إلى هؤلاء نقدم تلك الترجمة التي تناقش وجهي أزمة النظام الإمبريالي وجذورهما الركود الاقتصادي وارتباطه بتفاقم الطليعة المالية للنظام، وهي ترجمة لدراسة أعدها كلاً من "فريد ماجدوف" أستاذ علم النباتات بجامعة فيرمونت و"جون بيلامي فوستر" أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة أوريجون والمحرر بدورية المونثلي ريفيو، وهما إذ يتناولا بالتحليل جذور الأزمة العميقة النابعة من تناقض هيكلي يسكن قلب النظام الإمبريالي من منظور تاريخي، فإنهما يصلا بالتحليل إلى ما بعد انفجار الفقاعة العقارية في 2008 ويؤكدا على أنه مهما بدا من اختلاف في التفاصيل في كل نوبة من نوبات أزمة النظام فإنها جميعا تمثل تجلي لقانون عام واحد ولتناقض هيكلي ظل يتفاقم حتى وضع الرأسمالية لا في تضاد مع مصالح الطبقة العاملة وكل الكادحين فحسب بل في تناقض مع بقاء الكوكب ذاته.
ولئن سوّد الاقتصاديون الكلاسيكيون وخريجو مدرسة شيكاغو آلاف وملايين الأوراق لتحليل ما يتبدى من اختلالات في النظام فإنهم لم يردوا الأزمة إلى جوهرها وظلت استجاباتهم محصورة في علاجات شكلية ومحصورة في إطار الميكروإيكونومي لأنهم في تحليلهم وإجراءاتهم إنما يمثلون في النهاية مصالح الاحتكارات الدولية وما يمثلها من مؤسسات نقدية، فإن هذه الورقة إنما تكتسب أهميتها من أنها تستخدم أدوات التحليل الماركسية وبالتالي تحلل الأزمة من مواقع الطبقة العاملة التي يتلخص هدف الاحتكارات والإمبريالية في تحميلها فاتورة وأعباء كل أزمة مالية ونقدية، وكل الصعاب التي صارت الإمبريالية تواجهها في طريق تعظيم أرباحها وهيمنتها الاقتصادية والمالية.
ونظراً لضخامة حجم الترجمة فقد ارتأينا نشرها على قسمين، الأول وهو القسم الأكبر منها يتناول عرضاً تحليلياً للمشكلة، بينما يُستكمل التحليل في القسم الثاني مع عرض الحلول المطروحة للأزمة الرأسمالية المتفاقمة.
ترجمة وتقديم راجي مهدي
لكن في أوقات تشبه وقتنا حين تعاني التجارة من ركود مزمن، ماذا يمكننا أن نقول عن أي أمل للعامل إذا لم يكن يرى ما هو أبعد من استمرار العلاقات القائمة بين صاحب العمل والعامل، أي إذا كان نظام رأس المال والعمل المأجور سوف يستمر؟ - ويليام موريس
بعد أكثر من ست سنوات على بدء الانكماش الكبير في الولايات المتحدة، وبعد مرور ما يقرب من خمس سنوات على إعلانه رسمياً، يبقى جوهر السياسات الاقتصادية للنظام الرأسمالي العالمي مُحمَّل بالأزمات. الوظائف التي فُقدت في الولايات المتحدة بسبب الكساد لم تُستعّد بشكل كامل والاقتصاد مازال بطيئاً. في أوروبا، لم تخف حدة الأزمة بعد، بينما تعاني عدة دول طرفية في الاتحاد الأوروبي مما لا يمكن وصفه سوى بالكساد – خاصة اليونان واسبانيا والبرتغال. أما العضو الأخير في ثالوث المراكز الإمبريالية المتقدمة – اليابان – فقد مر بما سُمي بالعقدين الضائعين من النمو البطئ والانكماش ويحاول دفع الاقتصاد مجدداً من خلال مزيج من تخفيض قيمة الين والإنفاق بالعجز.
في ظل هذه الظروف الصعبة، ليس مفاجئاً أنه حتي بعض غلاة الاقتصاديين الكلاسيكيين بدأوا يتحدثون عن الهزال الاقتصادي الحالي باعتباره أكثر من مجرد مرحلة عابرة أو اضطراب طارئ في الدورة الاقتصادية. في خطاب لصندوق النقد الدولي في نوفمبر 2013، اقترح لاري سامرز وزير الخزانة الأمريكية السابق العودة إلى "مجموعة مفاهيم قديمة" في التاريخ الاقتصادي تجاوزتها الموضة "وقد كان عنوانها الرئيسي الركود طويل الأمد" – مصطلح استخدمه ألفين هانسن، أول وأبرز أتباع كينز في الولايات المتحدة، للإشارة إلى ميل داخلى للتباطؤ في الاقتصادات الكبيرة مرتبط بتراجع فرص الاستثمار. لاحظ سامرز – معلقاً على الفترة الحالية – أنه برغم الحجم الهائل للفقاعة المالية، قبيل انفجارها في 2007-2009، لم تكن هناك "طفرة كبيرة" في الاقتصاد:
"حتى فقاعة هائلة لم تكن كافية لخلق أي زيادة على الطلب الإجمالي" ما قد يشير إلى أن قوى الركود في الاقتصاد كانت عميقة الجذور. وكما أوضح الشهر التالي، في مقال للفاينانشيال تايمز بعنوان "لماذا قد يصبح الركود اعتيادياً" "لم يعد ممكناً التمسك باحتمالية عودة السياسة الاقتصادية التقليدية والأوضاع إلى ما كانت عليه".
التقط بول كروجمان تعليقات سامرز في خطابه إلى صندوق النقد وطورها في تدوينته بالنيويورك تايمز. بحسب كروجمان فإن "اقتصاداً يواجه ركوداً طويل الأمد..لا يواجه حالة مؤقتة، بل عادة". في هذه الظروف، تصبح الفقاعات المالية والهدر الاقتصادي عموماً ضرورة للحفاظ على الاقتصاد عائماً. وبتعبيره "إننا نعلم الآن أن التوسع الاقتصادي ما بين 2003 – 2007 كان مدفوعاً بفقاعة. يمكنك أن تقول نفس الشئ عن توسع السنوات الأخيرة من التسعينيات، وفي الحقيقة يمكنك أن تقول نفس الأمر عن توسع السنوات الأخيرة في عهد ريجان، والذي كان عند هذه النقطة مدفوعاً من مؤسسات التوفير الجامحة والفقاعة الكبيرة في قطاع العقارات التجاري."
بتعبير آخر، المشكلة الرئيسية هي وجود ميل قوي نحو تباطؤ النمو أو الركود – قوي لدرجة – وهو ما يؤكده سامرز – أنه حتى فقاعة الإسكان الضخمة قبل 2007 كانت "بالكاد كافية لإحداث نمو اقتصادي متوسط."
