فمنذ أوائل القرن الماضي أخذت مقاومة المشروع الصَّهيونيِّ في فلسطين والعالم أشكالًا متعددة، وبها ارتبطت شتَّى نضالاتهم بشكلٍ أو بآخر على امتداد قرنٍ ونيِّفٍ من الزَّمن.
وفي هذا السِّياق كانت التَّجربة النضاليَّة الرَّائدة، في الثُّلث الأخير من القرن الماضي، لشباب مركبا الوطنيِّ وفي طليعتهم المربِّي المناضل الأستاذ "حسن صبَّاغ"، تلك التجربة التي لا يمكن فهم أسبابها وتداعياتها بمعزلٍ عن ذلك المسار، الذي كان لا بدَّ له من أن يتقاطع مع تلك القضيَّة ويرفدها.
ففي أوائل سبعينات القرن الماضي أبصرت فكرة إنشاء المستوصف الشعبيِّ في بلدة مركبا الجنوبيَّة الحدوديَّة النُّور، بهدف تقديم الخدمات الطبيَّة المجانيَّة لأبناء المنطقة والجوار، من باب تمكين أبناء المنطقة من الصُّمود والتَّمسُّك بالأرض بعد أن تفاقمت مشكلة النُّزوح صوب العاصمة وبقية المناطق نتيجة الاعتداءات الإسرائيليَّة المتكرِّرة، ما بات يهدِّد بإفراغ المنطقة من أهلها، ويوفِّر بالتَّالي فرص قضم المنطقة وابتلاعها فيما بعد لتنفيذ المشروع الصهيونيِّ التاريخيِّ بإقامة دولة إسرائيل الكبرى.
فبالإضافة الى الدور الرئيس والمركزي للبندقية في مواجهة الأطماع الصهيونيَّة، تنوَّع العمل المقاوم، من محاولة رفع الحرمان عن المزارعين ودعمهم إلى تعليم أبنائهم وتأمين ظروف صحية مناسبة لهم وبخاصَّةٍ في المناطق الحدوديَّة. وفي هذا السياق، لا بدَّ من الإشارة إلى الدور الذي لعبته القوى التقدمية بشكل عام، والحزب الشيوعيُّ اللُّبنانيُّ بشكلٍ خاصٍّ، في المجال الصحي، بالموازاة مع انشاء قوات الحرس الشعبي لمقاومة العدو الصهيوني.
ولدت لدى الطبيب المناضل الدكتور محمد دقيق فكرة إنشاء مستوصفٍ صحيٍّ شعبيٍّ في بلدته مركبا قضاء مرجعيون، لم يلبث أن ترجمها، بالتعاون مع مجموعة من المتطوعين اليساريِّين. (سنفرد لاحقًا مقالة خاصة عن تحربة الدكتور دقيق).
في المرحلة الأولى من هذه التَّجربة الرَّائدة والتي امتدَّت منذ بداية سبعينيَّات القرن الماضي حتى سنة 1975، اكتسب هؤلاء الطليعيُّون ثقة الناس ومحبتهم ولا سيما الفقراء منهم، الذين قدموا للمشروع يد العون والمساعدة من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب عبر المساهمات الماليَّة المتواضعة وتأمين بعض الأدوية تحت إشراف الدكتور محمد دقيق ورعايته.
وفي المرحلة الثانية الممتدَّة بين سنتي 1975 و1978 تاريخ العدوان الاسرائيلي على جنوب لبنان فيما عرف بعمليَّة اللَّيطاني 14-21 آذار 1978، برز اسم الاستاذ حسن صبّاغ الذي كان من بين المتطوعين الأوائل حيث كان يشرف على تنظيم زيارات المرضى ويهتمُّ بالأمور الماليَّة ومساعدة الأطباء وهم يعاينون المرضى في المستوصف، ليكتسب من خلال تلك التَّجربة خبرةً رفدها بقراءاتٍ علميَّةٍ مكثَّفةٍ لتزداد معرفته وتتطوَّر مع الوقت بشكل لافت.
كانت ثلَّةٌ من الأطبَّاء المميَّزين تناوب في المستوصف الذي تمكَّن من استقبال آلاف المرضى من بلدة مركبا وقرى الجوار، كما كان فيه صيدلية استطاعت تأمين أدويةٍ مختلفةٍ ومتنوعةٍ تغطي مختلف الأمراض.
