شهداء الدفاع عن بيروت: نحترق ولا نرفع الاعلام البيضاء

يعود تاريخ ١٦ أيلول حاملاً معه قصص بطولات وتضحيات المقاومين الذين إستبسلوا في الدفاع عن الوطن وعن قضية تحرر الشعوب المقهورة بأسرها. خلافاً لما يعتقد الكثيرون، فالقضية لا تُختصر بالدفاع عن الأرض فقط، بل تتعدى ذلك لتصبح دفاع عن الحق والحرية وردع الغاصب المستعمِر في كل انحاء المعمورة. نداء ١٦ أيلول ما زال يتردد في أذاننا مع كل بزوغ فجر، مع كل شروق شمس وجملة واحدة ما تزال في عقولنا وقلوبنا "الى السلاح". كم شبيه هذا النداء بالذين سبقوه في العالم، من نداء الشيوعيين الاسبانيين الى مقاومة الفاشية، نداء الثوار الايرلنديين الى طرد المحتل البريطاني، نداء الثورة الفلسطينية لمقاومة الصهيونية.

 كل هذه القضايا التي تختلف في الظاهر، تجتمع حول نقطة واحدة "حب الحياة". قال السيد المسيح: "لَيْسَ لأَحَدٍ مَحَبَّةٌ أَعْظَمُ مِنْ هذِهِ: أَنْ يَبْذِلَ أَحَدٌ حَيَاتَهُ فِدَى أَحِبَّائِهِ". وبالفعل ما يمكن أن يكون الدافع للتضحية حتى الموت إن لم يكن حب الحياة والايمان بأن الانسان "جميل وحر"، حسب تعبير مهدي عامل؟ فالموت لا يخيف من عرف حب الحياة وأهل الحياة، الموت لا يخيف المناضلين والمناضلات، بل يزيدهم عزماً وإصراراً على إكمال الطريق لأنهم يعرفون خير معرفة أن الموت هو دربٌ للحياة.

في هذا السياق تتسجل شهادات جورج قصابلي، محمد مغنية وقاسم الحجيري. في إتصال مع جان قصابلي الذي شارك في العملية التي إستشهد فيها اخوه جورج ومحمد، يروي أنه على إثر إعلان ١٦ أيلول باشر ورفاقه الشهداء التحضير لعملية صد تقدم القوات الإسرائيلية نحو بيروت. كان هَم الرفاق الثلاث الوحيد هو كيفية دحر الغزاة من أرضهم في العاصمة بيروت. يضيف قصابلي أن وحدات من الجيش الاسرائيلي دخلت من ناحية سينما كليمنصو، تفاجئوا بوصول ميركافا الى زاوية مقابلة فبادرها الشهيد جورج بطلقة قذيفة "ب ٧"، لكن باغتته قوات الاحتلال من خلفه من ناحية الجيفينور، وأطلقت الدبابة عليه وعلى محمد النار، وبكل  طلقة تخترق أجسادهم مناضل جديد يهتدي على درب النضال والحرية. 

سقط الشهداء الثلاث على أرض بيروت مرويين تراب المدينة من دمائهم الطاهرة النقية. يروي جان أنه عند رؤيته هذا المشهد المريع بدأ بإطلاق النار من سلاحه الخفيف على الدبابات، وإنسحب من ناحية مستشفى بخعازي فساعدته الممرضات، "معمظمهن من رفيقاتنا"، على إخفائه كمريض. يقول جان أنه كان من الصعب التعرف على جثث رفاقه الشهداء، لكن وقع بعد العملية حدث أربك قوات الاحتلال. 

يسرد جان أنه وُضع عند ظهر اليوم نفسه إكليل من الورد مكان إستشهاد رفاقه، علماً أن المكان كان يعج بجنود الاحتلال وآلياته. يمكن توصيف عملية وضع الاكليل بأنها خاطفة وشبحية متقنة. عند رؤية الاكليل أصيب جنود الاحتلال بالذعر وإبتعدوا عنه خوفاً من أن يكون ملغوماً ومعد للتفجير. 

سطروا جورج ومحمد بدمائهم نداء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية فكانوا من أوائل الشهداء الذين سقطوا أبطالاً على أرض بيروت، مدينة الشعب والمستضعفين. جورج تامر قصابلي إبن منطقة الاشرفية، التي لطالما إتهمت زوراً انها قلعة من قلاع اليمين المتطرف. يقول قصابلي بحماسة أن الاشرفية كانت، وستبقى، معقل التقدميين واليساريين فيسرد جان قصة نادي الوعي الاجتماعي في الاشرفية مقابل كنيسة السيدة، ملتقى الشباب التقدمي، المكان الذي كانت تنظم فيه حلاقات النقاش ومشاهدة الأفلام الوثائقية، إلا أن الحرب أنهت كل هذا، يقول جان بحسرة. 

