قامروا بنا بأموالنا، بأماننا المالي والاجتماعي والصحي ولكننا لليوم لا ندري علامَ قامروا وما كان الثمن. أيامٌ تفصلنا عن الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة تشرين المجيدة، والتي تفجرّت على وقع استفحال الأزمة الاقتصادية وتوقف المصارف عن ايفاء الناس ودائعها تزامناً مع حرائق الاحراش واقتناع الناس بفشل المنظومة الحاكمة. فيما يلي تلخيص للازمة الاقتصادية وأسبابها وتداعياتها.
الحساب الجاري
الحساب الجاري هو حساب كل العمليات التي تقوم بها دولة مع باقي العالم بتفصيل أكبر هي الميزان التجاري (صافي الصادرات والواردات من السلع والخدمات) مداخيل الاستثمارات الوطني في الخارج (ميزان الدخل) والتحويلات المباشرة بين الافراد والشركات من الدولة وإليها (ميزان التحويلات). يشكّل الميزان التجاري الحيّز الأكبر من الحساب الجاري. في الوقت الذي شهد فيه العالم الازمة الاسيوية أو ما عرف بأزمة الأسيان عام 1997 حيث انتشرت الدراسات والأبحاث حينها من صندوق النقد وأكاديميين وراحت تحذّر من عدم استدامة عجز الحساب الجاري و تداعياته الخطيرة تحديداً في حالة ضعف قنوات صب راس المال (المصارف)، كان الممسكون بالقرار الاقتصادي في لبنان على كوكب آخر غير آبهين و مقامرين يرون بأمّ العين عجز الحساب الجاري المتنامي، ولا يقومون بتقديم أي حلول سوى رفع معدلات الفائدة لزيادة الدفقات النقدية و الاستثمارات المالية في السندات كبوابة لسد العجز و تعديل ميزان المدفوعات و التي ما قامت بشيء سوى مراكمة ديون و بتكاليف بدل استعمال هذه التدفقات في تعديل ميل الحساب الجاري عبر الاستثمارات المنتجة و الخالقة لفرص العمل. على العكس من ذلك تماماً، كان النهج اقتصادي المتبّع يحرم خلق فرص العمل ويصدّر الشباب اللبناني كسلعتنا الأهم للعمل خارجاً والإيداع في لبنان. إذا ما نظرنا الى الحساب الجاري للبنان، نجد أنّه ومنذ السبعينيات حتى ما بعد انتهاء الحرب اللبنانية في تسعينيات القرن المنصرم، يعاني من عجز مزمن. بتعبير آخر، كانت دوماً قيمة وارداتنا من سلع وخدمات (تشملها السياحة) تفوق تلك التي نصدرّها مع قيمة عائدات استثماراتنا في الخارج والتحويلات.
مقابل هذا، تحوّل لبنان الى مستورد للاستثمارات المالية والنقدية عبر رفع معدلات الفائدة على الأوراق المالية. ومن ناحيةٍ أخرى، لم تستخدم هذه التدفقات بما يذكر من نشاط اقتصادي منتج بل ذهبت الى القروض وأهمها اقراض الدولة اللبنانية.
الدين العام
انتهت الحرب ليبدأ معها مسيرة إعادة الاعمار عام 1992 وذلك تزامناً مع حكومة الحريري الأب الأولى. جرى ذلك بعد تثبيت سعر الصرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي. وبدأ مسلسل الاستدانة بفوائد مرتفعة جداً. اذاً، كان لهذه السياسة أن أدّت الى تدفق المال وبدأ الاعمار وتكدسّ الدين، وبما إنّ الفائدة أو خدمة الدين كانت مرتفعة جداً، باتت ككرة ثلج إذ أنّ خدمة الدين نفسها باتت تخلق عجزاً يستدعي ديناً يضاعف خدمة الدين وبالتالي يعمق عجز الموازنة ويزيد الدين العام.
كما ذكرنا آنفاً، كان لبنان يعاني من عجز في الحساب الجاري ومعه عجز الموازنة. لذلك، دخل البلد فيما يعرف بتوأمة العجز الخلاّقة والمتجددّة. انه العجز في الحساب الجاري يعني اننا نستورد أكثر ممّا نصدر، وبمعنى مبسْط بتنا نستورد الاستثمارات المالية والنقدية، فيما عجز الموازنة يخلق حاجة للنقد وبالتالي يخفض الاستثمارات الاقتصادية وهذا من شأنه أن يخنق الميزان التجاري أكثر ويعمّق عجزه، فهو عجز في الموازنة يخلق عملياً عجزاً في الحساب الجاري والعكس. كيف لا والكهرباء لوحدها حتى اليوم ساهمت فيما يقارب المئة مليار دولار من هذا العجز إضافة لكلّ مظاهر الفساد في هذا القطاع كالعمولات والسمسرات والفساد الإداري والتهرب الضريبي إلخ.
بدءاً من عام ٢٠٠٠، بدأت نسبة العجز للناتج المحليّ تقارب ١٥٠ ٪ كما هو مبيّن في الجدول أدناه. كرة الثلج أخذت تكبر حيث وصل نسبة العجز هذا الى حدود ١٨٠ ٪ من حجم الناتج المحليّ الإجمالي، حتى وصل الأمر لتقول الدولة أنه لم يعد بمقدورها أن تدفع سنداتها، فكلفة الدين لوحدها تشكّل ما يقارب 10 بالمئة من الناتج المحلي، وهو تماماً ما حدث من ناحية سندات اليوروبوند حيث تخلّف لبنان عن الدفع لاوّل مرّة في آذار/مارس الماضي.
