77 عاماً من عمر لبنان "المستقل"

يحتفل لبنان في 22 تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام بالذكرى الـ 77 لاستقلاله عن الانتداب الفرنسي (1918-1943) وذلك في ظروف أقل ما يمكن وصفها بالعصيبة من ناحية، والمصيرية من ناحية أخرى. فلبنان في حالة من الانهيار الاقتصادي والمالي والسياسي والاجتماعي والمؤسساتي. فالدين العام وصل إلى أعلى النسب في العالم إذا ما قيس على الفرد، والليرة اللبنانية فقدت 85٪ من قيمتها في اقل من عام، القطاعات المنتجة مشلولة، مرفأ بيروت مدمر مع جزء كبير من العاصمة، المصارف لا تسمح للمواطنين حتى بالحصول على مدخراتهم الشرعية في الوقت الذي ساهمت فيه بتنفيذ السياسات المالية البنك المركزي، والتي كانت أساساً قائمة على تشييد هرميات مالية لا تكون نهاياتها إلى الإفلاس المحتوم الذي يطال بمفاعيله غالبية الناس من جهة، ويتيح المجال لأصحاب النفوذ السياسي والمالي لتهريب أموال. هذه الاموال وصلت إلى جيوب المتنفذين في جزئها الأكبر ناتج الفساد والسرقات على مر تاريخ بلدنا مع الإشارة إلى أن ذلك الفساد وتلك السرقات ازدادت بمتواليات أقرب الى الهندسية منها إلى الحسابية خاصة في العقود الأخيرة.

ولعل ما وصلت إليه الحالة في لبنان نتيجة طبيعية لعوامل كثيرة أهمها:
- بنية الدولة اللبنانية
- تركيبة القوى السياسية
- العوامل الإقليمية والدولية

كثيرا ما يتغنى العديد من اللبنانيين بفرادة بلدهم، ولا شك أنهم في ذلك على حق لاعتبارات عديدة. ولن ندخل هنا في الجانب الطبيعي والمناخي والتاريخي والحضاري الذي هو بحق مفخرة لنا بل سنركز على الجانب البنيوي الذي يرى فيه الكثيرون اساسا لأزمة النظام.

لقد تشكلت دولة لبنان الكبير في 1 ايلول/سبتمبر1920 كنتيجة للاتفاق التواطئي بين فرنسا وبريطانيا لاقتسام تركة الدولة العثمانية المنهزمة في الحرب العالمية الأولى. وعملت فرنسا على ضم ما يحتوي حاليا أقضية الشمال والجنوب والبقاع وبيروت إلى لبنان "الصغير" التاريخي ليصبح لبنان "الكبير" الذي بات يشكل مساحة وسكانا (مع غلبة بسيطة للطوائف المسيحية (54٪ من السكان) مقومات أفضل لتكوين دولة. في الوقت نفسه، قامت فرنسا، التي تمكنت عبر قرون من التغلغل في المنطقة عن طريق الارساليات والعلاقات التجارية والثقافية والسياسية مع القوى والعائلات النافذة بين الفئات المسيحية، وخاصة المارونية منها، بفرض أسس وقواعد طائفية ومذهبية لتشكيل الدولة اللبنانية وتوزيع المناصب والمسؤوليات على المذاهب بحيث يؤمن لفرنسا، وفق ما كانت تأمل به اوسع نفوذ سياسي واقتصادي في لبنان، لعب دور ريادي ومؤثر في المنطقة ككل.

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الفورة الاقتصادية التي عمت لبنان حتى أواسط السبعينيات تعود أساسا إلى تمتع البلد آنذاك بميزات عديدة، في أغلبها شبه حصرية على صعيد الشرق الاوسط، كوسيط مالي وسوق خدمات مالية ومصرفية (نحو 33٪ من الناتج القومي العام) ومركز ترانزيت واستيراد وتصدير ومرفأ ومطار عالميين إضافة إلى المجال السياحي والفندقي (كان مردود السياحة يشكل 20٪ من الناتج العام ، اي ما يساوي مجموع الناتج الصناعي (13٪) والزراعي (7٪) هذا الانتعاش الاقتصادي ووتائر النمو العالية ما كان لها أن تستمر مع نشوء دول ومناطق منافسة في المنطقة جذبت إليها الكثير من النشاطات والرسائل، زد على ذلك اندلاع الحرب الأهلية في السبعينات والثمانينات التي ساهمت بدور هام في تراجع الاقتصاد وهرب الرساميل والشركات.

