم المسجّل عام 2020).
• السيناريو الرابع: يزيد مدّة دعم السلّة الغذائية إلى سنة بدلاً من 3 أشهر ودعم المازوت حتى 90% ويستبدل دعم البنزين ببطاقة تمويلية مخصّصة للسيارات والفانات العمومية والخاصة وفق معايير محدّدة (4 تنكات للخاصة و24 تنكة للسيارات العمومية). يبلغ مجموع الدعم المباشر 3890 مليون دولار، ويضاف اليه 646 مليون دولار للبطاقة التمويلية المخصّصة للبنزين، ليصبح مجموع الدعم 4536 مليون دولار (76.5% من الدعم المسجّل عام 2020).
الموقف من التصوّر الحكومي والبدائل القابلة للطرح؟
• يؤكد التصوّر الوزاري المشترك استمرار التحيّز الطبقي ضد الفئات العمالية والشعبية، عبر سياسات عامة مشبعة بالارتجال العشوائي والمصالح الخاصة والفساد. فالحلول التي يطرحها هذا التصوّر تقضي بتمويله شبه الكامل، إما مباشرة عبر المواطن الذي يتمّ تحميله تبعات تحرير أسعار السلع والخدمات، أو عبر المال العام الذي تجبيه الدولة من عموم المكلّفين. أما التكتّلات الاحتكارية، وهي المسيطرة في الأساس على أسواق المنتجات المدعومة، فان الخطة الحكومية تعفيها عمليا من تحمّل أي أعباء مباشرة، وسط استمرار السياسة الضريبية نفسها وعدم إقرار وتنفيذ قانون مكافحة الاحتكار.
• بيد أن أخطر ما في التصوّر الحكومي هو تجهيله للأسباب التي أدّت إلى تبخّر احتياط مصرف لبنان، وعدم مقاربته لهذه المسألة إلّا من زاوية "ترشيد الدعم"، وبالتالي عدم إدراجه معالجة هاتين المسألتين (الاحتياط والدعم) ضمن خطّة وطنية شاملة للإنقاذ، أي ضمن الخطّة التي كان ينبغي أن تضعها حكومة من خارج المنظومة وذات صلاحيات تشريعية (بحسب ما طرحته قوى الانتفاضة منذ أيامها الأولى). ويدلّل هذا الفصل الأرعن بين مسألة الدعم وأزمة النظام الاقتصادي والمالي عموما عن عجز وتواطؤ وقصور من جانب القوى الحاكمة.
• يثير التصوّر المقترح شكوكاً كبيرة عندما يحصر بحثه في مسألة الدعم واستنزافه للاحتياطي الإلزامي من دون أن يسبق ذلك أو يتزامن معه تحديد واضح للثقب المالي الأسود في حسابات مصرف لبنان والمصارف ووزارة المال، وتصوّر لآليات توزيع الخسائر وللإطار القانوني الناظم لحركة رؤوس الأموال، وكذلك الإجراءات الواجب اعتمادها خلال المرحلة الانتقالية لاسترداد المال العام والخاص والنهوض بالاقتصاد وتوفير الحدّ اللازم من رافعات الحماية الاجتماعية، وغيرها من اصلاحات تشريعية ومؤسسية.
• كما يحيط الالتباس وعدم اليقين بمقاربة التصوّر الوزاري للفئات الاجتماعية المستهدفة بالبطاقة التمويلية (ما بين 600 ألف و700 ألف أسرة). فهذه المقاربة تتسم بالكثير من الضبابية بسبب تقادم القواعد الاحصائية والنواقص الفادحة فيها، في بلد لم يبادر منذ 90 عاماً إلى إجراء مسح إحصائي ديموغرافي، وأكثر من نصف العاملين فيه هم غير نظاميين، فضلاً عن أن أكثر من ثلث المسجّلين هم غير مقيمين في البلد. ويستحيل في مثل هذه الظروف إمكان معرفة من هم بالتحديد الفقراء والمعوزون والتثبّت بالتالي من خصائصهم التفصيلية ومن عناوينهم المحدّدة.
