التسييس والاستنسابية في ملف تفجير مرفأ بيروت: حقيقة قانونية أو مواربة سياسية

كعادته، ينقسم الشعب اللبناني، اليوم، لمحورين بين مؤيد لمسار التحقيق العدلي في جريمة المرفأ وبين معارض له. مؤيدو المحور الأول ينقسمون أنفسهم الى فريقين غير متوازيين، الأول مؤيد إيماناً بالعدالة والمساواة وسعياً لتكريس استقلالية القضاء عن السلطة السياسية الحاكمة، طامحين لمحاسبة مرتكبي هذا التفجير الكارثي، والثاني (نسبته ضئيلة) مؤيد "جكارة" بخصومه/حلفاؤه السياسيين لتسجيل النقاط والتوظيف في الحسابات السياسية الضيقة. أما مؤيدو المحور الثاني، فيتوزعون بين فريق يحمي مشتبه فيهم سعياً للإفلات من العقاب، كما درجت العادة خلال السنوات الثلاثون المنصرمة، وفريق رافض لمنطق الدولة وجاهداً للدفاع عن منظومة أوصلت البلاد الى الانهيار الشامل، متلطين بوهم المؤامرة كونية، المترافقة مع موجة من التشويش والتضليل الممارس بشكل ممنهج ويومي من أركان المنظومة المحترفة ببث بروباغندا التخويف و"التعليب" للجمهور، معتمدة التخوين والترهيب أسلوباً فاعلاً لغاية اليوم، متناسين ما ارتكبته هذه المنظومة بحق الشعب من جريمة إبادة متواصلة منذ ما قبل العام 1975 تجددّت في العام 1990 وإستمرت لتاريخه.

من الطبيعي أن تخضع قضية بهذا الحجم لرقابة الرأي العام، إنما إنطلاقاً من المبادئ الأساسية الحاكمة لعمل قاضي التحقيق:

  • سريّة التحقيق موجب مفروض على القاضي ومخالفته يعرضه للمساءلة وفق المادة 53 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
  • قاضي التحقيق سلطة قضائية حقيقية وهو سيد ملفه، يديره بصورة موضوعية وفق المنهجية المتبعة (المادة 60 من قانون أصول المحاكمات الجزائية)، ولا يحق له إعلان أو كشف أي من معطيات التحقيقات الا في القرار الاتهامي بعد انتهاء التحقيق.
  • المحقق العدلي قاضٍ يعين بصلاحيات إستثنائية (من المادة 360 الى المادة 364 أصول محاكمات جزائية)، كون المجلس العدلي هو محكمة إستثنائية لا تتمتع بكامل معايير المحاكمة العادلة، إنما وكون مجلس الوزراء (أي السلطة السياسية مجتمعة). 
  • أحالت جريمة تفجير المرفأ الى المجلس العدلي، فواجب علينا الالتزام بأحكام القوانين المنظمة لعمله.

عملاً بالنصوص القانونية والمبادئ العامة الراعية لعمل المحقق العدلي، من الاجحاف الاتهام بالاستنسابية دون الارتكاز الى منهجية العمل المتبعة من قبله وهذا ما سيتم بحثه أدناه.

وللتذكير بداية، بتاريخ 10/8/2020 أحال مجلس الوزراء جريمة المرفأ الى المجلس العدلي (وفق المادة 355 أ.م.ج)، وبتاريخ 13/8/2020 تم تعيين القاضي فادي صوان لمهمة محقق عدلي (المادة 360 أ.م.ج)، وبتاريخ 13/8/2020 إدعى الأخير على كل من رئيس الوزراء حسان دياب وكل من الوزراء يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل وغازي زعيتر(المادة 362 أ.م.ج)، على اثر ذلك تقدم الوزيرين الأخيرين بطلب نقل دعوى أمام محكمة التمييز لعلة الارتياب المشروع ( المادة 340 أ.م.ج. وما يليها)، فتم إتخاذ القرار بتاريخ 19/2/2021 بنقل الدعوى منه وعلى الأثر تم تعيين القاضي طارق البيطار محققاً عدلياً في الملف عينه؛

 

  • في المنهجية المعتمدة من المحقق العدلي القاضي طارق البيطار

منذ إستلامه الملف، أعاد إستجواب الموقوفين الخمسة والعشرون مجدداً، اخلى من بعدها سبيل بعض الموقوفين، وإستمع إلى شهود جدد لم يسبق أن مثلوا من قبل للإدلاء بإفاداتهم.

