ومن البديهي أن الاستثمار في البحث عن الفروق وإبرازها والدعاية إلى وجودها وخنق البحث الآخر ومعاداته والقضاء عليه يحتاج مورداً مالياً ضخماً مستمراً لتحويل هذا المتخيل إلى واقع، وبالعكس فالمورد المالي الضخم المملوك لفرد أو عدة أفراد والذي ينفقه على هذه العملية يتوقّع عائداً بشكل أو بآخر (نحن في مجتمع رأسمالي في النهاية وهذه قواعد اللعبة). وقد يظن إذاً.. أن الجماعة المتخيلة المنتصرة يستفيد منها المستثمر فيها فقط في حين يخسر المستثمر في الجماعة المتخيلة الأخرى، لكن الحقيقة أن المستثمرين جميعاً يكسبون لاستمرار الصراع نفسه، ببساطة لأن هناك واقعاً يقول أن هناك فرق حقيقي واقعي في المجتمع بين هؤلاء أصحاب الأموال الضخمة وبين الآخرين من الطبقات الأخرى وعداء حقيقي بينهم وبين الطبقات الأخرى، وبالتالي جميع المستثمرين هؤلاء يستفيدون من إخفاء هذا العداء الحقيقي الذي يمكن أن ينهي استمرار تراكم أموالهم ونفوذهم أو يقضي عليهم هم - أنفسهم ويجعل بعض من هؤلاء المختلفين معه في كفة واحدة متصوّرين وحدة متخيلة بينهم وبينه وعداء متخيل بينهم وبين آخرين قد يكونوا متشابهين معهم في نفس ظروفهم المعيشية ومصالحهم الحياتية متحدة. المستثمرون من كلّ الأوطان يستفيدون من العداوات التي تقوم على أساس القوميات لنفس السبب، والرأسماليون من كلّ الأديان يستفيدون من العداوات التي تنشأ بسبب الدين .. وهلمجرّا. هذه الوحدات المتخيلة تسمح لهم ببثّ شعور من الوحدة بينهم وبين أفراد الطبقات الأخرى المختلفين معهم تجعلهم يستمرون في العمل لتعظيم أرباحهم والذهاب في الحرب والموت لأجلهم بل ونسيان مصالحهم والامتثال لقوانينهم وتحمّل الحياة بكلّ مساوئها وبكلّ استغلالها بما يبتزه منهم فيها المستثمر.
وفي حين أن هناك وحدات غير مكلفة فإن هناك وحدات مدمّرة تتطلب دفع ثمن باهظ لاستمرارها. الوحدة الوطنية والجماعة الوطنية المتخيلة وحدة معقولة في الحدود الطبيعية، ففي حين تتطلب الصبر والعمل ودعم الدولة والمشاركة فقط في بعض الحروب الخارجية (أو حتى مجرد تمويلها والتشجيع عليها وحسب) والتشجيع على التخلص من أعدائها الذين هم خارجياً في الأغلب، فإن بعض أنواع الوحدات الأخرى تنتج هوساً من الصعب السيطرة عليه مثل الوحدات الدينية والعرقية التي تشعل صراعاً بين مواطني الدولة الواحدة ذوي الديانات المختلفة والآراء المختلفة ولون البشرة المختلف والجنس المختلف بالطبع. كما أن الوحدة الوطنية يمكن أن تتحوّل بالطبع إلى هوس آخر سواء بدمجها بوحدة دينية أو عرقية أو بفصل جزءٍ من مواطنيها واعتباره العدوّ في الداخل، وهنا تنتج حرب أهلية صامتة مثلها مثل الوحدات الأخرى تماما.
هذا النوع من الوحدات المتخيلة التي تتطلب فعلاً داخلياً يجعل المجتمع في حالة احتراب داخلي مستعر على الدوام يمكن أن يصل إلى حرب أهلية يستثمر فيه في حالة واحدة هي حالة انكشاف الفارق الحقيقي بين المستثمرين الكبار وبين الطبقات الأخرى وبداية الاحتجاجات الاجتماعية، وهي حالة في الغالب ما تأتي نتيجة أزمة اقتصادية تهزّ المجتمع ككل، والمجتمع الرأسمالي في العموم يولّد أزمة أثر أخرى دائما. هنا يتم الاستثمار بعنف في هذه الجماعات المتخيلة كنوع من أنواع سياسة الأرض المحروقة من جانب المستثمرين مع وعيهم بأنهم قد يخسرون قليلاً أو كثيراً ولكنهم يتفادون سيناريو انكشاف الفارق الحقيقي واصطفاف الطبقات في جماعات حقيقية تعبّر عن خطاب سياسي وفقاً لمصالحها الحقيقية، أي سيناريو يشكل تهديداً وجودياً عميقاً يهدّد بفنائهم.
