نظّمت سياق في آذار ٢٠٢٠ سلسلة جلساتٍ حول سياق العمل الزراعيّ في لبنان في ظلِّ الأزمات الاقتصاديّة والبيئيّة. شارك في الجلسات أفرادٌ وهيئاتٌ وطنيّة ومنظّماتٌ مدنيّةٌ معنيّةٌ بشؤون الزراعة. تمّت مناقشة ضمن هذه الجلسات من خلال ورشاتٍ حواريّة وجلساتٍ تفاعليّة إلى تسليط الضوء على أهمية اقتصادٍ زراعيٍّ تضامنيٍّ تعاونيٍّ من شأنه أن يحقّق السيادة الغذائيّة، والإسهام في وضع رؤية واستراتيجيّة للوصول إليها. تناولت الجلسات المواضيع التالية: ١- السياسات الزراعيّة في ظل النظام النيوليبرالي في لبنان، ٢ الحق في الغذاء—السيادة الغذائيّة: هل ثمّة حلولٌ "مستدامة"؟، و٣ - عرضٌ لتجاربَ عمليّة لمبادراتٍ زراعيّة وتعاونيّة.
تنشر النداء الجلسة الاولى على أن تنشر الجلسة الثانية في العدد القادم.
الجلسة الأولى: السياسات الزراعيّة في ظلّ النظام النيوليبرالي في لبنان
المتحدثون:
- نقيب العمّال الزراعيين في لبنان الأستاذ حسن عبّاس
- الباحث والأستاذ الجامعيّ الدكتور كنج حمادة
مداولات الجلسة
بدايةً قدّم الدكتور كنج حمادة لمحةً عن القطاع الزراعيّ في لبنان حيثُ قال أنّ حوالي ٨٥ ٪ من غذائنا اليوميّ نقوم باستيراده من الخارج. وأضاف بأنّ القطاع شكّل ٢,٩ ٪ من الناتج المحليّ المسجّل عامَ ٢٠١٦ فيما يوظّف ٦,٥ ٪ من مجمل القوى العاملة. أمّا عن كيفيّة توزّع الثروة الزراعيّة فيمتلك ١٠ ٪ من مالكي الأراضي ما نسبته ٦٠,٦ ٪ من الأراضي الزراعيّة و١٪ من هؤلاء يمتلكون حوالي ٢٦,٥ ٪ من الأراضي الزراعيّة. هذه الأرقام تظهر بطريقةٍ واضحةٍ في المناطق التي تتميّر بأنشطةٍ زراعيّةٍ مكثّفة كزحلة والبقاع الغربي حيث نسبة ٦٩,١ ٪ من الأراضي مملوكة من مجموعة من عشرة أفراد يعتبرون من كبار مالكي الأراضي.
بعدها تحدّث الدكتور حمادة بإسهابٍ عن الوظائف التاريخيّة للقطاع الزراعيّ في لبنان حيث كان الهمّ دائمًا استغلال الأراضي الزراعيّة لخدمة مصالح الغرب. هذه الوظيفة البنيويّة للزراعة بدأت من أيّام محمد علي باشا وال concessions حيث فُتحت أسواق جبل لبنان ليدخل إلى التجارة العالميّة وهنا برز مفهوم الزراعة للتصدير. على سبيل المثال، تصنيع وتصدير الحرير أدّى ما أدّاه من تغيّرٍ في نمط الحياة الريفيّة. وأردف حمادة قائلًا: إنّ الهمّ كان منصبًّا على التصدير للخارج وبالأخصّ للدول الأوروبيّة ونتج عن هذا الأمر ضرب الصناعات الغذائيّة الوطنيّة. في هذا الوقت، لم تكن الجنوب أو عكّار قد دخلتا بعد إلى النمط الاقتصاديّ التصديري، لذلك وبسبب وجود أراضٍ زراعيّةٍ شاسعة في المنطقتين، كان التركيز منصبًّا على إخضاع سيطرتهما وهذا يبرّر لماذا ضمّتا إلى دولة لبنان الكبير عندما أعلنت عام ١٩٢٠.
تحدّث الدكتور حمادة عن تأثير العائلات اللبنانيّة الحاكمة في تحديد أثر السياسات الزراعيّة لكون مالكي الأراضي ينحدرون من هذه العائلات (آل فرعون) مثلًا.
