بعد مئة سنة، تتكرّر المأساة بفيروس أطلق عليه بتسميات عدّة. كما حدث في الانفلونزا الاسبانية حين اختلف المؤرّخون عن منشئه بين الصين والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ويا للمفارقة كانت الصين أقلَّ الدول المتضرّرة بالنسبة لعدد سكانها الكبير كما يحدث الآن مع فيروس كورونا والذي أعلن بداية انتشاره في مدينة ووهان-الصينية مع العلم هناك عدة تقارير تحدّثت عن منشئه في أميركا أو إيطاليا لم يتمّ التثبُّت من صحتها. وبغضِّ النظر فقد استخدمته الدول الرأسمالية الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأميركية في صراعها الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي مع الصين ووجّهت أصابع الاتهام لها وتحميلها المسؤولية ومطالبتها بدفع تكاليف علاجه عالمياً وحتى اتّهام منظمة الصحة العالمية بالتغطية على الصين والمتواطئ معها وانسحبت أميركا من المنظمة وعلّقت المساهمة في ماليتها.
كانت اميركا – ترامب تشنُّ منذ سنوات حرباً عالمية اقتصادية وسياسية وعقوبات على مختلف المستويات المالية والتجارية والاقتصادية على من تعتبرهم أعداءَها في عالم القطبية الواحدة رغم التغيّرات التي حدثت في بداية القرن الحالي وبروز أقطاب منافسة سياسياً واقتصادياً وظهور منتديات وأحلاف اقتصادية (البريكس) خارج السيطرة الأحادية الأميركية. كلّ ذلك للإشارة الى كيف تمّ التعامل مع جائحة كورونا. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينيات من القرن الماضي وسيطرة منطق القطب الواحد ونظريات أيديولوجية رأسمالية عن انتهاء الاشتراكية دون عودتها ومنها نظرية فوكوياما عن نهاية التاريخ يعني نهاية الاشتراكية وأبدية الرأسمالية ومع بداية العولمة والتطوّر التكنولوجي الذي حصل في نهاية القرن العشرين أصبحت أميركا سيدة العالم وشرطيه بلا منازع فارضة نمطها وأسلوبها الاقتصادي السياسي الرأسمالي على العالم محاربةً.. ومشعلةً الحروب بوجه كلٍّ من واجهها واتّسعت رقعة التدخل العسكري الأمريكي في العالم مخلفة مئات آلاف بل ملايين الضحايا وانتهكت كلَّ ميادين الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والمالية وحتى الطبية والبيئية وفارضة عقوباتها على كلِّ من خرج من تحت عباءَتها القذرة الملّوثة بدماء شعوب العالم. اذاً، في ظلّ هذه الأجواء التي تحيط بالعالم، ظهر فيروس كورونا.
وبانتشاره عالمياً جاء القائد كوفيد 19 ليكشف عن الوجه القبيح غير الإنساني للإمبريالية المتوحّشة في تعاطيها مع هذه الجائحة العالمية التي تطلّبت تكاتف كلّ البشرية بغضّ النظر عن ايديولوجيتها وأنظمتها السياسية. في 21 كانون الأول 2019، كشفت منظمة الصحة العالمية عن عدد من حالات الالتهاب الرئوي مجهولة السبب في مدينة ووهان شرق الصين التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 11 مليون نسمة، وبعدها بأيام توصّل علماء الصين إلى أن فيروساً تاجيّاً جديداً من عائلة كورونا هو المسبّب لهذه الحالات. في البداية بدا الأمر وكأنه وباء يقتصر بشكل أساسي على الصين ولكنه سرعان ما تحوّل إلى وباء عالمي. لجأت السلطات الصينية إلى سياسة عزل مناطق وبؤر انتشاره فوضعت مدينة ووهان تحت الحجر الصحي التام وعزلها عن بقية مدن الصين لمدة 70 يوماً مع تأمينٍ كاملٍ لحاجات أهلها الصحية والغذائية والمادية، أظهرت القيادة الصينية مستوىً عالٍ من المسؤولية عن محورية الإنسان وصحته وحياته على الاقتصاد والربح.. وبتضافر كلّ الجهود الحكومية والشعبية تمّ السيطرة على الوباء وخرجت الصين منتصرة وأعطت العالم المثال على ذلك. أما في أوروبا بعد انتشار الوباء عالمياً بانَ الارتباك والتخبّط والصراع بين حياة الناس وبين استمرار الرأسمال الجشع دون أيِّ التفاتةٍ إلى شعوب هذه الدول فأُصيبت إيطاليا بانتكاسة صحية ذهب ضحيتها الآلاف، واكتظّت المستشفيات بالمرضى.. والموتى على أبوابها؛ وهو ما عرف بالنموذج الإيطالي وتحوّلت المأساة الإيطالية الى نموذج مرعب في القارة العجوز. أما بريطانيا، فلقد رفعت شعار مناعة القطيع الذي أدّى إلى ارتفاع كبير بالإصابات والوفيات مما اضطرها الى العودة إلى الإغلاق والحجر الصحي.. ولكن بعد فوات الأوان وهذا ما حصل في دول أوروبية عدّة. أما في أميركا، فقد عجزت الإدارة عن طرح أيّ خطة فعّالة لمواجهة الجائحة وتعرّضت سياسة ترامب في مواجهة الوباء لانتقادات عدة، فقد ظهرت أميركا - أقوى اقتصاد في العالم وعلى الرّغم من الإمكانيات الاقتصادية والمادية والعلمية التي تتمتع بها- بمظهر غير القادر على وضع خطة واضحة المعالم للمواجهة فكانت النتيجة الطبيعية بأن تحتل المرتبة الأولى بعدد الإصابات والوفيات.