• في سعيه إلى تجاوز هذه المحددات الإحصائية، يستسهل التصوّر الوزاري التوجّه إلى "خليط عشوائي وواسع" من الأسر المستهدفة، مستدرجا طلباتها للحصول على البطاقة عبر ملء استمارة احصائية يعوزها الكثير من الدقّة والشفافية والموثوقية، مما يترك المجال واسعاً للأجهزة المعنية بإدارة عملية اختيار المستفيدين كي تتحكّم بالاختيار النهائي. وعندما نتحدث عن هذه الأجهزة فإننا لا نقصد حصراً الموظفين والفنيين المعنيين، بل نقصد بالدرجة الأولى أطراف المنظومة الحاكمة وأحزابها الطائفية الذين لن يتوانوا عن استخدام موضوع البطاقة التمويلية لإعادة شراء ولاء "جمهورهم" الطائفي.
• يثير التصوّر الحكومي مخاوف فعلية من إمكان استخدام مسألة احتياطي مصرف لبنان كمطيّة لاصطناع شرخ بين الفئات الاجتماعية المتضرّرة من تبعات الانهيار الاقتصادي. والمقصود هنا بالتحديد طرفان أساسيان: من جهة، الفئات الاجتماعية الأكثر حاجة إلى استخدام الاحتياطات بالعملة الأجنبية (بما فيها الاحتياطي الإلزامي) لتأمين الحد الأدنى من قوتها اليومي واحتياجاتها الصحية الأساسية؛ ومن جهة أخرى، المودعون الحريصون قدر المستطاع على عدم المسّ بالاحتياطي الإلزامي حماية لما تبقّى من ودائعهم المصرفية. وينبغي عدم تسهيل حصول شرخ بين هاتين الفئتين اللتين تشكّلان جزءاً من القاعدة الاجتماعية لقوى الانتفاضة.
• إضافة إلى ما سبق، يتضمّن تصوّر الحكومة العديد من نقاط الضعف والالتباس الأخرى، ومن ضمنها: عدم وضوح العملة المعتمدة للبطاقة التمويلية وضبابية السعر المحدّد لليرة إذا تقرّر دفع البطاقة بالليرة (مع الاشارة إلى توافق البنك الدولي والجهات الرسمية مؤخّرا لتزويد حاملي البطاقة بـ 6200 ليرة للدولار الواحد)؛ عدم وضوح مصادر تمويل المشروع في المدى القصير والمتوسط، مع العلم أن كل الأموال المتاحة راهنا (البنك الدولي، الاتحاد الأوروبي، ألمانيا) لا يزيد عن 300 مليون دولار أي أقل من 10% من كلفة السيناريو الأول للدعم، الأمر الذي يطرح مشكلة استدامة المشروع المقدّر أن يستمرّ لسنوات طويلة بسبب حجم "الثقب الأسود" المالي؛ يضاف إلى ذلك، إقصاء المشروع للمقيمين غير اللبنانيين – المقدر عددهم بحسب وزارة الاقتصاد بنحو مليونين - عن الاستفادة من البطاقة التمويلية، الأمر الذي ترى بعض الرؤوس السلطوية الحامية أنه المكسب الأهم من استبدال الدعم بالبطاقة، كونه يقطع الطريق منذ البداية على استفادة غير اللبنانيين من الدعم (مع مراهنة السلطة على قيام برنامج مشابه لللاجئين يموّل عبر ما يسمّى "المجتمع الدولي" وقد يوفّر للبنان كميات إضافية من العملة الصعبة).
أخيراً، ماذا تعوّض البطاقة المقترحة من قيمة التراجع الذي طاول القوة الشرائية للأجر؟
72% من الأسر كان مدخولها الشهري عام 2018 (دراسة الاحصاء المركزي) لا يتجاوز 2.4 مليون ليرة لبنانية، أي 1600 دولار أميركي آنذاك. ومنذ أكتوبر 2019 خسرت الأسرة نحو 60% من قوتها الشرائية بسبب التضخم المتراكم، وقد تصل الخسارة إلى 75% مع رفع الدعم، ما سيخفّض القوة الشرائية للأسرة إلى 400 دولار أميركي شهرياً. مما يعني أن مشروع الحكومة يعوّض الأسرة – بعد خسارتها 1200 دولار من قوتها الشرائية - ببطاقة لا تزيد قيمتها الشهرية عن 165 دولار في أحسن السيناريوهات. إن هذا الوضع ينطوي على امعان فظيع في تعميم حالة الإفقار في بلد أكثر من 40% من ثروته مستقطب من قبل 1% فقط من السكان.