الفوائد
لعبت الفوائد المرتفعة دوراً أساسياً في الازمة، منذ بداية التسعينيات شهدت سندات الخزينة في لبنان ارتفاعاً جنونياً في معدلات الفائدة حيث ناهزت 37.5 بالمئة خريف 1995. من زاوية أخرى، كانت الفائدة دوماً مرتفعة، الامر الذي راكم الدين العام وعمّق الازمة الاقتصادية وأدّى بالتالي الى تفاقم مشكلة البطالة حيث ومع ارتفاع الفائدة تدنت الاستثمارات المنتجة وأصبح خيار الاستثمار مكلفاً و كلفة قروض الاسر مرتفعة، فكان المستثمر يفضل إيداع الأموال بدل استثمارها في الاقتصاد المنتج في تكريس لفكرة الاقتصاد القائم على الريوع. الفائدة المرتفعة ومعها تثبيت سعر الصرف ساهما بشكلٍ كبير في عملية وتوزيع الثروة في لبنان حيث ما هو معروف عالمياً أنه إذا ما دفعت فائدة تفوق معدل سواها زائد عامل الخطورة الخاص (Risk premium) فانه يجب أن ينخفض سعر الصرف ممّا لا يسمح بخلق أرباح مجانية.
2008 فرصة ضائعة
في عام 2008، ضرب الأسواق المالية في العالم زلزال مالي ولكن هذا الامر أسفر عن تدفقات مالية ناهزت الثلاثين مليار دولار الى لبنان أو ما وازى حينها قيمة الناتج المحلي. ففي حين أنّ معدلات الفائدة في العالم كانت سلبية أو ما يعرف بعتبة الصفر للفائدة في لبنان كانت الفوائد مرتفعة، المصرف المركزي استعمل هذه الأموال لرفع الاحتياطي من النقد الأجنبي واستعمل حوالي ثلث هذه الدفقات لتمويل التضخم في عجز الحساب الجاري والذي بمعظمه كان بسبب ارتفاع النفقات الحكومية. التدفقات أدّت إلى ارتفاع معدلات التضخم الذي لامس 10%. في هذا السياق، أدّى ارتفاع النمو الاسمي لتخفيض نسبة الدين العام للناتج القومي، ولكن هذا فقط ما حدث في حين لم تستخدم أي من تلك التدفقات لتحسين المالية العامة أو لخلق استثمارات منتجة قادرة على تعديل ميل الحساب الجاري أو تحفيز نمو مستدام على المدى الطويل. جلّ هذه التدفقات تحولت لاحتياطات من النقد الأجنبي للمصرف المركزي.
هندسة مالية او سلسلة بونزي ؟
الرغبة بالاحتفاظ باحتياط مرتفع وانقاذ المصارف المتعثرة أديّا معا لهندسة مالية غير تقليدية أو بمعنى أدق مثيرة للجدل، بحيث قدّم المركزي مساعدات للمصارف التي كانت على استعداد لرفع الودائع بالدولار لديه، تلك المساعدات أرخت بثقلها على كاهل المالية العامة وتشابهت مع "سلسلة بونزي "، بحيث كان المركزي يدفع فوائد غير مسبوقة لجذب الودائع بالدولار بالرغم من أن هذه الودائع والأموال لم تكن تحقق عوائد كافية لسداد الفائدة ورأس المال بحسب تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي جاء فيه " كل إيداع جديد في مصرف لبنان بالدولار الأمريكي ، سيحصل البنك على فائدة بنسبة 6.5 في المائة بالدولار الأمريكي ، بالإضافة إلى أن لديه فرصة لاقتراض مبلغ أكبر قليلاً بالليرة اللبنانية بنسبة 2 في المائة وإعادة إيداعه في مصرف لبنان بنسبة 10.5 في المائة لمدة 10 سنوات". ومن المفارقات، أنّ محاولة حماية إجمالي الاحتياطيات الأجنبية أدّت بعد ذلك إلى انخفاض كبير في صافي احتياطيات البنك المركزي والتي وفقا لوكالات التصنيف الائتماني أضحت سلبية.
خاتمة
انّ تراجع سعر الصرف والانهيار الاقتصادي والمالي ليست مسالة هبطت من السماء، ولا حالة آنية. انّ النظر في التاريخ المالي للإدارات والوزارات المتعاقبة منذ تسعينيات القرن المنصرم الى اليوم تظهر وبوضوح اننا كنا على هذا الدرب نسير بخطى ثابتة غير آبهين بالنتائج، ونتعامل مع الأمر كالمقامر الذي بلغ مرحلة الإدمان ولم يعد يكترث للنتائج على المدى البعيد اذ أنّ كل مقامو همّه الأساسي، الاستمرار في اللعبة حتى الهلاك. إنّ المعطيات والمؤشرات اليوم تؤكد استحالة العودة إلى الوراء وان السقوط لا زال في بدايته وجلّ ما يمكننا فعله وضع بعض الوسادات لتحفيف صدمة الارتطام المحتم. يحكى اليوم عن وقف الدعم عن السلع الأساسية المستوردة وغيرها من الاجراءات الترقيعية لمعالجة الأزمة. المشكلة أنّ رفع الدعم كما الإجراءات الأخرى لن تعيد بوصلة التاريخ الى ما قبل الازمة.