قصة جورج ومحمد وقاسم  تختصر آلاف القصص من المناضلين الشرقاء الذين ابوا أن يقبلوا تدنيس أرضهم، ورفضوا الخضوع وصرخوا بأعلى صوتهم "لن يمروا". يجوز لنا القول فعلاً أن إتحاد الشباب الوطنيين والتقدميين وإيمانهم بحرية وسيادة هذا الوطن أسقط المؤامرات المحبوكة في أقبية الموت، هؤلاء حولوا "نزهة شارون" الى ملحمة صمود لا تزال قصصها تروى حتى اليوم، شهدائنا هم صانعي قصص البطولة لأطفالنا على حد تعبير أغنية مارسيل خليفة. 

نحن عرفنا قصص قاسم، جورج ومحمد، لكن لا يمكننا التناسي أن الكثير الكثير من المناضلين الابطال لاتزال قصصهم مجهولة، لا يعرفها الناس، إلا أن أسمائهم ستبقى خالدة في ذاكرة الوطن، وفي ذاكرة الثورة على الظلم في كل مكان وزمان. فكما سبق وقلت، فإن مقاومة الاحتلال الصهيوني لم يكن فقط بدوافع قومية أو وطنية بحتة، بل هي بدوافع ثورية واعية مناضلة علمية، تعي خير إيعاء أن الوقوف في وجه المحتل في لبنان يوازي الوقوف في وجه الجحافل النازية في أوروبا أو النضال ضد حكم الديكتاتوريات في أميركا اللاتينية. هؤلاء الشباب الابطال صعدوا من مصانعهم وجامعاتهم وحقولهم ووظائفهم لتلبية نداء الوطن والإنسانية. 

رسالة منا في هذا التاريخ لجميع الذين تراودهم شكوك، لا يمكنكم أن تكونوا مع الحرية ومع أعدائها ولا مع السلم واعدائه ولا مع التقدم وأعدائه في آن. 

للمفكرين والفلاسفة وحلقات المثقفين الذين تعج بهم المقاهي استعيد قول مهدي عامل "بوضوح أقول، فالوضوح هو الحقيقة، من لا ينتصر للديمقراطية ضد الفاشية، للحرية ضد الإرهاب، للعقل والحب والخيال، وللجمال ضد العدمية وكل ظلامية، في لبنان الحرب الأهلية، وفي كل بلد من عالمنا العربي، وعلى إمتداد أرض الإنسان، من لا ينتصر للثورة في كل آن، مثقفّ مزيف، وثقافته مخادعة مرائية".  

علينا اليوم إستخلاص العبر من أبطال ماضينا المشرف. فلنكن كلنا جورج وقاسم ومحمد، لنعلن إعادة تشكيل جبهة المقاومة الوطنية في وجه الاستغلال والقهر والاسياد الذين يعتاشون من عمل الكادحين ومن إستغلالهم، فالننتصب جميعنا في وجه من يحاول، نيابة عن العدو، قتل ما تبقى من أمل في نفوسنا. 

في هذه المناسبة سيتم تشييد نصب للشهيدين جورج ومحمد يوم الخميس الساعة السادسة مساءً في كلمنصو بموافقة ومواكبة محافظة بيروت. اليوم هو ذكرى العملية البطولية التي نفذها الشهيدين لكن كل يوم يجب أن يكون يوم جمول، نحن مدعوين كل يوم وكل لحظة لحمل المشعل من جديد والكفاح من أجل العيش الكريم ومستقبل شعبنا الحر. عودة الى كلمات الرفيق الشهيد حسين مروة "كان من الصعب أن نكون شيوعيين والاصعب أن لا نكون"، فنحن نعرف كم من الصعوبات التي تواجه شبابنا يومياً مع مجتمعاتهم التقليدية الغارقة بالطائفية والعصبية، إلا أننا نتوجه لهم بالقول اصمدوا! ناضلوا! ثابروا، ولا تكترثوا لما حولكم، اخلعوا جنازير التقاليد البائدة الذين يحاولون أسركم بها. 

على طريق جمول نسير ونسير من أجل تحقيق هدفنا الأوحد "وطن حر وشعب سعيد". تحية لأرواح شهادائنا التي تسكن في قلوبنا وضمائرنا أبداً، إلى حد بروغ فجر الامل الساطع في سماء الحب وفضاء الحرية الجليلة التي إستشهد من أجلها من سبقونا وسيستشهد رفاق من بعدنا. نعاهدكم اليوم بإكمال المسيرة ومواصلة درب النضال والكفاح ضد أنبياء الموت الأبالسة العابثين بأمن الشعوب ورفاهيتها. الى قاسم ومحمد وجورج نقول، ستبقون الى الأبد في أذهان المناضلين الذين رفضوا ان يطبعوا مع قوى الإرهاب والمنية والخراب.

لكم منا في هذا اليوم الف تحية وتحية. سنمضي سنمضي إلى ما نريد وطن حر وشعب سعيد.