عائدٌ من الموت.. وشاهدٌ على وطن بائس


منذ خمسة وثلاثين عاماً، وهو ملازم لسريره وكرسيّه الآلي، شاهد على وطنٍ حَلِمَ وناضل وقاتل وأُصيب من أجله. زرع الأمل في نفوسنا وحصد الحبَّ في قلوبنا. إنه محمد حسن الخليل الشهيد الحيّ في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية) جمول). مقاتل مندفع، حالم مرهف، هادئ ومحبوب، شاعر وعاشق، مشاكس وعنيد. من مواليد الشياح في العام 1960. يتحدّرُ من عائلةٍ مكافحةٍ شيوعيةِ الهوى والانتماء، عاش طفولته ومراهقته بين بيروت والجبل، يحبُّ صيد السمك والطيور، ويهوى كرة القدم.

حمل السلاح باكراً مناصراً للثورة الفلسطينية، متأثّراً بأفكارِ أخيه الأكبر أحمد وشقيقته فاطمة التي التحقت في صفوف الحزب ملتزمة بقرار التعبئة العامة، التي تمَّ الدعوة إليها في العام 1981 أي قبيل الاجتياح الإسرائيلي بعام، على الرغم من اعتراض أهلها بسبب صغر سنها وكونها فتاة، الأمر الذي دفع محمد إلى زيارتها بهدف الاطمئنان عليها، لكنه وبدافع فضوله المُحبَّب وسلاسة معشره، تعرَّف على الرفاق، ولا سيما المقاتلين منهم، فتوطّدت علاقته بالحزب ليجد نفسه ملتحقاً في صفوفه، مقاتلاً على خطوط التماس التقليدية، وخصوصاً محور الطيونة.

هنا بدأ محمد يسجّل حضوراً قتالياً محترفاً؛ فشارك في مختلف المعارك العسكرية التي خاضها الحزب، وكُلِّف بمهام في صيدا ومحيطها، حيث انقطعت أخباره على إثرها مدة عشرة أيام، والتجأ مع رفاقٍ آخرين من بينهم الرفيق "باسم" شمس الدين - الذي استشهد في العام 1985 بعملية بطولية ضدّ قوات الاحتلال - إلى منزل، "أبو حسن" شمس الدين في صيدا، ثم استطاع الحزب أن ينقله إلى بيروت بعد أن أمَّن له هويةً جديدةً ليتخطّى الحواجز، ويصل إلى منزل ذويه الذين اطمئنوا عليه.

أمّا المعركة التي عنت له الكثير، فهي مشاركته في التصدَّي للعدوان الصهيوني على بيروت وضاحيتها في أثناء اجتياح لبنان في العام 1982، مكتسباً بذلك خبرةً عسكريةً عاليةً، وهو ما زال في ريعان شبابه. بدأ محمد مرحلةً جديدة في نضاله، فانتسب إلى (جمول) منذ انطلاقتها، وشارك في العديد من المهمات، ونفذ عمليات استطلاع في منطقة النبطية والجوار، وشارك أيضاً في عملية مزدوجة في خلدة قرب غاليري (حوحو) نجم عنها إصابة جنديين صهيونيين كانا داخل سيارتيْ جيب، إلى أن استقر لفترة طويلة على محور كفرفالوس ـ عين المير ـ الصالحية، بعد أن خاض معارك تحرير شرق صيدا، التي استشهد فيها رفيق دربه الملازم لمسيرته الشهيد علي عطايا الملقب بـ(الختيار) وكان لاستشهاده أثراً كبيراً في تجذير مسيرته النضالية.

فجر 5 آب من العام 1985 كان وقعه قاسياً جداً، ففي خلال عملية استطلاع خلف الخطوط الأمامية للعدو وعملائه في منطقة عين المير، باغتت محمد رصاصة قناصٍ مرتزقٍ من موقع العملاء استقرت في رقبته، متسببةً من فورها، بخسارته القدرة على السير، وفقدانه للنطق، وبقي يصارع لساعات إلى أن صودف مرور مجموعة مقاومة من التنظيم الشعبي الناصري في المكان، فسمع بعض مقاتليها صوت صفير محمد بسبب عدم قدرته على الكلام.
في أثناء نقله تعرَّضت المجموعة أيضاً، لقذيفة دبابة من تلة مواجهة، ما أدّى الى إصابة أحد أفرادها، غير أنهم استطاعوا الوصول الى إحدى مستشفيات صيدا، حيث وضع الطاقم الطبي محمد قرب براد الأموات لفقدانهم الأمل بنجاته، إلا أنه وبعنفوان المقاتل القابض على الحياة، أصرّ على الانتقال إلى الجامعة الأميركية، ولاحقاً إلى الاتحاد السوفياتي لمدة خمسة أشهر، للمعالجة، متغلّباً على الشلل الرباعي بعقلٍ وقّاد، وأصابع يديه العشرة التي لم تخذله، وبمساعدة خشبة، يحاكي حاسوبه الآلي.

خسر محمد حبَّهُ الوحيد من فتاة عشقها فأحبته، وحَلِما معاً ببناء عائلة، إلا أن إصابته المذكورة ووضعه الصحي، حالا من دون أن يحقّقا حلمهما، ولكونه يحبّها، قرّر أن يمنحها فرصة تكوين عائلتها الخاصة، حلمهما الذي راودهما ذات عشق.

هكذا انتقل المقاوم الحالم إلى مرحلة جديدة في حياته، ألزمته انعدام الحركة، وبات السرير والتلفاز رفيقيه الدائِمَين، وأصبح مثالاً للصبر والتحمُّل، وأعطى كلَّ من رافقه، الأملَ في خوض امتحان الحياة بكلِّ متاعبها… وجمالها.

لقد رافقتْ محمد في كلِّ تلك الجلجلة شقيقته وشريكة معاناته اليومية فاطمة، وهي بكلِّ فخرٍ أجمل الأمهات، ولها ألفُ حكايةٍ وحكاية مع عذاباته وآلامه ووحدته وعلاجه وزياراته المتكرّرة إلى المستشفيات، والاهتمام به وإطعامه وتحميمه وتغيير فراشه واحتياجاته الخاصة على الرغم من مسؤولياتها العائلية كزوجة وأم لولدين، وساعدها في كلِّ ذلك هيثم، الأخ الأصغر لمحمد، وهو الحنون عليه ومؤنسه في وحدته مع أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة.

كما تشاركهما في هذه الجلجلة زوجة والده بمثابة أمه التي لم تلده، فتقاسمت، مسؤوليته، مع هيثم وفاطمة.
خمسة وثلاثون عاماً لم يتأفّف، لم ييأس، لم يستسلم للإعاقة الجسدية، وواكب بحلمه هذا، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، انتفاضة 17 تشرين رافضاً النظام الطائفي التحاصصي الزبائني، وهو لا يزال يحلم بتحقيق شعار حزبه، وطن حر وشعب سعيد.