لم يقدم سامرز ولا كروجمان تفسيراً نظرياً أو تاريخياً للركود طويل الأمد. بالعكس، إنهما يركزان ببساطة على فخ السيولة الذي تقترب فيه معدلات الفائدة من الصفر – ما يجعل من الصعب تحفيز الاقتصاد نقدياً من خلال المزيد من الخفض في معدلات الفائدة . ومع ذلك، فكلاهما واضحان تماماً بخصوص تداعيات تلك السياسة من وجهة نظرهما. المطلوب هو زيادة كل أشكال الإنفاق لدفع الاقتصاد من جديد، مبدئياً عبر الإنفاق الحكومي الموسع، لكن بغرض إطلاق الإنفاق على مستوى الاستثمارات الخاصة. في هذا الإطار ليس المطلوب فقط الإنفاق الحكومي بالعجز بل أيضا الإنفاق البذخي – العام والخاص – وحتى الفقاعات المالية (بقدر ما لا تقوض استقرار النظام كله)، حيث يساعد كل هذا في تحقيق نمو أسرع. وبحسب كروجمان: "يعد الإنفاق الخاص سواء كان الهدر كلياً أو جزئياً شئ جيد، إذا لم يكن بشكل ما يخبئ مشكلة مستقبلية" طريق الخروج من الأزمة إذن هو إعطاء الاقتصاد نوع من محفز اصطناعي حتى وإن تضمن ذلك المخاطرة على المدى الطويل.
صار واضحاً تبني بعض أبرز الاقتصاديين المدافعين عن النظام وجهة نظر مقلقة مفادها أن الركود قد أصبح عميق الجذور في الاقتصاد الرأسمالي المعاصر، وأن الهدر والفقاعات المالية في هذا السياق تصبح بمعني ما "عقلانية". كل هذا يؤدي بطبيعة الحال لتزايد الحاجة إلى تفسير أعمق للركود طويل الأمد وعلاقته بالاتساع الحالي للأمولة.
الركود وأمولة رأس المال
لتحديد جذور تناقض الركود-الأمولة بشكل أكثر شمولاً، من الضروري العودة للتقليد الماركسي – حيث التركيز على تراكم رأس المال. توفر لنا المحاججة التي قدمها بول سويزي في "أزمة الرأسمالية الأمريكية" –وهي حديث أدلى به أمام مستمعين إنجليز في مايو 1980 قبل انتخاب رونالد ريجان رئيساً بستة أشهر – نقطة بدء تاريخية هامة. في هذا الوقت أعلن سويزي أن الولايات المتحدة وقعت في أزمة تراكم رأسمالي طويلة الأمد. وقد علق بأن هذا الإطار المفاهيمي:
ينتظم في إطار الخط الذي يعود أصله لـ ميشال كاليكي والذي وصل لأكثر تعبيراته اكتمالاً في عمل جوزيف شتايندل في بدايات الخمسينيات "النضج والركود في الرأسمالية الأمريكية"..... وقد ظهرت نسخة أكثر تبسيطاً في كتابينا – بول باران وأنا – "الرأسمال الاحتكاري" الذي بدأناه في 1956 وتم نشره في 1966. أفضل تسمية لهذه النظرية – في اعتقادي – هي نظرية "التراكم الزائد". وهي تشير إلى أنه في ظل رأسمالية الاحتكارات التي تطورت في الدول الرأسمالية المتقدمة في القرن العشرين هناك ميل قوي ودائم ومتنامي لإنتاج المزيد من فائض القيمة يفوق إمكانية إيجاد سوق مربحة لتوظيفه. وحيثما يتشكل هذا الوضع – يرده بعض أتباع كينز مثل ألفين هانسن إلى زمن الثلاثينيات البعيد – تكون النتيجة تراجعاً – أو تباطؤاً في معدل النمو – في الإنتاج والدخل، مع تزايد البطالة وهبوط معدلات الاستفادة من القدرة الإنتاجية. وهذا بدوره يمثل مثبطاً إضافياً للاستثمار والنمو الاقتصادي. وكما قلت فإن هذه الميول دائمة ومتنامية الحدة. والسبب هو أن عملية تكون الاحتكارات – التي أسماها ماركس تركيز ومركزة الإنتاج – عملية مستمرة وسمت تاريخ الرأسمالية خلال القرن الحالي ومازالت قيد العمل. يمكننا إجمال ما سبق بقولنا أنه: كلما ازدادت قوة الاحتكارات، ازداد ميل الاقتصاد للركود قوة.
وهذا يعني أن الحديث التقليدي حول الرأسمالية والنمو يجب قلبه على رأسه في عصر رأس المال الاحتكاري. عوضاً عن اعتبار النمو السريع هو القاعدة والأزمة الاقتصادية هي الاستثناء، يصبح العكس هو الصحيح: "الركود يصير هو القاعدة والنمو هو الاستثناء". وعليه فإن أكثر ما يحتاج التفسير نظرياً ليست فترات الأزمة الاقتصادية والنمو البطئ بل بالأحرى "فترات التوسع المستمر والرخاء.
التناقض الجوهري، الذي يخلق الميل للركود، هوعدم القدرة على امتصاص الفائض الهائل المتولد في عملية الإنتاج. وهذا ما يتجلى مبدئياً في اضطراب عملية التراكم الرأسمالي التي أعاقتها الندرة المستمرة في منافذ الاستثمار المربح بسبب تنامي الاحتكارالاقتصادي وتأثيره على الأسعار والأرباح والإنتاج والدخل والطلب.
بالإضافة إلى الميل الركودي الذي يغذيه رأس المال الاحتكاري، فقد قدم هانسن ما يمكن تسميته بمشكلة النضج الصناعي، وهو التحليل الذي توسع فيه سويزي فيما بعد في إطار ماركسي. أدى التطور الصناعي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إلى تمايز قسمي الإنتاج: القسم الأول (إنتاج وسائل الإنتاج) والقسم الثاني (إنتاج السلع الاستهلاكية). وهو ما أدى إلى تراكم هائل في احتياطي رأس المال قادر عملياً على تغطية الطلب الاقتصادي الطبيعي باستثمارات نهائية قليلة نسبياً (أي تعويض المصانع والتجهيزات المتهالكة). وكما أوضح هانسن، كان هذا مؤشراً للانتقال من مجتمع "فقير في رأس المال" إلى مجتمع "غني برأس المال". كان الأثر طويل الأمد هو تدهور الشروط الكلية لامتصاص الفائض.