نستخلص من كلّ ما ورد أن الأنظمة الرأسمالية في أوروبا وأميركا بالخصوص كشفت عن وجهها القبيح ولسلطة رأسمال المتوّحش؛ وأن الإنسان في أدنى أولوياتها.. وأن جني الأرباح في الأنظمة الخاضعة لسيطرة الرأسمال المالي والشركات الاحتكارية تتفوّق على صحة الانسان وحياته.. وهي لم تكن خارج نظرية "مالتوس" البرجوازية في الانتقاء الطبيعي أي عن دور الحروب والأمراض في خفض عدد السكان في تبرير أقلّ ما يقال فيه همجي ومجرم.. وأن أنظمتها الصحية عاجزة بسبب سياساتها عن مواجهة مثل هذه التحديات بسبب طبيعتها الرأسمالية.
لبنان في مواجهة الكورونا
لم يكن لبنان بمعزل عمّا أصاب العالم من هذه الجائحة لكنه كان قد أصيب بفيروس هذه السلطة وفسادها على مدى سنوات عديدة. إنّ لبنان بطبيعة نظامه الطائفي ونظامه الاقتصادي الرأسمالي التابع والذي عاش أزمات وحروب متعدّدة كلّفته ضحايا وكلفة اقتصادية ومادية عالية يعاني منذ سنوات ما بعد الحرب من نتائج مدمّرة بسبب سياسات هذا النظام التحاصصي الطائفي. جاءت انتفاضة الشعب اللبناني بوجه هذه السلطة وملأت الساحات والشوارع طارحةً مطالب عدة. في ظلّ هذا الانهيار انتشر فيروس كورونا ليزيد مأساة أخرى على مآسي الشعب اللبناني وفي ظلّ نظام صحي يسيطر عليه القطاع الخاص وهو صورة عن النظام اللبناني الذي يسوده الفساد والمحاصصة والزبائنية والسرقات والهدر. والسؤال المطروح كيف لهكذا سلطة ينخرها الفساد واقتصادها منهار وعملتها فقدت 80% من قيمتها وحوالي 50% من شعبها خارج التغطية الصحية المضمونة أن يواجه مثل هكذا أزمة صحية عجزت أنظمة تمتلك كلّ هذه الإمكانيات من المواجهة. كيف تعاطت السلطة مع الجائحة، في بدايتها حاولت أن تفرض الحجر الصحي مع استثناءات وعلى أمل أن يخفّ انتشاره أو يختفي في فصل الصيف ولكن حساب الحقل ما جاء على حساب البيدر وانطلقت خطتها بالطلب من المستشفيات الحكومية إنشاء أقسام للكورونا وتمّ إنشاؤها في حوالي 7 مستشفيات من بين 29، وكلّنا يعلم حالة وأوضاع هذه المستشفيات وهي ضعيفة التجهيز والامكانيات ولم تلقَ الاهتمام اللازم من قبل الحكومات المتعقبة في حين أعفت المستشفيات الخاصة من فتح مثل هذه الأقسام بضغوط من أصحاب المستشفيات بسبب التكلفة العالية لتجهيزها في ظلّ انهيار قيمة الليرة والغلاء في المستلزمات الطبية والتشغيلية ولم تنجح قرارات الإقفال الجزئي في منع تزايد وتيرة المصابين حتى وصلت إلى أرقام يصعب على الأقسام المخصّصة لذلك من استيعابها ومع عدم تعاطي اللجان الصحية والحكومية بمسؤولية وضعف خطة المواجهة وضعف القاعدة المادية الطبية وازدياد عدد المصابين وقع البلد تحت كارثة وطنية حقيقية. من جهة الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي حيث تجاوز خط الفقر 65% والمتعطلين عن العمل 60% وهذا قبل الوباء ومن جهة أخرى صراع أطراف السلطة على التحاصص وتوزيع جبنة المنافع فيما بينهم وغياب المعالجة للوضع الاقتصادي المالي المنهار تاركين الشعب اللبناني يواجه مصيره لوحده.
