القارة الى تحقيق التحرر الوطني والاجتماعي. ولم يكن النضال ضد السيطرة الخارجية امراً عابراً. فقد بدأ في القرن التاسع عشر ضد السيطرة الخارجية الاوروبية، استمر من السيطرة البديلة للامبريالية الاميركية طيلة القرن العشرين والى الآن. فقد جعلت هذه السيطرة الشركات الرأسمالية الكبرى في الولايات المتحدة، طليقة اليدين في النهب الوحشي لثروات تلك الشعوب واستغلال عرقها وافقارها. ومع ان دوائر واشنطن واستخباراتها المركزية استخدمت جميع الوسائل والاشكال لقمع نضالات وانتفاضات هذه الشعوب، من انقلابات عسكرية طبعت العقد السبعين والثمانين، مع ما رافقها من قمع دموي واجرام، وخطف عشرات الآلاف من المناضلين اليساريين والوطنيين، كما في التشيلي والارجنتين واختفائهم، الى الانقلابات " الناعمة" لازاحة رؤساء منتخبين من الشعب، بتجميع اكثرية في البرلمان عن طريق الضغوط والرشاوى، او استخدام مواقع قضائية، كما جرى باستبعاد الرئيسة اليسارية في البرازيل ديلما روسيف في العقد الاخير، او مع رئيس البارغواي فرناندو لوغو، ( كان قبلاً مطراناً كاثوليكياً من "تيار لاهوت التحرير") الذي وصل الى الرئاسة بدعم الفقراء واليسار في البلد. بالطبع هذا دون التخلي عن اسلوب الانقلابات العسكرية، كما جرى في هندوراس عام 2009 ضد الرئيس مانويل زبلايا، وضد رئيس بوليفيا الاشتراكي ايفو موراليس منذ حوالي 4 سنوات.
لكن كل هذه المخططات العدائية لم تستطع اطفاء شعلة المسيرة النضالية التحررية لهذه الشعوب. فها هي تنهض من جديد، فتتصاعد وتتفجر كالبراكين التي لا تحتاج الى من يوقد نارها، وتحرق حممها اصابع السيطرة الامبريالية وشركاتها الرأسمالية الكبيرة التي تستغل ثروات وشعوب تلك القارة. فالنيوليبرالية كشكل جديد للرأسمالية لم تغير من طبيعتها، وبالتالي لا تحمل حلاً لا وطنياً ولا اجتماعياً. وقد ادى استمرار معاناة شعوب تلك القارة وافقارها من جراء النهب الامبريالي واداوته في الانظمة المحلية، الى مواصلة مسيرة نضالها للتحرر الوطني والاجتماعي. وقد شكل انتصار كوبا الثورة وصمودها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ورغم تشديد الحصار الاقتصادي الاميركي الاجرامي ضد شعبها بكامله، منذ 61 سنة، مثالاً ملهماً يبين قدرة الشعوب على الانتصار. كما بقيت نيكاراغوا وفنزويلا على مواقفهما في وجه الضغوط الامبريالية رغم الصعوبات والثغرات المعروفة. وبالرغم من بعض الانتكاسات، فان المرحلة الراهنة والآتية في القارة اللاتينية، تتسم بالنهوض التحرري. فبالاضافة الى الرئيس المكسيكي اوبرادور الذي يعتمد نهجاً استقلالياً وتقدمياً، وكذلك الرئيس الارجنتيني الحالي، فان الحركة الاشتراكية في بوليفيا عادت الى الفوز في رئاسة الدولة. كما حقق شعب البيرو انتصاراً مهماً بفوز الرئيس اليساري بيدرو كاستيو. وفازت بالامس القريب الرئيسة اليسارية سيومار كاسترو في هندوراس، وهي زوجة الرئيس الاسبق مانويل زيلايا الذي جرت ازاحته بانقلاب عسكري. والمعروف ان هذا البلد الصغير هو الاكثر فقراً في المنطقة وانه مركز لقاعدة عسكرية اميركية هي الاكبر في اميركا الوسطى. وقد اظهرت الجولة الاولى للانتخابات في تشيلي، ترجيح فوز اليساري جابرييل بوريك على منافسه اليميني خوسيه انطونيو في الجولة الثانية في 23 كانون اول الجاري. وتشير استطلاعات الرأي في البرازيل الى تراجع ملحوظ في شعبية الرئيس الحالي اليميني بولسونارو، وتقدم مرشح الحزب العمالي لولا داسيلفا، تمهيداً لانتخابات في العام القادم.
ان تصاعد هذا النهوض التحرري، إذ يؤكد فشل النيوليبرالية، فإنه بمواصلته سيصل الى ازالة طابع الحديقة الخلفية لواشنطن عن هذه القارة. بالطبع لن تقف دوائر واشنطن متفرجة على ما يجري. وستلجأ الى مختلف الاساليب التي تؤخر تثبيت انتصارات الشعوب، لكنها تعجز عن اخماد شعلة نضالها التحرري. وحتى كولومبيا التي تستخدم واشنطن سلطتها لاعمال عدائية لشعوب المنطقة بما في ذلك شعبها، وان على ارضها عدة قواعد ومراكز عسكرية للولايات المتحدة، تبرز فيها تحركات شعبية متنامية ضد السلطة القائمة وسياساتها.
ان المد اليساري في بلدان اميركا اللاتينية يجسد توق شعوبها الى الخلاص من السيطرة الامبريالية، ويشير بشكل جلي الى ارتباط مطامحها بقوى اليسار التي تمثل بنضالها وبفكرها واهدافها قضايا هذه الشعوب وتحررها الحقيقي. وينعكس الترابط بين السيطرة الامبريالية ونهب شركاتها الرأسمالية للشعوب وافقارها، ترابطاً بين وجهي النضال التحرري الوطني والاجتماعي. لا شك في ان المسيرة النضالية التحررية لشعوب اميركا اللاتينية تتلاقى مع نضال ومطامح شعبنا اللبناني والعربي، وضد العدو الامبريالي المشترك. وان كل انتصار يحققه شعب وبلد معين، ينعكس تعزيزاً لجميع القوى التحررية والثورية في العالم.