بالتالي صار الاقتصاد يعتمد بشكل متزايد على حفز تاريخي خارج عملية التراكم الذاتي نفسها، بما في ذلك إنفاق الدولة، الهدر الاقتصادي والابتكارات التكنولوجية الكبيرة (خاصة تلك التي تضفي طابعها على حقبة تاريخية مثل الأتمتة). في "أزمة الرأسمالية الأمريكية" مثلما في مقالات أخرى، ميَّز سويزي ستة عوامل خارجة على عملية التراكم الذاتي ساهمت في دعم الاقتصاد في السنوات الأولى لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1) تنامي الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة بلا منازع والتي أعدت المسرح لتوسيع التجارة العالمية وحركة رأس المال ما أدى إلى نشأة الشركات متعددة الجنسيات. (2) ضخامة السيولة الاستهلاكية (المدخرات) التي تراكمت في الولايات المتحدة في فترة الحرب. (3) إعادة بناء الاقتصادات الأوروبية التي تمزقت بفعل الحرب. (4) ظهور تكنولوجيا جديدة بدافع خبرات زمن الحرب بما فيها الإلكترونيات والطائرات النفاثة. (5) الموجة الثانية من أتمتة اقتصاد الولايات المتحدة في الخمسينيات مع تشييد شبكة الطرق السريعة فيما بين الولايات. و(6) تسارع العسكرة والنزعة الاستعمارية أثناء الحرب الباردة بما فيها حربين إقليميتين في آسيا.
مثلت كل تلك العوامل لفترة من الزمن قوى خارجية فعالة لامتصاص فائض رأس المال ودافعة للتراكم الداخلي لكن جميعها كانت "خاضعة موضوعياً لشكل من قانون تراجع العوائد. أو للتوضيح بشكل آخر، الحفز الذي قدمته تلك العوامل، فردياً وجماعياً، لعملية التراكم الرأسمالي العالمي كان مآله إلى زوال إن عاجلاً أم آجلاً. "لم يكن مجرد صدفة أن تغير الاتجاه الاقتصادي نحو التراجع بدأ مع "دخول الحرب الفيتنامية طورها الأخير.... والنتيجة المنطقية أن الانكماش الدوري 1974 – 1975 كان أكثر حدة من انكماشات ما بعد الحرب" وقد أشار إلى عودة الركود كفاعل مستديم في الاقتصادات العالمية.
في ربيع 1980، حينما كان سويزي يتناول "أزمة الرأسمالية الأمريكية"، لم يكن واضحاً وجود أي حل عاجل على المدى القصير للركود (أصبح يشار له فيما بعد بالركود التضخمي لتزامن حدوث الركود مع التضخم). لم يكن توسع العسكرة، بالرغم من أنها سوف تظهر مباشرة بعد انتخاب ريجان بإطلاق ما سيسمى "الحرب الباردة الثانية"، لم يكن كافياً بحد ذاته لتسريع محرك التراكم، بينما حرب عالمية شاملة من النوع الذي نهض باقتصادات ألمانيا والولايات المتحدة، بالتحديد، من الكساد الكبير، لم تكن واردة في العصر النووي. حتى خيار شن حرب إمبريالية كبيرة على نطاق مشابه للحرب الكورية أو حرب فيتنام كان مستبعداً في ذلك الوقت.
المصدر الحقيقي الوحيد المطروح كمحفز قوي للاقتصاد كان التوسع في (التمويل، التأمين، الاستثمار العقاري)، ما قد يعمل على تنشيط النظام من خلال امتصاص جزئي لفائض رأس المال طبقاً للنظرية التي قدمها كلاً من باران وسويزي في "رأس المال الاحتكاري". لكن النمو السريع للتمويل كمحفز رئيسي للاقتصاد لم يبدْ ممكناً في ربيع 1980. وللعجب، فإن سويزي في كتاب "أزمة الرأسمالية الأمريكية" لم يستشهد في هذا الصدد سوى بآلان جرينسبان، الذي ناقش قبلها بشهر، في عدد مارس – أبريل من مجلة التحدي – Challenge أن النظام بالفعل يقترب بشكل خطر من سلسلة متتابعة من التخلفات عن سداد الدين مع توقع بانهيار السوق العقاري بعد ارتفاعات سريعة في الأسعار.
ومع ذلك، وعلى امتداد الأعوام التالية، أصبح من الواضح أن تغيراً حاسماً يحدث في الاقتصاد الأمريكي، تمثل في انفجار مالي كان بمثابة تغير نوعي في طريقة عمل النظام، وهو ما سيطلق عليه سويزي في التسعينيات "أمولة عملية التراكم الرأسمالي" لقد كان المنطق الأساسي لهذه العملية واضحاً من وجهة نظر النقد الماركسي لرأسمالية الاحتكار . ففي مواجهة ندرة منافذ الاستثمار، تزايد تدفق فائض رأس المال المتوفر لدى الشركات العملاقة والأثرياء إلى القطاع المالي بحثاً عن فرص للمضاربة لا علاقة لها بإنتاج قيم استعمالية. وجدت المؤسسات المالية سبلاً لامتصاص هذا الفائض في الطلب على منافذ للمضاربة بتوفير خليط من الأدوات المالية المركبة – كل أنواع العقود الآجلة المعاد تدويرها وعقود الخيارات والمشتقات وخطط سوق المال المعززة بجبال متنامية من الدين. تولت البنوك المركزية الدور المؤسسي كملجأ أخير للإقراض، من المتوقع تدخلها سريعاً وقتما يبدو أن النظام المتهالك على وشك الدخول في أزمة ائتمانية أو انهيار مالي. وقد تمت عولمة البناء المالي الجديد بسرعة وما لبث أن أصبح له منطقه الخاص الذي يهيمن على الإنتاج نفسه.
في مايو 1983، نشر هاري ماجدوف وسويزي مقالهما المهم والمعنون "الإنتاج والتمويل"، ليحاججوا أن الانفجار المالي الذي حدث في ذلك الحين كان العامل الرئيسي في مجابهة الركود ما كان يعد تطوراً تاريخياً نوعياً، لأنه لم يحدث من قبل توسع مالياً كبيراً في ظل ظروف التباطؤ الاقتصادي (التي تمثل الطرف المقابل لذروة الدورة الاقتصادية) وبشكل مستمر وعلى مدى طويل. وقد جادلوا أن ما كان يبزغ هو "بناء فوقي مالي" ضخم على رأس القاعدة الإنتاجية التحتية للاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري. علاوة على هذا، كان هناك احتمال أن هذه العملية سوف تستمر "لمدة طويلة"
وبالاشارة إلى ما سيعرف فيما بعد بـ"تأثير الثروة" – ما يقصد به حفز الاستهلاك الترفي نتيجة ارتفاع التقدير المالي للأصول – قالا أن:
السنوات الأخيرة... أوضحت لنا أن القطاع المالي يستطيع أن يزدهر بينما يستمر ركود القطاع الإنتاجي. وحين يحدث هذا فإن الأثر الإيجابي للقطاع المالي على القطاع الإنتاجي لا ينحصر فقط في تزايد الطلب على منتجات الأخير الذي يخلقه المزيد من الوظائف والمزيد من الأرباح في القطاع المالي. هناك أيضا الأثر غير المباشر لزيادة قيمة الأصول المالية المملوكة لملاك العقارات والأعمال على الاقتصاد. ويقدر مسح مورجان-جارانتي عن شهر مارس "ارتفاع قيمة الأسهم والسندات والأصول السائلة أكثر من 500 مليار دولار في النصف الثاني من عام 1982" الذي من الواضح تماماً أنه نتيجة للنشاط في القطاع المالي (لأن الاقتصاد كان لا يزال راكداً). وكان محتماً أن يؤدي هذا إلى تحفيز ما للطلب الاستهلاكي، لكنه في ظل الظروف الكلية للاقتصاد غالباً ما يتجلى في إبطاء التراجع أكثر من زيادة النمو .