 إنقسمت منهجية عمله على دراسة ثلاثة مراحل: 

  1. مرحلة إستقدام النيترات وإنزالها على المرفأ.
  2. مرحلة الحراسة والتخزين في المرفأ.
  3. مرحلة الانفجار أو التفجير.




  1. مرحلة استقدام النيترات وانزالها على المرفأ:

اعتمد المحقق العدلي منهجية التحقيق وملاحقة الشركة مرسلة شحنة النيترات ومالكي الشحنة، وكشف المتورطين بإحضارها وللغاية قام بتسطير إستنابات قضائية داخلية وأخرى خارجية تتصل بالتحقيقات الى دول عدة معنية بشكل مباشر أو غير مباشر بمالكي وبمسار شحنة الأمونيوم التي وصلت الى المرفأ، ومن هذه الدول جورجيا الموزمبيق، اليونان، قبرص وتركيا.

 

  1. مرحلة الحراسة والتخزين:

استلم المحقق العدلي القاضي طارق البيطار الملف محملاً بتركة سلفه القاضي فادي صوان، الذي سبق له وأرسل لائحة الى مجلس النواب للادعاء على كافة رؤساء الحكومات ووزراء الداخلية والاشغال العامة والعدل والمالية والدفاع المتوالين منذ تاريخ وصول النترات حتى تاريخ الانفجار، إعترض أركان النظام على اللائحة معتبرين أنها تعتمد سياسة الـ 6 و6 مكرر، طالبين الادعاء بواقعية ومنطقية وعلمية، ومن هذا المنطلق، لم يعتمد المحقق العدلي الجديد منهجية سلفه، بل وضع منهجية واضحة وهي إستدعاء كل من ثبت علمه بوجود النيترات بموجب كتاب خطي صريح، ولم يقدم على اجراء يقع ضمن صلاحيته لمعالجتها.

 

  1. مرحلة الانفجار او التفجير:

اطّلع المحقق العدلي على تقارير الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية حول طبيعة الانفجار او التفجير، كما سطّر 13 استنابة قضائية إلى دول تملك أقمارا اصطناعية فوق ​لبنان​ طالبا تزويده بما تملك من صور لموقع المرفأ، وذلك في إطار استكمال التحقيقات التي يقوم بها بشأن الحادث، كما اطلع على تقارير الخبراء الأجانب من فرنسيين وأميركيين وغيرهم الذين أجروا كشفاً ميدانياً للمرفأ وعاينوا الأضرار ورفعوا العينات من التربة والمياه، بالإضافة الى ذلك جرى عدة تجارب على موقع شبيه بالعنبر رقم 12، مع مراعاة العوامل المناخية المشابهة ليوم الانفجار، وذلك بحضور وإشراف الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية المختصة.

 

  • في الاتهام بالاستنسابية:

اتهم أركان الحكم المحقق العدلي بالاستنسابية في إدعاءاته لكونها تطال أشخاصاً دون آخرين، بينما بتاريخ 2 تموز من العام الحالي أصدر المحقق العدلي لائحة إدعاءات جديدة تضمنت شقين، شق أول متعلق بتصحيح إدعاء سلفه، القاضي صوان (وهو ملزم به)، بما يتعلق بالرئيس دياب والوزراء الثلاثة وشق ثاني الادعاء على كل من وزير الداخلية الاسبق نهاد المشنوق ومدير الامن العام اللواء عباس إبراهيم وأربعة من كبار ضباط الجيش، بينهم قائد الجيش السابق جان قهوجي ومدير المخابرات السابق كميل ضاهر، بالإضافة الى إحالة ملف قاضيين الى النيابة العامة للتمييزية لملاحقتهما (المادة 354 أ.م.ج)؛

