رضوان حمزة: الغائب الحاضر

دون أي تمهيد، رحل رضوان حمزة قبل 5 سنوات. ترك وراءه إذاعة أحبّها وقدم لها سنوات ومجهوداً وخبرة قل نظيرها. على أثر وفاته انتشر فيديو لحمزة، يتلو فيه نصّاً كتبه صديق عمره زياد الرحباني، وقد أبدع في سرد ما كتبه صديقه. لعن ذلك النص الفقر، وأسقط عنه رومانسيته الرأسمالية. أظهر وجهه البشع والمؤلم. استطاع حمزة نقل هذا الألم في صوته وإلقائه فأشعرَنا بوجع الفقر وإن لم نعشه. 

 

الزوج الفنان

تتحدث لمى فواز حمزة عن رجلٍ اختارته، عن حبٍّ مختلف، فتقول: "تزوجنا، رضوان وأنا، عن حب مليء بالصداقة والتفاهم والشراكة والتعاون". الزوجان عملا في المجال الفني، كان رضوان مسرحيّاً ولمى رسامة، والمجالان مكلفان مادياً. "لذلك كان من الصعب إخراج مسرحية وإقامة معرض في الوقت نفسه، فكان على أحدنا أن يتنازل، أو يؤجل من أجل الآخر وتشجيعاً له". تصفه بالصديق الأقرب إليها. كانا يتحدثان بأمور متنوعة، في الثقافة والفن والسياسة والعمل والهموم العائلية والأولاد: "كان صديقاً يغنيك فكرياً وفنياً وحياتياً".

تعدد صفاته بسهولة، فهو كان "هادئاً بصوته، بأسلوب حياته، بتعامله مع أولاده، بإيجاد الحلول لكل مشكلة يمكن أن تصادفنا". هو من القلة الذين حافظوا على مبادئهم رغم كل الظروف التي مر فيها ومرت بها البلاد، تروي لمى. وتضيف: "رضوان فنان في كل مناحي الحياة، وليس فقط على المسرح. كان أباً وزوجاً فناناً. كان خلّاقاً على المسرح، وخلّاقاً في حياته العائلية. هو مبدع في المنزل كما على المسرح. تعامل مع طفليه، علي ووليم، بطريقة يملؤها المسرح والفكاهة والحوارات الجميلة. حوّل البيت إلى مسرح، من الصور على الجدران، إلى الإضاءة والصوتيات...".

لم تنزعج حمزة من عدم فصل رضوان بين حياته الخاصة وحياته المهنية: "كان يتابع عمله من المنزل، حتى في وقت النزهة مع الأولاد. وجوده في أي مساحة يحتّمُ الاستنفارَ، والقلقَ، ووجودَ قلمٍ وهاتفٍ، وعملاً لا ينتهي. لكن ذلك لم ينعكس تقصيراً تجاه العائلة". تصف الزوجة حمزة بـ "الإنسان النادر"، وتفتقد إلى كل ما يتعلّق برضوان، خاصة في ظروف البلاد الحالية، إذ تضاعفَ الخوفُ على الأولاد، والخوف على مستقبلهم في ظل البطالة وواقع المدارس والجامعات، والانهيار الاقتصادي. كل هذه الأمور تجعلها تفتقد إلى رضوان الزّوج والأب المسؤول، الذي كان يملك حلّاً دائماً لأي مشكلة تعترض العائلة.

تعمل منفردةً على الحفاظ على أثر رضوان الفكري والثقافي في البيت، مع ولدين في عمر المراهقة، وذلك من خلال الحديث الدّائم عن رضوان وفكره وفنّه. تروي كيف يتابع علي ابن الـ 18 عاماً، مقاطع فيديو لوالده مع زياد الرحباني، وهو متابعٌ جيد لإذاعة "صوت الشعب" ومحبٌّ للعمل الإذاعي. أما وليم، 16 عاماً، فقد ورث الروح النّضالية عن والده، وهو متابع للنّشرات الإخبارية والبرامج السياسية، ويستمع إلى موسيقى وأغاني زياد الرحباني باستمرار.