وإذا كانت دولنا العربية تعيش دوماً على هذا النوع من التجييش في جماعات متخيلة بكلّ أنواعها فذلك لأن وجودها العادي مأزوم دوما. "عاديها" مأزوم واستمرارها أزمة، مكشوفة طبقياً على الدوام وهي تحرق الأرض لذلك دائما.
تضع الجماعة المتخيلة تصوّرها لكلّ شيء، فإذا كان التاريخ الحقيقي بآثاره ووثائقه ونتائجه المعاشة يكشف بطلان وجودها وزيف إدعاءاتها، فإنها من ناحية تستثمر في صنع واقع آخر وتاريخ آخر وبداية أخرى (قد تبدأ من الكون والإنسان نفسه، أو بداية الجماعة القومية والوطن)، ومن ناحية أخرى يصبح البحث الحقيقي عداءً لها يستوجب التكذيب والإقصاء والعقاب (وحتى الموت)، تصوّر الواقع على حقيقته وبالتالي التاريخ الفعلي يشكّل تهديداً وجودياً لها نفسها. وتصبح علاقتها بالعلوم وتصوّراتها محكومة بطبيعة تصوّر الجماعة نفسها. فإذا كانت الجماعة المتخيلة الدينية تضع تصوّراً للعالم والإنسان والمجتمع مثل ما يحدث في مجتمعنا العربي فإنها تعادي العلوم الطبيعية (وبخاصة البيولوجيا) والعلوم الإنسانية كافّة لأنها تنكر صحة المعرفة الإلهية التي أعطانا إيّاها الله وتضع الإنسان في موقف يمكنه من الوصول للحقائق بجهده الذاتي وأن يصنع عالمه بيده (أي تلغي الوحي والقضاء والقدر وطبيعة الإنسان الضعيفة العاجزة التي خلقها الله.. إلخ، تهدم الله العالم القادر، تهدم الجماعة التي شيّدت وجودها وفسّرت عالمها به، تهدم تصوّرها الإلهي عن الكون والمجتمع والإنسان). لكن الجماعة المتخيلة يمكن أيضاً أن تستفيد من العلوم وتطوّعها بل وأن تقيّم تصوّرها على أساسها في بعض الحالات.
البحث العلمي كفر صريح في مجتمعاتنا باعتباره يتناقض تماماً مع روح التسليم للإله ومع طريقة المعرفة الإلهية (إرسال الوحي واستخراج رؤيتنا للعالم وفهمنا له منه)، أما العلوم نفسها ونتائجها الواردة من خارج فإنها تستخدم بعد تأويلها ودمجها في تصور الجماعة وباعتباره أصلاً من تصور الجماعة.
تصور الجماعة الوطنية لدينا نحن العرب ممتزج بتصورات دينية وقبلية ومنطقية وجنسية يرجع لطبيعة صعود برجوازيتنا في سياق استعماري مغاير لصعود البرجوازيات الغرب أوروبية التي اضطرت لتفكيك الجماعات المتخيلة السابقة ومنطقها لكي تتمكن من السيطرة (لاحظ أن أغلب فلاسفة التنوير اشتبكوا مع التاريخ بشكل أو بآخر محاولين فهمه فهما حقيقياً وباحثين عن مفتاح فهمه سواء في أفعال القادة العظام أو أفكارهم أو في ثقافات الشعوب أو في الجغرافيا أو المناخ.. إلخ. لكن الفكرة المركزية هي رؤية التاريخ على حقيقته لا انعكاس لتاريخ الله في الأرض، ذلك البحث الذي انتهى "أو قل بدأ بداية واعية حقيقية" مع تصور ماركس للتاريخ بذاته دون أي عنصر خارجي عليه، ثورة مفهوميْ نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وهو الذي استوجب من البرجوازيات الغربية الانقضاض على تراث التنوير والعقلانية كون ماركس بالأساس التتمة المنطقية له وإجابة على معضلاته تقول أنها هي البرجوازية إلى زوال ويشرح كيفية تحقيق ذلك، واستثمرت هي في كلّ أشكال اللاعقلانية والغيبية.
(تفكيك جماعتنا المتخيلة وإنهاء كلّ أشكال التمييزات العنصرية والطائفية والجنسية والقومية، البحث التاريخي الحقيقي، العقلانية، التنوير، تصفية المنطق الغيبي، البحث العلمي الحر. كلها هدف واحد متعلق بإنهاء سيطرة البرجوازيات العربية لصالح مجتمع أكثر إنسانية وعقلانية (لصالح الاشتراكية) وبالطبقات التي تتناقض مصالحها مع هذه البرجوازية.
*طالب جامعي في كلية التطبيقية في مصر