إستندت هذه الادعاءات على المنهجية التي اعتمدها المحقق العدلي، مع الإشارة ان القانون منحه حق الادعاء مجدداً على من تظهره التحقيقات، ووفقاً لمنهجيته وذلك لحين صدور القرار الاتهامي ورفع يده عن الملف (المادة 362 أ.م.ج.)،

وبعد ارسال المحقق العدلي طلبا الى مجلس النواب لرفع الحصانة عن الوزراء النواب تمهيدا للادعاء عليهم (ملخص الأدلة)، تعسّف مجلس النواب باستعمال حقه وطلب الاستحصال على كامل الملف من المحقق العدلي وهو اجراء مخالف للقانون ويمس بمبدأ فصل السلطات ويعرض سرية التحقيق للخطر (المادة 99 نظام داخلي لمجلس النواب).

اعتبرت لائحة الادعاء هذه إستنسابية لعدم شمولها الادعاء على كافة رؤساء الوزراء والوزراء، الا أن مجلس النواب وقّع عريضة اتهام حصرها بالأسماء الخمسة الواردة من المحقق العدلي، ولم تتضمن أسماء كل رؤساء الوزراء والوزراء التي يعيبون عليه عدم شمولها بادعائه، وهو ما ينسف مبدأ الاستنسابية المزعوم.

في حين تجلّت الاستنسابية بتحرّك كافة أركان المنظومة لرد أو عزل أو تطيير المحقق لعدلي لمجرد اشتباهه بمسؤولية بعض أزلامها، رافضين منح أذونات الملاحقة متمسكين بالحصانات التي تشكّل أحد الاعمدة الوقائية لهذه المنظومة وبسببها لم نر وزيرا او حتى موظفا خاضعا للمحاكمة.

 

كنا قد اختبرنا الانحياز القضائي بملفات تعني المنظومة مباشرة، فشهدنا حماية لمنظومة بوليسية صبّت جلّ غضبها على المنتفضين سحلاً وفقأً للعيون دون أية محاسبة لاي عنصر تابع، لا بل حفظت النيابات العامة المعنية جميع الشكاوى المقدمة في هذا المضمار، وشهدنا إستدعاءاتهم الكيدية لأصحاب رأي وتنظيم قرارات ولقاءات لحماية المصارف وأزلامها، وإعتماد سياسة الكيل بمكيالين وحماية من اعتدى ونكّل بالمتظاهرين على كافة الأراضي اللبنانية.

 

في مقابل ذلك، سعينا لانتفاضة القضاة الشرفاء بمواجهة قضاة النظام الحاضرين بقوة في الحكومة الحالية وشاهدنا إستبسالهم، فالتحقيق بتفجير المرفأ ليس مجرد ملف قضائي، بل هو قضية، قضية شعب يباد يومياً من منظومة إحترفت قتله، فالقضية ليست دعم قاض أو لا، بل القضية بدعم نهج العدالة والمحاسبة وإستقلالية القضاء الفعلية رفضاً لنهج المنظومة الرامي للإفلات من العقاب. 

 

فتاريخ الرابع من آب من العام 2020 ليس تاريخاً مضافاً لتواريخ المآسي العاصفة ببلدنا فحسب، بل هو نقطة إنعطاف تاريخية حفرت في أعماقنا ونفوسنا نوعاً من الكسرة والحسرة لمدينة تفجّرت بأهلها وناسها دون أي قضية، لأناس قتلت وجثث تفحمت لضرر تخطى المئتي وعشرين شهيداً وعشرات الالاف من الجرحى وحوالي ثلاثمئة مهجّر من منزله ومؤسسته، ، فتفجير الرابع من آب ليس ملفاً بل هو قضية عدالة لجريمة شكلت جريمة العصر، إشترك فيها كافة أركان النظام من أجهزة امنية وعسكرية وإدارية ودستورية وقضائية وسياسية، فكانت نتيجة طبيعية لانهيار وتفكك الدولة وعناصرها، وإتهام التسييس ما هو الا محاولة من المنظومة لإخضاع الملف لتجاذباتها المعتادة حماية لأزلامها وبغية إدخاله في بازار التسويات اليومية.