كورونا وتعفن الرأسمالية

منذ مئة عام حدّد ف. إ لينين الإمبريالية بأنها رأسمالية طفيلية ومتعفنة. تعجّب كثيرون لوصف نظام ينتج تقدما تكنولوجيا وعلميا بأنه طفيلي ومتعفن. لكن الحياة ومسيرة البشرية في ظل الرأسمالية قدّمت البراهين على صحة هذا الحكم بما شهدته من حروب وأزمات وتدمير للبيئة وتهميش للبشر وتبذير للقدرات.


اليوم لا نحتاج إلى كبير عناء للتأكد من طفيلية الرأسمالية. يكفي التزوّد بمعطيات وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث التي تخدم المراكز الإمبريالية ذاتها التي تنشر لوائح أغنياء العالم ومعطيات تركّز الثروة والدخل بأيدي حفنة من الطغمة المالية العالمية التي لا تتجاوز الـ 10% من سكان الكون، ناهيك عن الغنى الفاحش لـ 1% منهم. في وقت يستمر ملياراً إنسان بالعيش بدولارين أو ثلاثة يومياً.
أما عن تعفّن الرأسمالية فحدِّث ولا حرج. لقد أكّد ذلك فيروس كورونا بما لا يدع مجالاً للشك. فإلى جانب التعفّن الإقتصادي المتمثل بتكرار الأزمات كل عقد من الزمن وتدميرها للقوى المنتجة يتأكد اليوم ان التعفّن لا يقتصر على الجانب الإقتصادي وإنما يتعداه إلى عجز الرأسمالية عن تأمين الشروط الضرورية لتجديد إنتاج الحياة البشرية – تجديد إنتاج حياة الأفراد وتجديد النسل وإنتاج الخيرات المادية الضرورية لإشباع حاجات الناس وتجديد إنتاج البيئة. خلاصة الأمر، أن تلك القدرات المتوفّرة والكامنة تكرّس من أجل هدف واحد هو تعظيم الربح على حساب إشباع حاجات البشر وتشويه مسيرة التقدم.
فقد تبيّن أن تسخير العلم لمصالح الرأسمال وتوظيف أبحاثه في إنتاج الأسلحة الذكية والثقافة الواسعة المبتذلة والإعلام المضلِّل وإخراج الرأسمال من الإنتاج المادي وتوظيفه في إنتاج الأوهام المالية هو ما يؤمَّن غاية الرأسمال في تعظيم الربح، ومبرّر هروبه من تلبية حاجات تجديد الحياة البشرية. لذلك ومع بروز فيروس كورونا وجدت شعوب الأرض وحكامها أنها عاجزة ومكشوفة أمام هذا النوع من الآفات. وبرز عمق الهوة بين الحاجة إلى الأبحاث العلمية وإنتاج الأدوية واللقاحات والمعدات الضرورية وبين ما هو متوفر منها. وهو ما أظهره عدد الوفيات المرتبط بهذا النقص حتى في المراكز الإمبريالية. فهذه المجالات لا تضمن الحصول على ربح مضمون. وإذا ما برزت هكذا إمكانية فإنها تتحول إلى فرصة للإحتكار كما حاول ترامب أن يفعل مع الأبحاث العلمية لإنتاج لقاح في ألمانيا. هكذا يحوّلون صحة الناس إلى سلعة يرمى بها في السوق.
وتبيّن أنه مهما كانت مخاطر كورونا كبيرة فهي قابلة للإحتواء وهذا مرتبط بطبيعة الأنظمة الصحية المرتبطة بدورها بطبيعة النظام الاجتماعي. لقد تمكّنت الصين من إحتواء هذه الكارثة والحدّ من خسائرها في بلد يقطنه مليار ونصف من البشر وشرعت في تقديم المساعدة للبلدان الأخرى. وكذلك كوبا المحاصرة منذ ستينيات القرن الماضي من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها هي خير شاهد على إنسانية اشتراكيتها وهي تمدّ يد المساعدة، فترسل أطباءها إلى أوروبا وبلدان اميركا اللاتينية وأفريقيا. أما "قاطرة الإقتصاد العالمي – الولايات المتحدة" وأوروبا فما زالت تتخبط في عجزها عن معالجة هذه الأزمة. وهذا ليس مصادفة.
ويتجلى تعفّن الرأسمالية في إضعافها مناعة البشرية في مواجهة الأزمات والآفات الطبيعية عندما حصرت نتائج التقدم الإقتصادي والتكنولوجي في صالح حفنة من البلدان وحفنة من طواغيت المال في المراكز الإمبريالية الثلاثة التي لا يزيد تعداد سكانها على المليار نسمة. حصل ذلك في جانب منه عبر نهب خيرات وثمار جهود شعوب البلدان التابعة ويحصل أيضا عبر العقوبات والحصار وممارسة العدوان ضد بعضها.