 

رضوان النقيب

تخرّج من تحت يدي رضوان عشرات الصحافيين والمذيعين ومقدمي البرامج، ولم يختلف رضوان المسرحي عن رضوان النقابي، الذي حمل هذا الهم على كاهله، فكان تعباً مضافاً إلى لائحة الهموم والمتاعب. تتحدث فاديا بزي عن انخراط رضوان في العمل النقابي، وقد رافقته في هذه المهمة لانتزاع نقابة للعاملين في الإعلام المرئي والمسموع وتأسيسها، وتقول: "بعد ثلاث سنوات من العمل المضني والجهد المبذول ليلاً نهاراً، في أروقة إذاعة "صوت الشعب" ومقاهي المدينة، أبصرت النقابة النور في آخر توقيع وضعه الوزير شربل نحاس قبل أن يصبح خارج وزارة العمل". تقول بزي إن رضوان أراد لهذه النقابة أن تكون جامعة للإعلاميين من كل الأطياف والانتماءات والتوجهات، وفي الوقت نفسه أن يتركوا هذه الانتماءات والتوجهات عند باب النقابة ليكون العمل لأجل مصلحة الإعلاميين أولاً. لكن ككل قطاع في هذا البلد، تعرضت النقابة منذ انطلاقتها للعديد من المشاكل، ليس أولها وآخرها تقديم الانتماء الحزبي أو الطائفي على الانتماء النقابي. وهنا عمل رضوان حمزة النقيب على مد خطوط التواصل وتقريب المسافات بين الجميع، ومن منطلق تجاربه وتاريخه النضالي كان مصدر ثقة من الجميع وصار أول نقيب للنقابة.

تصف بزي زميلها بنموذج الإنسان المناضل المثقف، الذي يمتلك وعياً استثنائياً في مقاربة الأمور. فمنذ انتخابه نقيباً وضع نصب عينيه هدفاً واضحاً، هو الإمساك بزمام هموم الإعلاميين وتحسين أوضاعهم في مؤسساتهم، وإنشاء صندوق تعاضد للنقابة كبقية النقابات للتأمين عليهم، وأطلق سلسلة أفكار ومشاريع للتواصل مع أكثر من مؤسسة لتحسين ظروف الإعلاميين، وتخفيف الأعباء والتكاليف المعيشية عنهم، وإبرام عقود مع شركات ومؤسسات، كشركات الخلوي والطيران والتأمين وبأسعار مخففة، مما يساهم في تخفيف بعض الأعباء عنهم.

من تعب الاذاعة، توجه رضوان إلى العمل النقابي، ليطرح على المكشوف أسساً جديدة من خلال العمل النقابي. إذ كان همه أن تكون نقابة العاملين مفصولة وقائمة بذاتها، لأن نقابتي الصحافة والمحررين أقفلتا بابيهما أمام انتسابات جديدة لغايات معروفة، أهمّها إبقاء السيطرة عليها مِن النخبة ومَن وراءها، ولم تكن السياسة بعيدة عنها في الإمساك بمفاصل هاتين النقابتين. لذلك كان هم رضوان أن يكون لكل إعلامي يمارس المهنة الحق في الانتساب لنقابة تمثل تطلعاته وتؤمّن له حقوقه البديهية. وفي هذا المجال لعب رضوان دور الوكيل عن كل إعلامي تجرأت مؤسسته أو فكرت بفصله، وساهم بوضع بنود في نظام النقابة الداخلي ترسّخ تلك الحقوق وتحافظ عليها.

 

المدير الموجه

تعود علاقة الإعلامي فراس خلفية برضوان حمزة إلى أواخر عام 2005 يوم "أخذ بيدي وأدخلني إلى عالم الإذاعة. أذكر أنّ برنامج "رائدات" كان أول برنامج قدمته، وتمحور حول نساء لبنانيات رائدات في مجالات مختلفة. لاحقاً تطورت التجربة، برعاية رضوان طبعاً، وبدأنا في الفترة الإخبارية الصباحية التي لا تزال بأغلب فقراتها موجودة حتى اليوم، وبعد ذلك توالت البرامج الأخرى، آخرها برنامج "الضوء الأخضر"".

كان رضوان بالنسبة إلى فراس معلماً ومرشداً وصديقاً. هو من عزّز لديه الثقة بقدراته الصوتية والأدائية. كان يشغل منصب مدير البرامج لكنّه فعلياً كان مدير الإذاعة، فمعظم طبخات" الإذاعة كانت تستوي في مكتبه أو في الاستوديو بحضوره. ربطته علاقة أخوية وودية مع العاملين في الإذاعة، وكانت شخصيته محببة للجميع، فهو شخص "هادىء ولطيف ومثقف ويسمع الآخرين جيداً. لا يمكن أن تعمل مع رضوان من دون أن يصبح صديقاً. فإمّا أن يكون كذلك أو لا يكون". 