الطائفية السياسية

لعلّ أحد أهم أزمة لبنان يكمن في هيمنة الطائفية السياسية على مرافق الدولة. هذه الطائفية التي كرسها الانتداب الفرنسي مع بداية نشوء لبنان الكبير من خلال توزيع المناصب في الدولة بين ممثلي المذاهب المختلفة (مع هيمنة واضحة للمسيحيين عامة والموارنة خاصة) وشمول هذه المحاصصة جميع السلطات التنفيذية والتشريعي والقضائية تحولت إلى كابح هام أمام تطور البلد اللاحق، سيما مع تغير الوضع الديموغرافي في العقود الأخيرة الذي أدى إلى تحول الطوائف الإسلامية إلى أكثرية عددية ملحوظة (نحو 65٪ وفق بعض التقديرات). كل هذا أدى إلى محاولة الممثلين الاكثر راديكالية بين القوى السياسية المسيحية إلى محاولة تغيير الوضع باللجوء إلى الخيار العسكري او الحرب الأهلية للمحافظة على امتيازات هامة وفرها لهم الانتداب الفرنسي دستوريا. إضافة إلى ذلك ظهر تخوف مبرر لدى الفئات المسيحية من ان تتحول الى أقلية مهضومة الحقوق ومضطهدة سياسيا كما هو الحال في الدول العربية الأخرى حيث تتواجد أقليات مسيحية (مصر، مثلاً).

انّ إصرار القوى الراديكالية المسيحية، تحت حجج مختلفة، منها التواجد المسلح الفلسطيني (كان للعديد من الجوانب الخاطئة لسياسة منظمة التحرير الفلسطينية من تعديات وتدخلات في لبنان التأثير السلبي على الوضع العام في البلد)، على تأجيج الوضع وإشعال المعارك على مختلف الجبهات أدى إلى حدوث فرز سكاني وتهجير.

لقد تنبهت القوى الوطنية، التي تزعمها كمال جنبلاط، إلى المخاطر المحدقة بالبلد فطرحت بديلا هو البرنامج المرحلي للإصلاح الديمقراطي، الذي كان يفترض تنفيذه برأيها أن يؤدي إلى انتشال لبنان من الأزمة البنيوية التي يتخبط بها. وكان من أهم بنود ذلك البرنامج إلغاء الطائفية السياسية وتحويل لبنان الى مجتمع مدني يتساوى فيه المواطنون وتصبح الكفاءة المعيار الأساسي في تحديد تبوأ الشخص لأي منصب. بالمقابل، وللحفاظ على مصالح مختلف الفئات، الكبيرة منها والصغيرة، يتم إنشاء مجلس شيوخ يعنى بالأمور المصيرية للبلد ويحول دون هيمنة فئة على أخرى. لقد تعارض هذا البرنامج مع مختلف مخططات مراكز القوى خاصة الخارجية منها (الدول العربية ذات النظم الاوتوقراطية، إسرائيل وسياساتها التوسعية، أميركا والغرب الساعين إلى الهيمنة على الموارد الاقتصادية والتواجد السياسي والعسكري في الشرق الأوسط) فتحالفت جميعها للحؤول دون رجحان كفة أنصار البرنامج المرحلي للإصلاح، وأوكل إلى سوريا تنفيذ الأمر من خلال إرسال جيشها إلى لبنان وفرض واقع يسمح لها بالإمساك بالوضع اللبناني بما يتلاءم مع سياسات الأطراف الأخرى.

إلّا أنه عندما بات من الضرورة أن يمسك الوكيل الاصيل (إسرائيل) بالوضع اعطي الضوء الأخضر له بالتدخل عسكريا واجتياح لبنان وصولاً إلى احتلال عاصمته بيروت وتنصيب شخصية ملائمة (بشير الجميل) في منصب الرئيس. لكن، وكما يقول المثل الشعبي اللبناني، فإن حساب الحقل لم يطابق على حساب البيدر، ولعل الفضل الأكبر في ذلك يعود إلى انتفاضة اللبنانيين البطولية ضد الاحتلال ، وخاصة من خلال جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) التي كالت ضربات موجعة لقوات الاحتلال وعملائها من خلال عمليات بطولية أجبرت الإسرائيليين على الانسحاب من 75٪ من الأراضي المحتلة في أواسط الثمانينات. لا بدّ في هذا المجال من الإشارة إلى الدور السوري في التضييق على نشاط جمول منذ الثمانينات والذي أدى لاحقا إلى منع عمليات جمول فعليا وملاحقة أفرادها و "تلزيم" العمليات حصريا بجبهة المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله. هنا لا يمكننا، بالطبع، إلاّ أن نثمن عاليا دور المقامة الإسلامية وتضحيات مقاتلي حزب الله وبطولاتهم التي أجبرت الإسرائيليين على الانسحاب من أغلب ما تبقى من الأراضي المحتلة عام 2000 وصولا إلى هزيمة المعتدي في 2006. لكن من ناحية أخرى لا بدّ من التأكيد على أن إضفاء الطابع الطائفي، بل والمذهبي، له طابع سلبي. لا شك أنه من الأفضل بكثير أن ينخرط في المقاومة كل أطياف المجتمع اللبناني المتنوع وذلك ما لا يمكن ان يحدث عندما تصبغ المقاومة بالصفة الاسلامية.

