بقايا انتفاضة وعجز

"اذهبوا إلى الحرب
أو إلى الجحيم،
فقط
أغلقوا الباب وراءكم"
بسام حجّار

قرر والدا الطفلة الصغيرة لف رأسها بالعلم اللبناني، فيما إخوتها الأكبر يتشبثون بعصا يرأسها العلم، يسيرون بجانب ذويهم باتجاه ساحة الشهداء. الإرسال مقطوع بسبب الضغط على الشبكة. توقف العد عند امتلاء الساحة. خط بشري وصل ساحة رياض الصلح بمنطقة الصيفي. تختلف الأغاني والشعارات مع اختلاف الساحة وقاصديها. الأيام الأولى لانتفاضة 17 تشرين الأول كانت عاطفية بدرجةٍ أساسية، وكلما تقدمت الأيام وكبر الحشد، كبر التورط العاطفي، ولم يخرج ما هو عقلاني إلا من قبل بعض النخب، التي تخاصمت حكماً.
كبر الحشد، من عكار حتى بنت جبيل. فجأة، نزل اللبنانيون إلى الشارع، وأقفلت طرقات لم تعتد على التظاهر، وكبرت العاطفة، ما أدى بطبيعة الحال إلى نكسة عاطفية أيضاً. مع ازدياد عدد المتظاهرين، تعمقت قوة الفرد/ الجماعة، هنا يذوب الفرد بالجماعة، ويتحول العجز الفردي إلى القوة الجماعية. ويوم انفجرت هذه القوة، بقي العجز.
***
احترقت أحراج في الشوف وإقليم الخروب، ووصلت النيران إلى بيوت السكان، ولم تتمكن وزارة الداخلية من السيطرة عليها. تطوع شبان وشابات للمساعدة في إخماد الحرائق وإغاثة السكان. بدأ شح البنزين، ومعه ظهرت طوابير على المحطات. بدوره كارتيل القمح أوقف الناس صفوفاً أمام الأفران. قلق حول تغيرات بدت طفيفة في البداية، لكنها شحنت الناس على أزمة وشيكة. خرج أحد عباقرة النظام مقترحاً وضع ضريبة 6 دولار على خدمة واتساب، في تمظهر لوقاحة غير مسبوقة لأركان هذا النظام. اعتراضاً على الاقتراح، توجه العشرات للتظاهر في محيط السراي، وعند خروج موكب الوزير أكرم شهيّب، قام مرافقه بإطلاق النار على المتظاهرين، ليبدأ التوافد الشعبي، الذي استمر أشهراً. لم يتظاهر الناس بسبب الدولارات الستّة، بل انفجروا أمام ذلٍّ ممنهج أسقط عليهم.
اجتاح فيروس كورونا العالم، وألزم الناس منازلهم، ومعه تفاقمت الأزمة الاقتصادية في لبنان. صيف 2020، تقلصت إجراءات الإقفال العام. خرج المواطنون لاستعادة بعض الشيء من حياتهم، فانفجرت بهم العاصمة، ودُمّر المرفأ. اعترضوا ليوم واحد، وعادوا يلملمون ما بقيَ من العاصمة وسكانها.
***
منذ تشرين الأول 2019 ولبنان في حالة سقوط حرّ. قيل الكثير عن أسباب الأزمة وقُدمت حلول تقنية وأخرى أيديولوجية، لكن لم يقل أحدٌ ماذا سيحصل حقاً. ربما لأن أحداً لا يعلم. ترقب لحرب أو خضات أمنية، مع ارتفاع وانخفاض سعر الصرف، ورفع تدريجي للدعم على المواد الأساسية. الواقع لا يُحتمَل، ولا أحد يتحرك. سابقاً تحركوا، انتفضوا، ولم يحققوا أي مطلب. تظاهروا عام 2015، وقبلها عام 2011، في وتيرة متطابقة للتظاهر، التي يشرحها ديفيد هارفي قائلاً: "إن سرعة صعود وهبوط الحركات الاحتجاجية وتقلباتها في العقود القليلة الماضية تستحق التعليق. إن فهم الإمكانيات السياسية والثورية لمثل هذه الحركات يمثل تحدياً كبيراً. والتقلبات في تاريخ ومصائر الحركة المناهضة أو البديلة للعولمة من أواخر التسعينيات توحي بأننا في مرحلة شديدة الخصوصية، وربما تكون مختلفة جذرياً، من النضال ضد الرأسمالية. فالحركة التي تشكلت في المنتدى الاجتماعي العالمي وفروعه الإقليمية، وتحولت بشكل متزايد إلى طقس دوري من المظاهرات ضد البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (والآن ضد مجموعة العشرين)، أو تقريباً في كل اجتماع دولي عن أي قضية، من الصعب الإمساك بها، لأنها "حركة للحركات"، وليست منظمة فكر واحد. ولا يعني ذلك أن الأشكال التقليدية لمنظمات اليسار قد اختفت، ولكن يبدو الآن أنها تسبح كلها في محيط حركات معارضة أكثر انتشاراً، وتفتقر للتماسك السياسي الشامل".