تأثر به كل العاملين ممّن عاصروه بنسب مختلفة، يُخبرُ فراس، وكان يسعى لتأسيس جيل جديد في الإذاعة، جيلٍ إذاعي مهني. لطالما ردّد قوله: "بدنا نشتغل إذاعة. مش بيان حزبي"، رغم أنه كان ملتزماً في السياسة. لكنّه أدرك الحد الفاصل بين التوجه السياسي وأصول العمل الإعلامي. كان يقف دائماً إلى جانب الموظفين وحقوقهم، بالحد الأدنى الذي يضمن استمراريتهم كي لا يخسرهم لاحقاً. هذا الهاجس دفعه لتأسيس "نقابة العاملين في الإعلام المرئي والمسموع" لاحقاً.

تعلّم فراس من رضوان احترام المهنة أكثر، ومسؤولية المايكروفون بالنسبة إلى المذيع وعلاقته بالمستمع، والاستمرار في تدريب القدرات الذاتية، والقراءة دائماً. "موت رضوان ترك فراغاً يصعب ملؤه. وقد عاشت الإذاعة لفترة طويلة بعد رحيله حالةَ إرباك، ولم تزل، بالإضافة إلى الأسباب والمصاعب المعروفة".

يختم فراس حديثه باعتراف: "معظم الأحيان التي كنا نرتّب فيها موعداً للاجتماع مع رضوان كانت تبوء بالفشل، لكنه كان يعرف كيف يتجاوز كل ذلك ويصنع من الفوضى إبداعاً، على المسرح وفي الإذاعة وفي نصوصه الشعرية".

مهندس الصوت في إذاعة "صوت الشعب" زياد علاء الدين يصف رضوان ببوصلة الإذاعة. فهو "من أبرز الاشخاص الذين عملوا في الإذاعة وكانت لهم بصمتهم ودورهم على صعيد البرامج والتدريب للمذيعين والمذيعات. أما على الصعيد الشخصي، فكان الأستاذ والموجه لعملي في قسم هندسة الصوت. علّمني رضوان الإخراج الاذاعي، وكان يساعدني في اختيار الموسيقى للبرامج. عمل على تهذيب أذواقنا في العمل".

يتابع علاء الدّين: "لم يغادر طيف رضوان أروقة الإذاعة. فمع رحيله كان من الصعب الاندماج في العمل مع أي شخص حاول ملء هذا المنصب. وشخصياً لا أتحمل وجود شخص في مكتبه، الذي لم أدخله بعد يوم رحيله". 

يختلف رضوان الإداري عن رضوان الفنان تماماً، وعن رضوان التلميذ أيضاً الذي نال شهادة الماجستير قبل رحيله. كان إدارياً مدركاً لكل تفاصيل عمل الإذاعة والبرامج والأغاني، يعطي الملاحظات بثقة ويوجه الأشخاص المتدربين في الإذاعة. أما عمله كفنان فمختلف. قبل كل مسرحية له كان يشعر رضوان بالتوتر، ويبقى مرتبكاً حتى انتهاء العرض. فيما كان رضوان التلميذ يحاول دائماً خلق أفكار جديدة.

 

عملت يانا السمراني عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني مع رضوان في معرض رسم في العيد الـ٩٠ للحزب. هذا المعرض بنى علاقات وانفتح على المجتمعات الثقافية. تصفه بصاحب رؤية ثقافية وبعد فكري عميق، مكّنه من عدة حقول من المسرح، إلى الاذاعة وحتى في الشؤون الحزبية الداخلية. هو الشيوعي والمثقف والمقاوم بشتّى الطرق، هو الذي كان يردد أن "المقاومة حياة"، فثقاقة المقاومة فعلٌ يوميّ وممارسة يوميّة.

تشير السمراني إلى أن دوره في الإذاعة فتح المجال للحزب ووسع جمهوره وقاعدته الجماهرية. كان يدعو باستمرار لافتتاح المؤسسات الثقافية، فهناك ترابط عضوي بين التحرر الوطني والفن. واليوم هناك حاجة لتشكيل ذاكرة جماعية واستنهاض وعي جماعي قادر على مجابهة تحديات المستقبل.

 

توضيح: انتشر في الآونة الأخيرة خبرٌ حول إقفال إذاعة "صوت الشعب"، إلا أن الإذاعة أعلنت فقط توقيف برامجها مؤقتاً. وبحسب مدير الإذاعة سمعان بو موسى، فإن الإذاعة واجهت مشكلة في تأمين مادة المازوت، إضافة إلى عدم قدرة الضيوف على الوصول بسبب أزمة المحروقات. وتعمل الإذاعة على إعادة العمل ببرمجتها المعتادة في وقتٍ قريبٍ جدّاً.