بالإضافة لتأثير الثروة كدافع لحفز الطلب الاستهلاكي بين الأغنياء، من الممكن إضافة ارتفاع الدين الشخصي- الرهون العقارية، قروض السيارات، بطاقات الإئتمان والديون الطلابية – الذي أدى إلى تعزيز الإنفاق في ظل الركود الذي يشهده الدخل الحقيقي لغالبية العاملين. الدين من كل نوع (والذي تعد كميات صغيرة منه ضرورية بالطبع لضمان عمل النظام بسلاسة) أصبح واحداً من الدعامات الرئيسية للنمو الاقتصادي، ليرتفع من ما نسبته نحو 150% من الناتج المحلي الإجمالي في 1980 إلى ما يزيد عن 350% قبل بدء الركود الكبير مباشرة. في نفس الفترة ارتفع الدين العقاري من نحو 45% إلى 95% من الناتج المحلي. هذا التوسع الهائل في الدين كرافعة لزيادة أدوات المضاربة بما لا يتوافق تماماً مع قاعدة "الاقتصاد الحقيقي"، إنما يمثل
جوهر عملية الأمولة التي تجري في هذه السنوات.
عرض ماجدوف وسويزي مجمل المناقشة حول ديالكتيك الركود والأمولة في كتاب معنون بـ "الركود والانفجار المالي" نُشر في 1987 – وهو العام الذي قام فيه ريجان بتعيين جرينسبان كرئيس لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. وقد شهد نفس العام 1987 انهيار سوق الأوراق المالية الذي صدم كل الاقتصاد العالمي مقرباً إياه من حافة الانهيار. في مواجهة احتمال كارثة مالية، أصدر مجلس الاحتياطي الفيدرالي برئاسة جرينسبان بياناً غير مسبوق في صبيحة اليوم الثاني للأزمة المالية يشير فيه إلى "جاهزيته كمصدر للسيولة لدعم النظامين الاقتصادي والمالي ". وقد دعم هذا بقدرته على طباعة النقود، وبهذا تم تفادي الانهيار التام.
لكن هذا كان يعني أن المشكلة سوف تعاود الظهور بشكل أكبر في المستقبل. في هذه اللحظة كانت الدلائل تشير بوضوح إلى أن الأمولة كطريقة لمواجهة الركود سوف تؤدي إلى زيادة حدة الأزمة الهيكلية للنظام، بدون معالجة الأسباب العميقة. وفي الذكرى الأولى لانهيار سوق الأسهم في 1987، قال ماجدوف وسويزي أن:
من الواضح الآن أنها مجرد مسألة وقت حتى يتبلور عُطل جديد (في النظام المالي).... لكنك قد تتساءل، أليس ممكناً أن تتدخل نفس القوى لرتق الثغرة وإيقاف الأزمة قبل أن تتاح لها فرصة لشق مسارها؟ نعم، بالتأكيد. إنها، حتى الآن، إجراءات تشغيل ثابتة، لا يمكن استبعاد إمكانية نجاحها على نفس النحو الغامض الذي حدث بعد انهيار سوق الأسهم في 1987. وإذا حدث، فإننا سوف نشهد تكرار نفس العملية برمتها وعلى مستوى أعلى وغير مستقر بشكل متزايد. لكن، إن عاجلاً أم آجلاً، المرة القادم أو مرات أخرى بعدها، لن ينجح هذا... وقتها سوف نواجه موقفاً جديداً غير مسبوق تماماً كالشروط التي انبثق منها .
اليوم لا يمكن إنكار أن هذا ما حدث بالفعل، لقد دفعت الفقاعات المالية توسعات الثمانينيات والتسعينيات ما أدى إلى أزمات مالية دورية تم احتواء معظمها قبل أن تنتشر في النظام كله. في السنوات العشرين التي مرت بين انهيار سوق الأسهم في 1987 والأزمة المالية الكبيرة، كانت هناك دلائل على مصاعب خطيرة من ضمنها: كارثة بنوك الإدخار والتسليف في أواخر الثمانينيات، انفجار فقاعة أسعار الأصول العقارية اليابانية في 1992، الأزمة المالية المكسيكية في 1994، الأزمة المالية الآسيوية في نهاية التسعينيات، انهيار صندوق إدارة رأس المال طويل الأجل في نفس الفترة، وانهيار سوق تكنولوجيا الانترنت عام 2000. وقد وصف جاريد بيرنشتين، من مركز أولويات الميزانية والسياسة، اقتصاد العقود القليلة الماضية كما يلي: "من الصعب جداً عدم ملاحظة دورة الشامبو – فقاعة، انفجار، تكرار – التي اتسمت بها الدورات المالية الأخيرة".
لقد كان انفجار فقاعة سوق تكنولوجيا الانترنت عام 2000 وحقيقة أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى كانت قادرة على ضخ ما يكفي من السيولة في النظام لإصلاح معظم الضرر الذي تعرض له مالكي الثروة في غضون سنتين –بالإضافة للعون الذي قدمه الإنفاق العسكري على حروب العراق وأفغانستان وتضخم الفقاعة العقارية بشكل مهول في هذا السياق – هو ما أدى ببن بيرنانكي الذي كان وقتها عضو في مجلس محافظي النظام الاحتياطي الفيدرالي لتعميم مفهوم "الهدوء الكبير" في 2004. وقد كان هذا متوافقاً مع فكرة أن البنوك المركزية قادرة على ترويض الدورة المالية الاقتصادية. بعدها بعامين، في 2006، تم تعيين بيرنانكي كرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فقام على الفور برفع معدلات الفائدة ليتسبب في انفجار الفقاعة العقارية ووضع نهاية لكل الأوهام حول "الهدوء الكبير".