ثمّ انتقل للحديث عن الواقع الزراعيّ أبّان الانتداب الفرنسيّ وقال بأنّه على إثر إعلان الدولة، تمّ ضمُّ بيروت والأقضية الأربعة إلى حدودها ما سمح بتطوّرها زراعيًّا وماليًّا. وأردف قائلًا: صحيحٌ أنّ الدولة الفرنسيّة أعدّت خطّة تنميةٍ ريفيّة، ولكن كان للسلطات الفرنسيّة حساباتٌ خاصّة شأنها شأن كلّ القوى الاستعماريّة في العالم. الفرنسيّون كانوا بحاجةٍ إلى تقوية نفوذهم عبر الاقطاع المحليّ وتحديدًا بالاستناد إلى العائلات المؤثّرة في الجنوب وعكّار والبقاع وذلك لإبقاء سيطرتهم على الفلاحين. حدث أمرٌ مشابهٌ في جنوب إيطاليا (سيسيليا). في ذلك الوقت، لم تكن إيطاليا موحدّةً بعد، وكانت هذه المحافظة تابعةً لإسبانيا وكان المزارعون هناك يزرعون القمح لتصديره إلى الأسواق العالميّة. تمامًا كما في جنوب إيطاليا، كان الوضع في لبنان ومثلما مُنعت إيطاليا من تحقيق نموّ، مُنِع لبنان أيضًا من استغلال موارده الزراعيّة. بالاختصار، كان المطلوب إحكام السيطرة على الريف وبالتالي دفع أبناء البلد إلى الهجرة؛ الأمر الذي كان متوفرًا بسهولةٍ آنذاك عبر البحر.
وانتقل بعدها الدكتور حمادة للحديث عن القطاع الزراعيّ بعد نيل لبنان استقلاله الوطنيّ عام ١٩٤٣. في ذلك الوقت، أصبح هناك طلبٌ متزايدٌ على الفواكه في الخليج العربيّ وهذه تعدّ ضمن value added products . انتشرت مقولاتٌ حينها بين أوساط المزارعين والفلاحين بأن يقلعوا عن زراعة القمح لزراعة الحمضيات عوضًا عنها وذلك لتلبية احتياجات السوق الخليجيّة. ونتيجةً لذلك، انتشرت زراعة المشمش في بعلبك والهرمل وعكّار. في الأساس، كانت زراعة الحمضيّات حرفةً أتقنها الفلسطينيّون لأنّهم سكنوا أيضًا على الساحل فاستفاد القطاع الزراعيّ عندئذٍ من العمالة الفلسطينيّة الوافدة بعد مجيء الفلسطينيين سنة ١٩٤٨ الى لبنان. مرّةً أخرى يتأكّد أنّ المهمّة الوظيفيّة للزراعة كانت التصدير ولم تكن في سبيل دعم الإنتاج المحليّ. من هنا يمكننا الفهم لماذا بقيت الصناعات الغذائيّة متمركزةً في البقاع الأوسط وهي مملوكةٌ من قبل العائلات التقليديّة هناك.
المرحلة الشهابيّة كان لها العديد من الآثار على مستوى تنمية القطاع الزراعيّ حيث شهدت الدولة آنذاك وضع خطةٍ متكاملةٍ للتنمية المحليّة على إثر مجيء بعثة " إيرفد " إلى لبنان والخلاصات التي صاغتها إلى الدولة. خلال عهد شهاب، توزّع القطاع الزراعيّ على مجالسَ وهيئاتٍ عديدةٍ أُخضعت للوزارات والإدارات العامة وخلق بيروقراطيّة غير مبرّرة وعدم تكامل في السياسات. على سبيل المثال، مصلحة "الريجي" والدخّان تم إخضاعها إلى وزارة المالية ومكتب القمح والشمندر السكري تمّ إخضاعه إلى وزارة الاقتصاد، هذا بالإضافة إلى إنشاء مركز التعاونيّات والمشروع الأخضر. وعند دخول لبنان الحرب الأهلية سنة ١٩٧٥، قضت الحرب على النموّ الزراعيّ وأوقفت مسار التقدّم الحاصل فيه.
السياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة سادت وتعاظم دورها مع مجيء رفيق الحريري إلى الحكم عام ١٩٩٢. وخلال السنوات التي تلتها، حقّق الاقتصاد اللبنانيّ نموًّا ولكن كان هذا على حساب تحقيق فروقاتٍ طبقيّةٍ ومناطقيّة والتي أخذت بدورها تكبر. قُسّمت المناطق اللبنانية إلى مناطقَ تابعةٍ لأحزاب وطوائفَ وكيانات، فيما ظلّت علاقة الدولة مع الأطراف علاقةً ملتبسة. بات كلّ حزبٍ أو طائفةٍ يملك أراضيَ زراعية ضمن نطاقه الجغرافي يطبّق ما يحلو له من زراعات والتشجيع عليها ما ساهم في خلق تجزئةٍ للمناطق الزراعيّة أو ما يعرف بال fragmentation. في حقيقة الأمر، لا تملك الدولة سياسةً زراعيّةً واضحةً ومتكاملةً بحيث يُترك للهيئات الدوليّة والجمعيات والأحزاب مهمّة إدارة الأراضي الزراعيّة وتصبح كلّ أرضٍ زراعيّة عبارةً عن "محميّة زراعيّة " تطبّق فيها سياساتٌ مغايرةٌ وبالتالي يُنتفى أثر سياسيةٍ زراعيّة واحدة.
بعدها انتقل الدكتور حمادة للحديث عن التشريعات المرتبطة بالزراعة ومدى وملاءمتها للواقع شارحًا أنّ معظم التشريعات قديمة العهد. قال حمادة أنّ هناك تشريعاتٍ مستمدّةً من الواقع السويسريّ والإيطاليّ أُجريَ عليها بعض التعديلات لكي تتلاءم والظروف المحليّة وكان أهمّها قانون الزراعات العضويّة (٢٠٠٣) حيث لم يتمّ إقرار هذا القانون بعد. أمّا على مستوى التعاونيات الزراعيّة، فقام العديد من الباحثين وأصحاب الرأي بإجراء تعديلاتٍ على قانون التعاونيات الزراعيّة عازيًا الأمر إلى صعوبة خلق تعاونيات زراعيّة في لبنان.
أمّا بالنسبة إلى الواقع الراهن، فإنّ خطّة ماكينزي (٢٠١٨) صبّت في الإطار نفسه حيث راحت تروّج الدراسة عن أهميّة زراعة الأفوكادو والمانجو والاثنان حاجتان ملحتّان بالنسبة لاستهلاك المجتمعات الغربيّة. إذًا ظلّ تشجيع الزراعة فقط لتلبية حاجات الغرب دون ربطها بخطّةٍ زراعيّةٍ اقتصادية تساعد على نموّ هذا القطاع والدفع به قدمًا منطقًا سائدًا. كما تضمّنت الخطّة تشجيع الزراعة الأسريّة family based agriculture.
وفي نهاية مداخلته، قدّم الدكتور حمادة التوصيات التالية:
- خلق سوقٍ حرّة
- توحيد المكان ووجهةٍ عامّةٍ لتجميع السياسات الزراعيّة
- إحداث التنوّع في الزراعة
- دعم العمل التعاونيّ عبر خلق ال clusters
- إيجاد سياساتٍ تؤمّن التوازن المطلوب بين التنافسيّة والمردود الجيّد
- إدارة التطوّر التكنولوجيّ
- تشجيع الحركات البديلة وربط الزراعة في سياق مشروعٍ سياسيٍّ بديلٍ للسلطة ومنظومتها الحاكمة
بعدها، تحدّث نقيب العمّال الزراعيين في لبنان الأستاذ حسن عبّاس عن إنجازات النقابة التي يترأسها على صعيد تنمية القطاع الزراعيّ وتحقيق بعض المكتسبات للمزارعين بالإضافة إلى استعراضه لأبرز التحدّيات التي تواجه النقابة في وقتنا الراهن.
قال الأستاذ عبّاس أنّ النقابة تأسّست عام ١٩٩٦ وأنّها ركزّت على الموضوع الصحيّ كون المزارعين لا يخضعون لقانون العمل حيث عليهم أن يتكفلوا بأنفسهم بثمن الطبابة والاستشفاء وهم لا يستفيدون من وزارة الصحّة بأيّ أمر. لذلك كان الإنجاز الأوّل للنقابة هو إنشاء صندوق تعاضدٍ يضمّ ٣٢ ألف شخصٍ مستفيدٍ حيث بات هذا الصندوق يقدّم جميع حالات الاستشفاء بما فيها الأمراض المستعصية والنقابة تغطّي رقعة انتشار كلّ المزارعين في لبنان، من عكّار شمالًا إلى الناقورة جنوبًا.