لقد استمرّت سياسات مواجهة الوباء العشوائية وغياب الرؤية والتخطيط والتخبّط في تنفيذ القرارات وزاد من إرباكها تضارب الآراء العلمية أحياناً والضغوط من قبل حفنة من التجار وأصحاب الاحتكارات لتكديس الأرباح. ومع تفاقم أزمة الوباء، اتّخذت وزارة الصحة العامة قراراً متأخراً بالطلب من المستشفيات الخاصة فتح أقسام لمرضى الكورونا حوالي 10% من عدد أسرّتها لم يلتزم منها سوى 50% حوالي 70 مستشفى. وما زاد الطين بِلّة خضوع السلطة واللجان المشرفة لمطالب فتح البلد في فترة الأعياد مع العلم أن الجميع كان على يقين أن الاعداد سوف ترتفع ما بعد فترة انقضاء الأعياد على الرغم من ازدياد المصابين حتى لامست ال 10 آلاف في الايام القليلة التي أعقبت احتفالات رأس السنة. لقد أثبتت مرة أخرى هذه السلطة عجزها عن إدارة شؤون البلاد والعباد وهي مستمرة في ذلك. ورغم قناعتنا أن كلِّ الانتقادات لسياسية مواجهة الوباء كما السياسات الاقتصادية والمالية والمعيشية، التي لن تلقى اذان صاغية ولا بد ّلنا أن نطرح بعض عناوين خطة المواجهة.
إنّنا نؤكّد أن الإغلاق الشامل ورغم التأخّر في ذلك، يمكن أن يخفّف من مسار الذي آلت عليه الأمور الصحية في البلد على أن يستتبع هذا الإغلاق خطة وطنية طارئة من أجل دعم الملتزمين في بيوتهم بتأمين مستلزمات سبل العيش من المواد الغذائية والتقديمات المالية للأسر الفقيرة دون أي محاصصة أو زبائنية ويتم ذلك باستعادة الأموال المنهوبة ووضع ضرائب تصاعدية على الثروة وتدفيع ناهبي المال العام ثمن ذلك. بات لزاماً على الجهات المعنية القيام بالإجراءات التالية:
• فتح كلّ المستشفيات الحكومية وتقديم كلّ الدعم الماليّ والتقنيّ والمساعدات التي قدّمت من صندوق النقد الدولي.
• التزام المستشفيات الخاصة تحت شعار المصلحة العامة وتوسيع أقسامها مع تقديم المساعدات لها ودفع كلّ مستحقاتها المتأخرة لتستطيع القيام بذلك والإشراف المباشر على تنفيذ ذلك.
• عدم تدفيع الفقراء الكلفة العالية وبالأخص فروقات الوزارة والمستلزمات التي تدفع خارج فروقات الجهات الضامنة مع إقرار التغطية الصحية الشاملة.
• اعتماد سياسة دوائية تخضع لرقابة جدية من قبل الوزارة ومحاسبة المحتكرين والمهرّبين للدواء ودعم الصناعة الوطنية لأدوية الجنريك وتسهيل وتأمين المواد الأولية لذلك واستيراد الأدوية والمستلزمات الطبية من قبل الوزارة مباشرة منعاً للاحتكار وتخفيفاً للفاتورة الصحية.
أمّا في موضوع اللقاحات، فإن المستغرب والذي أصبح موضوع شك هو الاعتماد الوحيد والأوحد على استراد لقاح شركة "فايزر" الخاضع لشروط الشركة وفتح باب استيراد اللقاحات من بلدان أخرى وخاصة حيث تكون بشروط أفضل وكلفة أقل منها الروسي سبوتنيك 7 وسينوفارم الصيني والبريطاني استرازنيكا وغيرها وينبغي أيضاً اعتماد سياسة تلقيح علمية.
واخيراً لا بد من توجيه التحية الى الأطقم الطبية والجسم الطبي والتمريضي في الخطوط الأمامية للدفاع عن الوطن والشعب بكلّ إرادة وتصميم رغم ما أصابه مثل بقية الشعب نتيجة انهيار العملة ولقيمة الأجر الذين يحصلون عليه وبالتالي يجب على الدولة تقديم يد المساعدة والدعم لهم واعتبار المتوفّين منهم شهداء الواجب وهذا المطلب هو ما نادت به النقابات الطبية والتمريضية.
*عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