***
بين تحرك وآخر، انفجرت العاصمة، وولدت شعوراً بالعجز وغياب الأمن، أو ما يعرف بالصدمة الجماعية. إذ يشير مصطلح "الصدمة" إلى تأثير الحادث الصادم على فرد أو عدد من الأشخاص، والصدمة الجماعية تشير إلى تأثير التجربة الصادمة على مجموعات كاملة من الناس أو المجتمعات التي تجلب الكرب والعواقب السلبية للأفراد وتنعكس على النسيج الاجتماعي بأكمله. ويمكن للصدمة الجماعية أن تؤثر في العلاقات، وتغير في السياسات الحكومية، والآلية التي يعمل بها المجتمع، بل تغير أعرافه الاجتماعية.
الصدمة الجماعية هي استجابة يمكن أن تتبع مجموعة متنوعة من التجارب المؤلمة. قد تشمل الحالات التي قد تؤدي إلى استجابة جماعية للصدمات على سبيل المثال الحروب، والكوارث الطبيعية، وإطلاق النار الجماعي، والإرهاب، والأوبئة، والقمع المنهجي والتاريخي، والركود، والمجاعة أو الفقر المدقع. يمكن أن تؤدي التجارب الصادمة مثل تلك المذكورة أعلاه إلى ظهور عواقب فسيولوجية ونفسية ومجتمعية وروحية حيث ينقلب الواقع رأساً على عقب. على الرغم من التعامل مع الصدمة بشكل جماعي، إلا أن التجارب والاستجابات الفردية يمكن أن تختلف اختلافاً كبيراً مما قد يؤدي إلى زيادة الارتباك حول شكل الصدمة الجماعية.
توالي الأزمات في لبنان، جعل المواطنين يشعرون بقلة حيلة تجاه واقعهم وقدرتهم على التغيير، وباتوا أمام حلّين، إما الهجرة أو العيش من دون مستقبل. كل يوم يعيشونه هو انتصار.
***
بيروت 2021. قناصون يمهدون لاقتتال داخلي جديد. أمرٌ متوقع في بلدٍ يعيش واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية في التاريخ. العنف وقود الأنظمة الرأسمالية خاصة في أزماتها. يقول إنجلز في كتاب "أصل العنف في التاريخ" إنه "لا بد من تأمين المال بوساطة الإنتاج الاقتصادي، بحيث أن القوة مشروطة مرة أخرى بالوضع الاقتصادي الذي يؤمن الوسائل اللازمة من أجل تجهيز أدوات العنف والحفاظ عليها". اليوم لا اقتصاد ولا إنتاج. بعض الرصاص والقذائف تقول للمسحوقين أن لا صوت يعلو فوق صوت الحرب، إما الخضوع أو الموت. وفي جعبة القتلى مالٌ وسلاحٌ ومجموعات سلّمت روحها، مقتنعةً أن هذا أنسب ما يحدث. فالجرة سرقها "الغريب"، والغريب يختلف من فلسطيني إلى سوري إلى مسلم فمسيحي ودرزي. أما غير الضالعين في دهاليز "المؤامرات"، فيبسطون الواقع: إنه الانهيار ولا طاقة لنا على إيقافه.
في يومياتنا، نودع أقارب وأصدقاء، يرحلون هاربين أو ناجين، ومن بقي منا، حتى الآن، يودع ويمسح دموعاً آنية، فلا وقت للحزن والندم. سرعة الانهيار والرصاص لا تأخذ في الحسبان الرغبات والمشاعر. هي آلة طمس جبارة. ومن الترف أن تطلب العودة إلى الشارع. الأمل بالتغيير غائب، مع تخبط القوى البديلة فيما بينها، وخلافاتها المستدامة، مقابل الصدمة الجماعية. تظهر الأزمة على وجوه الناس الكئيبة والحزينة، في المحال المقفلة، في الصراخ المتعالي في الشوارع، في العصبية وسرعة العطب. حزن عام وغضب وقلة وضعف، ومحاول للبقاء على قيد الحياة وإيجاد فرصة لإنهاء ضحكة.
***
"ينتهي موسم ويبدأ موسم، و"البوتيكات"، تصرِّف ما في جوفها من سلع لتنتفخ من جديد بالجديد. كل مرة تتعرى "المانيكان" يدور رأس المال دورته. التجار يسحقون الأسعار. والأسعار تسحق المستهلكين. وتتضاعف الأرباح...
التجارة - الحرب - الربح.
زمن الحرب ينقلب سحر "المانيكان". يبادلها الناس بحياتهم. يستخدمونها لاستدراج رصاص القناص. يكتشفون موضعه. أو يغتنمون لحظة انشغاله بالدمية من أجل عبور الشوارع المسماة "حذرة". والقناص ينتقم بدوره من حيلة الناس، بإعدام "المانيكان"... رصاصة في القدم فتهوي أرضاً. وأخرى تخترق الخاصرة مثلاً، ثم الرأس. يجبُ دوماً إصابة الرأس. إن الرأس هو امتحان القناص. وإصابة الرأس هي التي تكرِّس القناص... قناصاً.
يجبُ دوماً اصابة الرأس. هنا فقط اليقين بأن الضحية أمست جثة. وبعدها تتوالى الطلقات، محكمة التهديف، ومع كل طلقة تنتفض الجثة. ومع كل طلقة يتحرك طرف من أطرافها حركة متخلعة، فجائية وتتراقص الجثة بنقزات وقفزات متخشبة.
فنٌ جدید ابتدعته الحروب اللبنانية. وعمدوه: ترقيص الجثة".
(غيرنيكا بيروت، فواز طرابلسي)