ثمّ تحدّث عبّاس عن الإنجاز الثاني والذي يكمن في مشروع " لن أكون وحدي ". إنّ هدف هذا المشروع هو دعم الأسرة الزراعيّة وخاصةً من يضطر منها للدخول إلى المستشفى.
وأضاف النقيب عبّاس أنّ المهمة الثالثة الملقاة على عاتق النقابة كانت إيصال صوت المزارعين وتحصيل حقوقهم من أرباب العمل. ولأجل ذلك، قامت النقابة بإنشاء تعاونيّةٍ زراعيّةٍ تشهد لغاية اليوم انتساباتٍ يوميّة. وقال النقيب عبّاس أنّ هذه التعاونيّة هي تعاونيّةٌ زراعيّةٌ تسويقيّةٌ هدفها تقليل كلفة الإنتاج للمزارعين.
ولكن يواجه القطاع الزراعيّ اليوم تحدياتٍ جمّة على المستوى البنيويّ ما دفع النقابة للاستعانة بمشاريع موّلتها وأشرفت على تنفيذها المنظّمات والوكالات الدوليّة المعنيّة بالقطاع الزراعيّ، وكان لها أثرٌ إيجابي، كما قال النقيب عبّاس في دعم المزارعين ودعم استمراريّة نشاطهم. ثمّ أضاف النقيب عبّاس أنّ واحدًا من هذه المشاريع هدف إلى استخدام أقلّ نسبةٍ ممكنةٍ من المبيدات.
مشكلةٌ أخرى تطرَّق إليها عبّاس في سياق مداخلته وهي أنّ المواد الأوّليّة التي يشتريها المزارعون مثل الأدوية والأسمدة والمبيدات؛ يقومون بشرائها بالدولار الأميركيّ ولكنّهم يبيعون محصولهم الزراعيّ بالليرة اللبنانيّة وهذا الأمر خلق صعوبةً للمزارعين الذين يسوّقون لمنتجاتهم خاصةً في ظلّ التقلّبات الحاصلة في سعر الصرف في السوق بالإضافة إلى سيطرة الشركات الكبيرة. انطلاقًا من هنا، رأى النقيب وجوب تخفيض تكلفة الإنتاج بنسبة ٣٥ ٪ على المزارعين لأنّ الشركات التي تبيع الأدوية والأسمدة تجني أرباحًا طائلة. وأضاف عبّاس أنّ مشكلةً أخرى واجهتها النقابة هي قرار وزير الزراعة السابق والذي يطلب بموجبه من التعاونيات أن تكون عضوًا في غرفة التجارة والصناعة والزراعة علمًا أنّ التعاونياتِ معفاةٌ من الرسوم والضرائب. هذا الأمر أحدث إرباكًا شديدًا، والملفّ اليوم أصبح بعهدة مجلس شورى الدولة.
بالنسبة إلى عبّاس، فالمطلوب أمران أساسيّان للنهوض بالقطاع الزراعيّ وهما: تخفيض كلفة الإنتاج وتأمين التسويق والتصدير، وإذا تم أخذ هذين الموضوعين بعين الاعتبار، فإنّ ذلك سيساهم في تنشيط التصنيع الغذائيّ وحماية السوق المحليّة من دخول المنتوجات من الدول المجاورة.
وفي الختام، قدّم الأستاذ عبّاس توصياتٍ يعتبرها هامّةً لتنمية القطاع الزراعيّ في لبنان أوجزها بالنقاط التالية:
- التواصل مع السفراء والبعثات الديبلوماسيّة من أجل إيجاد أسواقٍ دوليّةٍ جديدةٍ لتسويق المنتوجات الزراعيّة فيها.
- العمل على استحداث مؤسّسةٍ عامّةٍ جديدةٍ تعنى بالزراعة لأنّ مؤسّسة " ايدال " تدعم التجّار والصناعيين ولكنّها لا تدعم المزارعين.
- تشجيع المبادرات المحليّة في المناطق بالتعاون مع منظمات المجتمع المدنيّ.
- ضرورة وضع خطّةٍ متكاملةٍ للإنتاج الزراعيّ وتشجيع التصدير
ثمّ دار حوارٌ قيّمٌ بين المتحدثين والحاضرين في الندوة، تركّز في مجمله على فعاليّة الزراعة العضويّة وكيف يمكن الاستفادة من بعض التجارب المحليّة في هذا الإطار بهدف تنميتها بالتعاون مع المزارعين والناشطين ومنظمات المجتمع المدنيّ المعنيّة.