أثار نشاط أولئك الشباب وتعاطف النَّاس معهم حفيظة الاقطاع السياسيِّ في الجنوب، الذي رأى أنَّ وراء هذا النشاط خلفيَّةً سياسيَّةً محض، ستؤدِّي في النهاية إلى تقليص نفوذه في المنطقة، فعمل ما بوسعه لعرقلة المشروع، بذريعة أنَّ المستوصف غير حائزٍ على ترخيصٍ رسميٍّ من الجهات المختصَّة، وبالتَّالي ليس له الصِّفة القانونيَّة لمزاولة تلك النشاطات. فحاول إقفاله عبر اطباء رسميِّين تابعين لوزارة الصحَّة، ومنعه من الاستمرار. ولمَّا حضر أحد أطباء وزارة الصحَّة في مهمَّة تهدف الى رفع تقرير يتضمَّن معلوماتٍ ملفَّقةً كاذبةً عن عمل المستوصف، وجد نفسه أمام صرحٍ طبيٍ مميَّز، ليخرج منه قائلاً: "أنا حضرت الى هنا بغية اغلاق المستوصف ولكنني وجدته يقوم بعمل علميٍ محترفٍ، وأنَّه يتمتَّع بمواصفاتٍ طبيَّة وصحيَّةٍ ممتازةٍ وتتوفَّر فيه أفضل الخدمات والأدوية، لذلك فإنني أفضل أن تقطع يدي على أن ارفع تقريرًا باغلاقه، وهو الذي لا يوجد له مثيلٌ إلا في مستشفى الجامعة الاميركيَّة".
بناءً عليه، ونظرًا لهذا التحدي السياسي قرر القائمون على المشروع توسيعه بالتنسيق المباشر مع الحزب الشيوعي، فجرى افتتاح مستوصفين مشابهين في بلدتيْ ميس الجبل وكفركلا، لتتحوَّل هذه المستوصفات فيما بعد الى نواةٍ لمشروع جمعية النجدة الشعبيَّة في كل لبنان.
وفيما تفرَّغ الدكتور محمد دقيق لإنشاء النَّجدة الشَّعبيَّة في بيروت، تابع الاستاذ صبّاغ العمل في مستوصف البلدة بالتنسيق والتعاون مع عددٍ من الأطباء الجنوبيِّين، وبمواكبتهم صار يراكم معارفه أكثر فأكثر، ما أمكنه من القيام بمعاينة المرضى في حال غياب الأطباء وتقديم الوصفات الطبيَّة المرفقة ببعض الأدوية المتوفِّرة في صيدليَّة المستوصف. واستمرَّ هكذا حتى سنة 1978 حين اجتاح جيش الاحتلال جنوب لبنان.
وإن كان العدوُّ قد انسحب من بعض المناطق الجنوبيَّة عقب عمليَّة اللَّيطاني، إلَّا أنَّه مكَّن عملاءه من السَّيطرة على ما عُرف يومها بالشريط الحدوديِّ، فحوَّلت قوات سعد حداد المستوصف الى مركزٍ عسكريٍ لها، ليبقي الوضع كما هو عليه حتى عام 1982 عند اجتياح اسرائيل لبنان ووصولها الى العاصمة بيروت، التي كان قد نزح إليها الأستاذ حسن صبّاغ منذ إنشاء ما عُرف بالشريط الحدوديِّ.
في هذا الوقت عاد الأستاذ الى قريته مركبا حاملاً خبرته التي اكتسبها من خلال عمله بالمستوصف ومواظبته الدؤوبة على قراءة الكتب والمنشورات التي تهتم بشؤون الطبِّ.
في القرية فتح الأستاذ منزله لعلاج المرضى بعد أن تعذَّر استرجاع المستوصف من يد الميليشيا التي سيطرت عليه. ولكي يتمكَّن من تأمين الدواء صار يطلب من المرضى المتعافين احضار ما تبقَّى لديهم من أدوية في منازلهم من أجل تقديمها لسائر المرضى. ونتيجة الثِّقة المطلقة برائد هذه التجربة كان تجاوب أولئك القرويِّين البسطاء منقطع النظير، حيث لم يترك أيٌّ منهم حبَّة دواءٍ في منزله إلا وأحضرها الى منزل الاستاذ صبّاغ، ليساهم هو الآخر بدوره في تقديمها لمن يحتاجها من مركبا أو قرى الجوار.