كانت النتيجة "موقف جديد غير مسبوق كالظروف التي انبثق منها" كما حذر ماجدوف وسويزي مسبقاً. وبالرغم من تجنب الانهيار التام وحماية الثروة المالية ككل – نتيجة لسكب تريليونات من دولارات دافعي الضرائب في خزائن الشركات الكبرى – فإن الضرر كان قد وقع. وفي النهاية تم تثبيت النظام المالي في مستوى عالٍ، بالحفاظ على الأصول الرأسمالية، لكن البنوك كبحت عمليات التسليف ما أوقف ظهور فقاعة أخرى عملاقة لتقوية الاقتصاد في ظل استمرار ضعف تركيب رأس المال. افتقدت السياسة النقدية فاعليتها في مناخ معدل الفائدة الصفري (فخ السيولة). والنتيجة أن الركود الكامن في "الاقتصاد الحقيقي" قد ظهر على السطح، دون وجود مسار آخر للنظام غير الفقاعات المالية التي صارت في حد ذاتها عقبة.
يمكن التعرف على حجم موجة الأمولة الهائلة من مخطط 1، الذي يظهر ميول استدانة الشركات الكبري المالية وغير المالية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وبالرغم من أن دين الشركات غير المالية كنسبة من الناتج الإجمالي للولايات المتحدة قد ارتفع بوضوح بداية من الثمانينيات، فمن الملاحظ الارتفاع الصاروخي لديون الشركات المالية (البنوك وشركات التأمين وصناديق التقاعد ووكالات السمسرة ومقرضو الرهن العقاري والصناديق الوقائية) خصوصاً تلك التي لعبت دوراً مركزياً في موجة الأمولة الضخمة بين 1980 و 2007، والتي ساعدت في تحقيق نمو معتدل في معظم الفترة وإن كان يميل للتباطؤ على المدى الطويل. في مدى أقل من ثلاثة عقود، ارتفع دين الشركات المالية من حوالي 20 % من الناتج المحلي الإجمالي إلى نسبة صاعقة بلغت 116% من الناتج المحلي الإجمالي. وكان الانكماش الحاد في الدين المالي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي فيما بين 2007-2009 إشارة مستمرة إلى يومنا هذا على ضعف الأمولة كآلية متاحة لتصحيح الركود.
مخطط 1: دين الشركات المالية وغير المالية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.
المصدر: ديون الشركات المالية وغير المالية والناتج المحلي الإجمالي من قاعدة بيانات سانت لويس للاحتياطي الفيدرالي.
هذا هو المشهد الكامن وراء ما أطلقنا عليه فخ "الركود – الأمولة" الذي يتسم به التاريخ الاقتصادي الحديث. بدون الفقاعات المالية كان النمو الرأسمالي على مدار العقود القليلة الماضية ليصبح أبطأ لا محالة. لكن ككل الفقاعات، تتمدد لتنفجر في النهاية. وحين تنفجر، يلوح الركود مرة أخرى.
يبدو أن موجة الأمولة التي امتدت لعقود تباطأت بحدة في الوقت الحاضر. المؤسسات المالية، خصوصاً، تقوم بتقليص الديون والتسليف كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. لذا وبينما نجا القطاع المالي بشكل متماسك تماماً، ويستمر تراكم الثروة في القطاع المالي، من الممكن أن يعد هذا نسبياً انحساراً لعملية الأمولة، وتحجيم لما كان يمثل الحافز الرئيسي للاقتصاد في العقود الأخيرة. وكما أشرنا في كتابنا الصادر في 2009 "الأزمة المالية الكبرى"، فإن الأزمة البنيوية طويلة الأمد التي تواجه النظام كما كشف عنها انهيار 2007-2009 كانت "أزمة أمولة عامة كمن وراءها شبح الركود."
كل هذا يشير إلى أن هناك ميل راسخ في النظام نحو التراكم الزائد وعدم المساواة والأزمات والركود. في هذا الصدد، يمكن النظر إلى التضخم في الأصول المالية الذي اتسم به التاريخ الاقتصادي الحديث باعتباره نابع من الميل للركود في الإنتاج نفسه – لذا فإن الركود هو المشكلة الاقتصادية المركزية الراهنة.
كيف يبدو الركود اليوم؟
إذا كان من الواضح أن قلب الاقتصاد الرأسمالي العالمي الآن في قبضة الركود، مع ضعف – على الأقل في الوقت الحالي – عملية الأمولة، من الضروري النظر عن قرب فيما يعني ذلك. وبينما حظت الأزمة المالية بكثير من الاهتمام في الأدب الاقتصادي الحديث، فلازال فهم الركود الاقتصادي وآثاره محدوداً.
من وجهة نظر الطبقة العاملة، يقدم الركود نفسه في هيئة سوق عمل قاسٍ ونمو معدوم أو بطئ في أجور ومرتبات العمال، باستثناء ملحوظ للشريحة العليا من مسؤولي المؤسسات وبعض المهنيين – كما أوضحنا في مقالنا "مأزق الطبقة العاملة الأمريكية" يمكن الاستدلال على عودة الركود بالتغير في سوق العمل. في الخمسينيات والستينيات، كان معدل البطالة الرسمي في الولايات المتحدة يبلغ 4.6% في المتوسط.، بينما في الفترة من 1970 إلى الآن فقد بلغ 6.4% في المتوسط. وراء هذا الارتفاع في نسبة البطالة هناك ارتفاع في البطالة الجزئية وفي الهشاشة العامة لأوضاع قطاعات متزايدة من قوة العمل. بما أن النظام يميل نحو تعظيم فائض القيمة الذي تحصله الشركات العملاقة والأغنياء، فمن المتوقع أن يتزايد تركيز الدخل والثروة. في الواقع تتخلق دائرة مفرغة: (1) عدم القدرة على امتصاص الفائض المتزايد الذي تمتلكه الشركات العملاقة والملاك العقاريين الأغنياء يؤدي إلى تخفيض معدلات النمو ويقود إلى الركود. (2) يستجيب المنتفعون لهذا التباطؤ بفعل كل ما يستطيعون لزيادة حصتهم في الناتج الاجتماعي من أجل الحفاظ على معدلات العائد على رساميلهم الفردية. (3) يؤدي هذا إلى تركيز أكبر للفائض في قمة الهرم الاقتصادي بما يؤدي إلى زيادة حدة المشكلة الكلية المتمثلة في امتصاص هذا الفائض.