بالعودة إلى العامل الطائفي نشير إلى أن الزعماء اللبنانيين (وخاصة "أمراء الحرب" بينهم) الذين اجتمعوا بغالبيتهم في مدينة الطائف السعودية عام 1989 أقروا اتفاقا أدى إلى إدخال تعديلات على الدستور اللبناني وتغييرات في صلاحيات السلطات خاصة التنفيذية منها ساهمت في تعزيز موقع رئاسة الحكومة على حساب رئيس الجمهورية. ملاحظة هامة: لم يطبق حتى الآن من مقررات الطائف البند المتعلق بانتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي (بعد 1996 حسب الوثيقة) وتشكيل مجلس شيوخ (مشابه لما ورد في برنامج الاصلاح المرحلي عام 1975).

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الطبقة السياسية الجديدة استخدمت الوضع الناشئ بعد الطائف حصريا لتحقيق أهدافها في تبوأ مراكز أساسية في السلطة وإدخال ازلامها إلى وظائف الدولة واستعمال كل ذلك لتعزيز أوضاعها ضمن حصرية تمثيلها لطوائفها ومذاهبها. لقد جرى ابتذال المحاصصة المذهبية بأبشع صورها و"تطويرها" من المحافظة على نسب محددة للمذاهب خلال توزيع الحقائب الوزارية أو مناصب الفئة الأولى في الدولة إلى تحديد إلى أي مذهب يمكن أن ينتمي الوزير في الوزارة المعينة وخاصة ما اصطلح على تسميته بالسيادية منها (الداخلية، الخارجية، الدفاع، المالية) التي حصرت بممثلي الطوائف الكبرى (الموارنة، السنة، الشيعة، الروم الأرثوذكس) دون غيرها. ناهيك عن الفساد والسرقات التي استباحت مقدرات الدولة والسياسة المالية للبنك المركزي التي أشرنا إليها سابقاً.

هنا أود استعراض تطور الدين العام في لبنان خلال السنوات الثلاثين الأخيرة
- بعد الحرب الأهلية مباشرة أقل من مليار دولار
- عام 1992 - 3 مليارات دولار
- عام 1998 - 13 مليار
- عام 2005 - 35 مليار
- حاليا - أكثر من 100 مليار دولار

إنّ جشع الطبقة السياسية الحاكمة فاق كل ما يمكن أن يتحمله المواطن اللبناني مما أدى إلى خروج الجماهير في 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019 وما تلاه للتعبير عن سخطها على هذا الوضع وعدم ثقتها بمختلف أطراف السلطة. أهمية هذا الحراك كون المشاركين فيه ينتمون إلى مختلف الأديان والمناطق اللبنانية إضافة إلى جماهيريته الواسعة. لكنه، وللأسف، فإن غياب برنامج حد أدني للحراك وانعدام وجود قيادة له وتغلغل جهات خارجية معروفة الأهداف خاصة عبر ما يسمى بالمنظمات غير الحكومية NGO ساهم في تنفيس هذا الحراك وشرذمته إضافة إلى عوامل موضوعية كجائحة الكورونا.

لقد وضع الانفجار في مرفأ بيروت في 4 آب/اغسطس الماضي القوى السياسية اللبنانية على المحك فاستقالت حكومة حسان دياب التي تولت السلطة لنصف عام ولم تصل حتى الآن الجهود المبذولة لتشكيل حكومة جديدة إلى نتيجة تذكر. بعد انفجار المرفأ انبرت فرنسا بشخص رئيسها مانويل ماكرون في محاولة منها اظهار نفسها بمظهر الحريص على لبنان ومستقبله وخروجه من محنته. ففي زيارتين للبنان اجتمع ماكرون بأطراف السلطة ورغم محاولته اظهار مبادرته بمظهر الحيادية والموضوعية لكن يبدو أن محاولته ليست سوى خطة لاستعادة دور ومصالح فرنسا في المنطقة وهي في الوقت نفسه نسخة منمقة للخطة الأميركية الإسرائيلية (اساسا) والهادفة إلى فرص أجندات سياسية قد تسهم في تعقيد أشد الوضع اللبناني إن لم تصل إلى تفجيره.

إنّ السجالات القائمة بين أطراف السلطة اللبنانية، وخاص بين رئيس الجمهورية وفريقه من جهة، ورئيس الحكومة المكلف ومؤيديه من جهة أخرى لدلالة واضحة على عقم الطبقة السياسية اللبنانية وارتباطاتها بالقوى الخارجية الإقليمية منها والدولية (اميركا، إيران، السعودية، فرنسا .....) بحيث انها لا تملك استقلالية قرارها بل تلبي في معظم الحالات الاملاءات الخارجية. عادةً ما يكون اليوم الوطني، أو ذكرى الاستقلال، مناسبة للاحتفال يسيطر عليها الابتهاج والسعادة. لكن استقلالنا الحقيقي في لبنان أن يكون إلا بتحررنا من عبء وأخطاء الماضي والسير معا لبناء مستقبل زاهر لبلد عربي حضاري مدني علماني سيد مستقل تكون المواطنة فيه أساس التزام جميع اللبنانيين.

وكما يتردد في هكذا مناسبة: عشتم وعاش لبنان.