كما يحصل ذلك أيضاُ في جانب آخر، عبر المسارات المدمّرة للرأسمالية ذاتها. فهذا التطور فرض قانوناً للسكان (لتجديد النسل) يجعل التقدم التكنولوجي سببا لتحوّل أجزاء متزايدة من البشر ليس إلى مجرّد جيش احتياطي من العاطلين عن العمل فحسب، وإنما إلى كتل بشرية مهمّشة وفائضة عن حاجات الرأسمال للأيدي العاملة، فهي بالنسبة له مجرّد أفواه زائدة ينبغي التخلص منها، ما يجعل الاهتمام في الشأن الاجتماعي محصوراً بما يتخلى عنه الرأسمال من فُتات.
وعلى الرغم من تطوّر العلم وتحوّله إلى قوة منتجة مباشرة تجعل إستغلال الأنسان للإنسان مسألة منافية للعقل، ما زال ثلثا البشرية يخضعان لفعل قوانين الرأسمالية الكلاسيكية المدمّرة للجسم البشري، فتتزايد أعداد العاطلين عن العمل في المراكز الإمبريالية جرّاء إدخال التكنولوجيا المعاصرة مع ما تجرّه من تخفيض للمداخيل ولقدرات البشر على مواجهة الأوبئة.
كما يتجلٌى التعفّن في أكثر وجوهه فجاجة، في سحب الموارد المادية والبشرية من مجالات الإنتاج المادي وتوظيفها في العسكرة حيث ينتظم ملايين البشر في جيوش لا وظيفة لها سوى إبادة الموارد وتدمير القدرات المادية وفي إنتاج الأسلحة عندما تملي حاجات الرأسمال ذلك. ولا يقل تعفّنا، سوى توظيف هذه الموارد في إنتاج الأوهام المالية التي حوّلت ترليونات الدولارات من الإنتاج المادي إلى إنتاج أدوات وأوراق مالية يجري حرقها في خضم كل أزمة دورية.
في ظلّ هذا المناخ المسموم، الذي أنتجه الرأسمال، لا يبقى مجال "للسلوك العقلاني" إلاّ ما يفرضه الخوف من الفناء. علما أن ضمان تجديد إنتاج الحياة الإجتماعية هو البرهان على شرعية أي نظام أو سلطة. فإذا كان هذا النظام يربط إشباع حاجات الناس المختلفة، بما في ذلك حاجاتها لتأمين ظروف صحية سليمة وحاجاتها لنظام تعليمي وإعداد الأجيال الجديدة للمستقبل وحاجة الأجيال الكادحة إلى فترة تقاعد لائق – إذا كان هذا كله رهن تأمين الأرباح تسقط شرعية هذا النظام ويصبح البحث عن البديل مهمة ملحة. وقد سقطت شرعية النظام الرأسمالي عندما دخل طور الإمبريالية، ويتأكد سقوطه في عصر العولمة الإمبريالية التي كشفت أن الحدود المفتوحة أمام حركة الرأسمال، والمقفلة أمام حركة قوة العمل، هي حدود مفتوحة أمام الكوارث والآفات.
ومع ذلك لا يخجل حماة الرأسمال، على المستوى الفكري وعلى المستوى العملي، من الاستمرار بنشر الأفكار والممارسات التي تذكرنا بالمالتوسية المشؤومة والتي تؤسس لداروينية إجتماعية تبرر البقاء للأقوى وتستخف بمآسي الضعفاء، حتى في تلك البلدان المسماة "متحضّرة"، كما فعل بوريس جونسون. أما على المستوى العملي فإن الطغمة المالية تسعى لمعالجة أزمتها المتفجرة بإلقاء عبئها على الكادحين، فبدأت بصرف العمال وإعلان الإفلاسات، وهو ما تقوم به الحكومات في هذه الدول بضخ المليارات من الدولارات لإنقاذ الشركات والمؤسسات المالية الكبرى المتعثرة. إنها تؤمم الخسائر الذي يتسبب بها الرأسمال بدل تأميم القوى المنتجة.
واليوم في ظل التجوال الحر لفيروس كورونا، وحظر التجوال على البشر في كل الكرة الأرضية يصدح، من جديد، صوت روزا لوكسمبورغ: إما الإشتراكية وإما البربرية. وقد عدّل فيروس كورونا الشعار ليصبح: إما الإشتراكية وإما الدمار بقيادة الرأسمال!

 

 

 

 

  • العدد رقم: 375
`


مفيد قطيش