لذا أدى التباطؤ الاقتصادي – أو ما أسماه البعض الركود الكبير، مصطلح يعود إلى بدايات الثمانينيات – إلى استيلاء الأغنياء على شريحة أكبر بكثير من الكعكة الاقتصادية في مقابل شريحة أصغر كثيراً تُركت للعمال . وهذا واضح ليس فقط في بيانات الدخل والثروة ولكن أيضاً في تزايد الجوع، وتراجع الصحة، وزيادة التشرد والإفلاسات الشخصية المتزايدة والتخلف عن سداد الرهون العقارية وفقدان المنازل الذي صار يؤثر على قطاعات متزايدة من السكان. إن تلك لأوقات شديدة الصعوبة لشريحة كبيرة من الطبقة العاملة، خصوصاً للقطاعات الكبيرة من العاطلين وشبه العاطلين في جيش العمل الاحتياطي. الاستعادة البطيئة للوظائف المفقودة في فترات الركود صارت مشكلة تتفاقم باستمرار، وتؤدي إلى ما أُطلق عليه "حالات التعافي من البطالة" (انظر جدول 1). خارجاً من الركود الأخير، ينمو الاقتصاد لكن ليس بالسرعة الكافية لتوليد وظائف تكفي كل من يريدون ويحتاجون إلى عمل. ففي كل فترة تعافي يستغرق الأمر وقتاً أطول لاستعادة الوظائف التي فُقدت في الركود – وهي الظاهرة التي تفاقمت على مدار العقود الثلاثة الأخيرة.
جدول 1: السنوات التي استغرقتها استعادة الوظائف المفقودة في الركود
سنة بدأ الركود |
السنوات التي استغرقتها عودة الوظائف |
1940s–1970s |
< 2.0 |
1981 |
2.3 |
1990 |
2.8 |
2001 |
3.9 |
2007 |
6.1+* |
*وظائف لم تستعد بالكامل في وقت كتابة الورقة
المصدر: مكتب إحصائيات العمل بالولايات المتحدة (العمالة غير الزراعية).
يمكن ملاحظة نفس الميل بمقارنة نمو الناتج المحلي الإجمالي بعد فترات الركود. في ربع القرن الأول الذي تلى الحرب العالمية الثانية، تعافت اقتصادات الثالوث من الركود سريعاُ وهو ما أدى إلى استعادة الوظائف بسرعة كبيرة. لكن الاقتصاد تعافي ببطئ بعد فترات الركود الثلاث الأخيرة –تلك التي بدأت في 1990 (بعد أزمة بنوك الادخار والتسليف)، 2001 (بعد انفجار فقاعة سوق تكنولوجيا الانترنت)، و2007 (بعد انفجار فقاعة الرهن العقاري).
بمقارنة النمو الاقتصادي في عقدي الخمسينيات والستينيات مع العقود التالية، نلاحظ أن معدل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي تراجع من ما يتجاوز 4% في الخمسينيات والستينيات إلى حوالي 3% فيما بين عقدي السبعينيات والتسعينيات، ثم إلى أقل من 2% في الألفية الجديدة. (من الجدير بالملاحظة أن متوسط الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الثلاثينيات كان 1.3%). تم تحديد الناتج المحلي الإجمالي على أسس ربع سنوية لذا كان ممكناً تمييز طفرات النمو القصيرة. وعليه نستطيع أن نؤكد أن تراجع معدلات النمو السنوية ليس ناتجاً عن المزيد من أرباع النمو البطئ بل بالأحرى ناتج عن القليل والقليل من أرباع النمو شديد التسارع التي وصل فيها التراكم الرأسمالي إلى سرعة رهيبة. وقد كانت معدلات النمو العالية للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي شائعة في الخمسينيات والستينيات، متضمنة بعض معدلات ربع سنوية وصلت إلى 30 و40% خلال هذه العقود، مقارنة بـ20 إلى 25% في عقدي السبعينيات والثمانينيات، و10% في عقد التسعينيات، وأقل من 4% في زمن الألفية الجديدة. (انظر نموذج 2).
مخطط 2: أرباع السنة ذات معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 6% أو أكثر (على أساس سنوي)
المصدر: مكتب التحليل الاقتصادي/ المساهمات في نسبة تغير الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي
يقدر مكتب الولايات المتحدة للتحليل الاقتصادي مساهمات المجالات المختلفة في تغيير الناتج المحلي الإجمالي. فلأجل خلق زيادة في إنتاج السلع والخدمات (الناتج المحلي الإجمالي) خلال الفترة القادمة مقارنة بالفترة الحالية، لابد من إحداث تأثير تراكمي إيجابي (زيادة) في مجموع التالي:
أ- حجم رأس المال الذي تستثمره مؤسسات الأعمال في المرافق والتجهيزات (خلق وظائف بالاستثمار نفسه الذي يؤدي فيما بعد لتأثير مضاعف حيث أن الأعمال المتوسعة أو الجديدة تستأجر عمال لاستغلال الطاقة المضافة) ومراكمة المخزونات.
ب- الإنفاق الشخصي من الجمهور على السلع الاستهلاكية والخدمات والإسكان، إلخ.
ج- صافي الصادرات من السلع والخدمات.
د- الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري الفيدرالي وكذلك من قبل الولايات والحكومات المحلية.
بكلمات أخرى، تغيير الناتج المحلي الإجمالي هو مجموع التغيرات في أ+ب+ج+د. هذه العلاقة بين مختلف مكونات الطلب الإجمالي (باستثناء ج أو صافي الصادرات) يمكن رؤيتها في نموذج 3، والذي يغطي فترات الركود الثلاث السابقة، من 1990 إلى الوقت الراهن. الناتج المحلي الإجمالي مقوماً بالقيمة الحالية للدولار (والمستخدم للحساب في نموذج 3) نادراً ما يتراجع، على الرغم من أنه يفعل إذا أخذنا التضخم في الحساب. إن هذا التراجع في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي هو ما يساعد في تعريف الركود. لكن في خلال الركود الكبير، حتى القيمة الإسمية للناتج المحلي الإجمالي تراجعت. ويمكن تحديد فترات النمو الصفري أو البطئ أو المعتدل أو السريع و تقييم مساهمات كل فترة في الناتج المحلي الإجمالي. (من الجدير بالذكر أن كل هذه الإحصائيات هي أرقام متحققة بالفعل ولذلك فهي لا تخبرنا بالتنبؤات المسبقة، مثل معدل الادخار/الاستثمار المستهدف في مقابل المعدل الفعلي).
مخطط 3: مؤشرالناتج المحلي الإجمالي والاستهلاك الحكومي* والشخصي، ونفقات الاستثمار الخاص الثابت
استمدت المؤشرات من مكتب اقتصاديات الدخل الوطني والحسابات الإنتاجية والناتج المحلي الإجمالي
*نفقات الاستهلاك الفيدرالي واستهلاك الولايات والحكومات المحلية والاستثمار الإجمالي
بالرغم من ضخامة الاستهلاك الشخصي الذي يساهم في ثلثي الناتج المحلي الإجمالي، فإنه لا يتغير كثيراً مثلما يحدث بالنسبة للاستثمار (كما يظهر بوضوح في نموذج 3 وجدول 2). يوفر الإنفاق الحكومي (على مستوى الولايات والمستوى الوطني) قاعدة تحتية للاقتصاد. ومع ذلك، انكمشت هذه القاعدة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي منذ بدأ الركود الكبير، فقد تزايد فرض الاستقطاعات التقشفية التي حجَّمت نمو الإنفاق العام على السلع والخدمات. (من الضروري ملاحظة أن المدفوعات المحولة التي من ضمنها إعانات البطالة لا يتم حسابها في الإنفاق الحكومي على الاستهلاك والاستثمار كما هو في نموذج 3، لأنها ببساطة تُحول من جزء من القطاع الخاص إلى جزء آخر وليست جزء من الإنفاق الحكومي. مع ذلك، يساعد وجود مثل هذه التحويلات في تعزيز الاستهلاك وبالتالي تعزيز الطلب النهائي الفعال خلال الكساد.)