في المرحلة التي امتدت ما بين الرجوع إلى القرية وتحرير الجنوب من براثن العدوِّ وعملائه في 25 أيار سنة 2000، عاش سكَّان ما عُرف بالشريط الحدوديِّ في ظلِّ ظروفٍ صعبةٍ وقاسيةٍ للغاية، فكان التنقل بين القرى يخضع لإجراءات مشدَّدةٍ فرضتها قوات العدو عقب تعاظم عمليَّات المقاومة ضدها، فازداد تضييق الخناق على المواطنين. فمُنعت السيَّارات من التجوُّل ما لم يكن بداخلها غير شخصٍ، وصار الذهاب الى المستشفيات التي كانت شبه معدومة اصلاً في منطقة الشريط الحدوديِّ من الأمور المستحيلة، لذلك كان على المرضى أن يقصدوا منزل "الدكتور" حسن صبّاغ، الذي تحوَّل إلى عيادةٍ طبيةٍ بكلِّ ما للكلمة من معنى، وصارت طوابير المرضى تحتشد في ظلال سنديانة الدَّار الوارفة الظلال، ينتظرون دورهم للمعاينة والحصول على العلاج المناسب.
ويفاخر الأستاذ صبّاغ، قائلاً: "لقد عالجنا عشرات آلاف المرضى ولم نسمع منهم إلا الثَّناء والمحبة والثِّقة بعملنا". ويؤكِّد عددٌ من الأشخاص الذين قصدوه وعاينوا أبناءهم لديه ما أشار إليه الأستاذ. ومن بين هؤلاء السيد: خ. ا. الذي قال: "إنَّه لطالما كان يعاين أبناءه عند الاستاذ حسن، فيقدِّم لهم الوصفة والدواء، وإنَّه كان إذا اضطر أحياناً لمراجعة طبيبٍ اختصاصيٍّ يجد أنَّ التشخيص ذاته والدواء عينه اللذين قُدِّما في عيادة القرية" .
ويذكر الأستاذ حسن أنَّه قد قام بمعالجة عددٍ من المقاومين، في الأودية والبراري، لدى إصابتهم خلال تنفيذ عمليَّاتهم ضد المحتلِّ، وأنَّه قدم لهم الأدوية المناسبة والإسعافات الأوليَّة الضروريَّة، ليتمكَّنوا من الوصول الى المناطق الآمنة.
ومن حالات العلاج الصٍّعبة التي واجهته في مسيرته الطويلة تلك التي كان يضطرُّ فيها للقيام بعمليات تقطيب الجروح ومداواتها من دون استخدام البنج، والتي كانت تتكلَّل جميعها بالنجاح".
يختم صبّاغ حديثه معنا بالقول" من خلال تجربتي يمكنني أن أجزم أن الفقراء هم أكثر الناس تقديرًا للأعمال ذات الطابع الانساني، وهم على استعداد للمساهمة فيها وبذل ما أمكنهم، متمنيًا لو أن العمل التطوعي النظيف، بجميع مستوياته وأشكاله، يأخذ دوره في هذه المراحل الصَّعبة التي يمرُّ بها وطننا اليوم".
يعيش الأستاذ صبّاغ اليوم مع زوجته في منزلهما المتواضع، متفرغاً للتَّأملِّ واسترجاع شريط ذكرياتٍ حافلٍ بالبذل والعطاء، كما أنَّه يهتمُّ بالكتابة، فله نحو عشرة كتب ما بين دواوين شعرٍ ورواياتٍ ونصوصٍ أدبيةٍ وسياسيةٍ لم تبصر النور نظراً للظروف الماديَّة الصعبة التي ناء الجميع بكلكلها، بانتظار الوقت المناسب لطباعتها وتوزيعها.
ينفث الأستاذ حسن دخان سيجارته تحت رفيقة عمره السنديانة مع انتهاء المقابلة وهو يشعر بغبطةٍ عارمةٍ. إنَّه فرح البذل والعطاء.