جدول 2: نسبة المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال الأرباع مع تغير معدلات النمو، 1947-2013 (محسوبة بالقيم السنوية)*
النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي (أساس سنوي) |
إجمالي الاستثمار المحلي الخاص |
الاستهلاك الشخصي |
صافي الصادرات |
الإنفاق الحكومي (الدفاع الفيدرالي) |
<0% |
-3.8 |
0.2 |
0.4 |
0.2 (-0.2) |
0-1.9% |
-0.7 |
1.6 |
-0.2 |
0.3 (0.0) |
2.0–3.9% |
0.6 |
2.0 |
-0.1 |
0.5 (0.1) |
4.0–5.9% |
1.6 |
2.6 |
0.0 |
0.6 (0.1) |
>6% |
4.3 |
3.5 |
-0.5 |
1.3 (0.6) |
*من 267 رُبع، من الربع الثاني لعام 1947 للربع الأخير عام 2013، كان نمو الناتج الإجمالي الحقيقي أقل من صفر%، 17% كان نمو الناتج الحقيقي بها يتراوح بين 0 و1.9%، وكان نمو الناتج في 29% بين 2 و3.9%، بينما 17% من هذه الـ267 ربع شهدت نمواً في الناتج الإجمالي الحقيقي يتراوح بين 4 و5.9%، 22% كان نمو الناتج أكبر من 6%. وخلال هذه الفترة كان متوسط النمو في الناتج الإجمالي الحقيقي 3.2% على أساس سنوي، ساهم فيها الاستثمار المحلي الإجمالي الخاص بـ0.8%، والاستهلاك الشخصي بمتوسط 2.1%، وصافي الصادرات بمتوسط -0.1%، الإنفاق الحكومي بمتوسط 0.6% (منها 0.2% للإنفاق الفيدرالي العسكري)، والتغيير في المخزونات الخاصة بمتوسط 0.1%.
المصدر: بناءً على بيانات مكتب التحليل الاقتصادي جدول 1.1.2 تم حساب نسبة المساهمات في تغير الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.
بالرغم من أهمية الاستهلاك الشخصي والإنفاق الحكومي، فإن مساهمة الاستثمار الخاص في نمو الناتج المحلي الإجمالي هي أكثر ما يشهد تغيراً كما أنها أكثر العوامل تأثيراً في توقعات النمو المستقبلية. إن تراجع الاستثمار الخاص أثناء الركود يؤدي إلى تراجع نمو الناتج الإجمالي المحلي، والعكس، الزيادة السريعة في الاستثمار الخاص خلال فترات التعافي تقود إلى طفرات في نمو الناتج المحلي الإجمالي.
امتصاص الفائض والاستثمار الرأسمالي
إن أحد الأسباب التي أدت إلى تباطؤ الاستثمار في مجال الأعمال أو تراكم رأس المال بشكل عام – مع كل تقلباته صعوداً وهبوطاً – هو الطاقة الاقتصادية غير المستغلة. كان استغلال القدرة الإنتاجية في الصناعة يصل إلى نحو 85% في فترات من الستينيات والسبعينيات. لكن خلال الثمانينيات تراجعت النسبة إلى نحو 80%، وخلال التسعينيات ازدادت بشكل ضئيل لتبلغ بالكاد 81%. على مدار العقد الماضي (خلال 2013) سقطت لما متوسطه 75%. وعادة لا تقوم الشركات الكبرى التي لديها طاقات معتبرة غير مستغلة بأي استثمارات كبيرة في توسعات جديدة .
بالتالي، تجلس مؤسسات الأعمال في الولايات المتحدة حرفياً على تريليونات الدولارات داخل الولايات المتحدة وخارجها (يقدر ما تملكه الشركات متعددة الجنسيات أمريكية المنشأ خارجياً بما قيمته 2 تريليون دولار لا تعود إلى الداخل بسبب الضرائب). هذه الكومة من الأموال ومكافئاتها النقدية في أيدي المنشآت الأمريكية ظلت تتراكم بمعدل 10% سنوياً من عام 1995 إلى 2010 – لتؤدي إلى مخزون يقارب من 5 تريليون يعادل ثلث الناتج المحلي الإجمالي . أشارت وول ستريت جورنال في الربع الأخير من 2013 إلى أن ارتفاع هوامش الربح التي يصاحبها ضعف في الاستثمارات تمثل مشكلة اقتصادية كبرى، بعد أن بلغت عائدات الضرائب من الشركات العملاقة رقم قياسي نسبته 11.1% من الناتج المحلي الإجمالي، ضعف متوسط تلك النسبة في التسعينيات.
وفي إشارة لمدى ما صارت تمثله مشكلة امتصاص الفائض من خطورة، في ضوء ارتباطها بفرص الاستثمار تحديداً، على مدار العقد الأخير، بلغ صافي الفائض الذي وظفته (بعد دفع معظم التكاليف واعتبار الانخفاض في القيمة) المؤسسات الخاصة في الاقتصاد الأمريكي ما متوسطه 24% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد بلغ في 2012 4 تريليون دولار . وحين تستخدم المنشآت هذا المال بدلاً من مراكمته، فإنها تدفع أرباحاً لحملة الأسهم بين حين وآخر، وتشتري شركات أخرى أو تشتري أسهم شركة أخرى على أمل دفع أسعار الأسهم إلى أعلى: مضاربة خالصة. في 2013، رصدت الشركات الكبرى مبلغ 755 مليار دولار لإعادة شراء حصص من الأسهم. إن الفشل في امتصاص حجم الفائض الهائل واستخدامه بدلاً من ذلك في المضاربة يعني أن معدل النمو الاقتصادي الفعلي يتباطأ بالقياس إلى معدل النمو الممكن. وإلى هذا الحد الذي تستمر فيه الشركات في الاستثمار في مثل هذه البيئة الاقتصادية فإنها تؤدي إلى التخلي عن العمالة وتخفيض تكاليف الوحدة الإنتاجية وزيادة الفائض المتكون لديها. لذا يصبح تكوين رأس المال الذي يحدث في هذه الشروط غير قادر على رفع الاقتصاد من كساده العام.
في ضوء الميل العام للتراكم الزائد لرأس المال الذي يصبح فيه رأس المال نفسه هو العقبة في طريق تطوره، ومع إدراك أن النمو الاقتصادي قد تباطأ على مدار النصف قرن الأخير، لا يعد من قبيل المفاجأة أن ميل معدل النمو الاستثماري، القوة المحركة للاقتصاد، تراجع بشكل درامي خلال هذه الفترة. وقد ظل المتوسط السنوي لمعدل النمو في الإجمالي الحقيقي للاستثمار الثابت غير السكني يتراجع من الستينيات والسبعينيات حتى الوقت الراهن، خاصة الاستثمار في المنشآت والتجهيزات (جدول 3).
جدول 3: متوسط المعدل السنوي للنمو في الإجمالي الحقيقي للاستثمارات الخاصة غير السكنية.
الإجمالي |
الأبنية |
التجهيزات |
منتجات الملكية الفكرية |
|
1960s–1970s |
6.4 |
4.7 |
7.6 |
6.9 |
1980s–1990s |
5.2 |
1.3 |
6.4 |
8.5 |
2000–2013 |
2.3 |
0.4 |
3.4 |
3.3 |
المصدر: مكتب التحليل الاقتصادي جدول 1.1.1 النسبة المئوية للتغير في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي قياساً إلى الفترة السابقة.
من الضروري التأكيد على أن الأرقام السابقة تشير إلى إجمالي الاستثمار غير السكني، بما فيه الإنفاق الرأسمالي من احتياطي الإهلاك وصافي الاستثمار الجديد. في نفس الوقت، ركد الاستثمار الإجمالي، حيث عانت الاستثمارات الثابتة غير السكنية تراجعاً من نحو 40% من إجمالي الاستثمارات غير السكنية في أواخر الستينيات وأوائل السعينيات إلى أقل من 16% على مدار العقد السابق (2003-2012) – في ظاهرة عُرفت بـ"انكماش صافي الاستثمارات". لذا فقد صار مصدر الإجمالي الكلي للاستثمار المزيد والمزيد من أموال احتياطي الإهلاك التي تم تجنيبها لتعويض المصانع والتجهيزات البالية في مقابل التراجع المستمر في صافي الاستثمارات الجديدة. ولأن المصانع والتجهيزات الجديدة التي تم تعويضها تعد بما لا يقاس أكثر فاعلية من القديمة، فإن النتيجة هي تعزيز القدرة الإنتاجية بالقليل أو حتى بدون استثمارات جديدة، لتحد بفاعلية من تكوين جديد لصافي رأس المال. كل هذا يمثل تدهوراً إضافياً لمشكلة التراكم الزائد.
هوامش:
1. يناقش كروجمان نظرية هانسن كما لو كانت تشدد فقط على العوامل الديموجرافية، دون مسائل النضج الصناعي والاحتكار وعدم المساواة. ينظر سومرز وكروجمان للركود على أنه في الأساس نتيجة رغبة المستثمريت في معدلات فائدة سلبية ما يخلق مشكلة سيولة دائمة – وهو تفسير لا يفعل سوى أنه قد دفع المسألة خطة للوراء دون تقديم تفسير حقيقي. كما يشير كروجمان أيضاً لمناقشة روبرت جوردون حول ضعف الابتكارات. في كل هذا لم يتم تناول المشكلة التاريخية الأساسية المتعلقة بالتراكم الرأسمالي.
2. بدأ ماجدوف وسويزي التركيز على تراجع السيولة في الاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل وعلاقته بنظرية رأس المال الاحتكاري مبكراً منذ منتصف الستينيات، ومضوا قدماً بهذا التحليل في عديد من المقالات الثاقبة خلال السبعينيات، حتى قبل بداية ما نسميه هنا "الركود الكبير"، الذي يمكن ملاحظة أنه اتخذ منحى جدياً في الثمانينيات، للمقالات المبكرة لسويزي وماجدوف حول الركود انظر هنا.
3. مفهوم "تأثير الثروة" أو زيادات الاستهلاك المرتبطة بزيادة الثروة (مقدرة بقيمة الأصول) كما يشير لها ماجدوف وسويزي – لعبت دوراً رئيسياً في أثر الفقاعات المالية على النمو في الناتج المحلي الإجمالي، وفي الفاعة العقارية الراهنة بشكل خاص، والتي تم تقييمها على أساس أثر الثروة العقارية. انظر دين باركر وكريستوفر كارول.
4. كما أشار ماجدوف وسويزي، بدأ استخدام مصطلح "انهيار" لوصف الآثار المحتملة للأزمة المالية بعد انهيار سوق الأسهم في 1987.
5. حدث تغيير جذري مشابه في نظرة هايمن مينسكي نتيجة انهيار سوق الأسهم في 1987 الذي دفعه لإطلاق مسمى "الرأسمالية تديرها النقود" كمرحلة جديدة محفوفة بالمخاطر في تطور النظام. انظر هايمن مينسكي.
6. تم استخدام مصطلح "الركود الكبير" لوصف التباطؤ الاقتصادي طويل المدى لأول مرة، على حد علمنا، من قبل الاقتصادي بمعهد ماساتشوتس للتكنولوجيا ليستر ثورو. وعلى الرغم من إشارة ثورو لفشل الرؤى التقليدية في تحليل الركود، فإنه لم يقدم تحليلاً نظرياً (عدا عن أفكار كينزية شديدة الغموض) كما لم يعد للنظريات القديمة حول الركود طويل المدى. على العكس، قام ماجدوف وسويزي من مواقع ماركسية بالإشارة إلى حقيقة أن "السبعينيات كانت العقد الذي بدأ فيه الركود الكبير" وقد أظهر التاريخ أنه كان من المستحيل التغلب عليه من خلال حفز كينزي بسيط كما جادل ثورو. الأكثر أهمية من الإنفاق بالعجز لتحفيز الاقتصاد، كما حاجج ماجدوف وسويزي، كان التوسع الهائل في الدين الخاص، الذي لم يستطع مع ذلك إيجاد مهرب من المشكلة الأساسية. حديثاً، اكتسب تعبير "الركود الكبير" قيمة كبيرة بعد الركود في كتاب تايلر كوين تماماً كما فعل ثورو.
7. نظَّر جوزيف شتايندل لدور استغلال القدرة في تحديد القرارات الاستثمارية في ظل الرأسمالية الاحتكارية، انظر أيضاً فوستر.
8. انظر أيضاً سانشيز و
9. طبقاً لمكتب التحليل الاقتصادي فإن صافي الفائض الذي يتم تشغيله (هو معيار شبيه بالأرباح يوضح دخل الأعمال بعد استقطاع التكاليف المدفوعة للعمال والضرائب على الإنتاج والاستيراد مطروحاً منها الإعانات، استهلاك رأس المال الثابت في القيمة المضافة، لكن قبل خصم تكاليف التمويل والتحويلات المدفوعة نظير الأعمال)