"الممدانية" ضد "الترامبية"

بعد إعادة انتخاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عادت الأصوات التي دعت لإطلاق حملة "معاداة الترامبية" (Anti-Trumpism)، للظهور في الولايات المتحدة من أجل مواجهة صعوده الدراماتيكي من جديد، والحد من انتشار أفكاره وأسلوب حياته وشعبويته وفساده وتحقيره الآخرين. وقد خرجت مظاهرات كثيرة في الفترة الأخيرة ضد ترامب في ولايات أميركية كثيرة، كان لها أثر نفسي عليه، دفعته لاستخدام الذكاء الاصطناعي لتصوير نفسه يقود طائرة حربية ترمي القاذورات على المتظاهرين. ولم يكن ذلك مستغرباً منه، وهو المشهور بفظاظته المترافقة مع شعبويته وعدائه الطبقات الفقيرة وحقوقها، ومحاولاته الدائمة سلبها مكتسباتها، وكرهه النساء وعنصريته تجاه الملونين والمهاجرين. وبسبب مخاطر هذه الممارسات على المجتمع، اشتق البعض مصطلح "الترامبية" مصنفاً إياها نهجاً، وهي التي تكرست بعدما صار أسلوب ترامب جذاباً، يتبناه شعبويون ومنسوبو الأحزاب اليمنية المتطرفة، في الولايات المتحدة وأوروبا.

لكن نضال أبناء الطبقة المسحوقة في الولايات المتحدة طوال سنوات حكم ترامب، في فترته الرئاسية الأولى، وفي الفترة الحالية، ساهم في تمهيد الطريق لتبلور تيار معارض للترامبية، ربما يكون ظهور "الممدانية" (Mamdanism)، مفهوماً وظاهرةً أحد تبدياته. وقد ظهر المصطلح بعد صعود زهران ممداني، المهاجر من أصل آسيوي وأفريقي، مرشحاً اشتراكياً ديمقراطياً لمنصب عمدة نيويورك، وبروزه يسارياً من التيار الاشتراكي في الحزب الديمقراطي، ومناهضاً للطبقات الحاكمة ولترامب نفسه، ومدافعاً عن حقوق الطبقة العاملة الضعيفة والمهمشة، ومنادياً بالعدالة الاجتماعية، وبزيادة الضرائب على الأغنياء وتقليلها عن الفقراء، وسط حيتان الرأسمالية المتوحشة في المدينة وغيرها من المدن الأميركية. وهي شعارات جعلت هؤلاء الحيتان يتحالفون ضده تحت شعار: "أيَّا كان إلا ممداني"، بسبب نهج مقاومة الطبقة الرأسمالية الحاكمة الذي يتبناه وقدرته على التحدي، حين عجز كثيرون، واقتدائه بالنائب اليساري بيرني ساندرز، ما أوجع رأس هذه الطبقة أكثر. 

لذلك ظهر أن ثمة سبيل لمواجهة النهج الترامبي، هذا النهج المقترن بشخصية ترامب بعد رفعه شعار "أميركا أولاً" الذي كان له تأثيرٌ كبيرٌ، أحدث تخبُّطاً في السياسة والاقتصاد الدوليين خلال فترة رئاسته السابقة. وقد سعى لتحقيق هذا الشعار عبر تنفيذه إجراءات حمائية، وعبر الانسحاب من المؤسسات الدولية، خصوصاً من اتفاقية باريس للمناخ، وغيرها من الاتفاقات، وتهديده بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي، انطلاقاً من تفضيله مصالح بلاده الداخلية على الخارج، لما تتطلبه الاتفاقات الدولية والأحلاف من التزامات. فترامب يؤمن بأن تلك الالتزامات تؤثر على أميركا وتجعلها تدفع مليارات الدولارات من أجل الآخرين. أما هو فيفضل توجيه الموارد داخلياً، للانتفاع منها في إيجاد الوظائف للأميركيين، كما ادعى.

أعطى فوز ترامب بالرئاسة، وحزبه الجمهوري بأغلبية مقاعد مجلسي النواب والشيوخ، راحةً للرجل ولأعضاء حزبه، ووفر لهم هامشاً كبيراً لإدارة البلاد وتشكيل مؤسساتها، ومنها المؤسسة القضائية، لأن الفوز بالأغلبية يتيح للحزب الجمهوري تسمية القضاة الاتحاديين. وهذه هدية تاق إليها ترامب خلال المنازلة الانتخابية، وربما لم يكن يتصور أن تأتيه على طبقٍ من ذهب، حُمِلَ فوق راحات من أمَّنوا له ولحزبه تلك الأغلبية. وقد تحققت له ميزة التهرب من القضاء هو ومقربيه، ما يعد كابوساً للمؤسسات في الولايات المتحدة وضرباً لاستقلاليتها. وقضي هذا التحوُّل على آمال بعض الديمقراطيين بمنعه من تولي منصبه، مستندين إلى الدستور الأميركي الذي يمنع أي مسؤول حكومي أقسَمَ سابقاً على احترام الدستور، ثم شارك بتمردٍ ضد مؤسسات الدولة، من تولي منصب فيها، وفي هذا إشارة إلى التمرد الذي نفّذه أنصاره حين اقتحموا الكونغرس، في 6 يناير/ كانون الثاني 2021، واتُّهِمَ ترامب بأن له يد فيه.

تلقّى من كانوا يحاولون تشكيل حركات معادية للترامبية بعض الراحة بعد هزيمة ترامب في الانتخابات السابقة التي أتت بجو بادين، ممنِّين أنفسهم أن تزول الظاهرة مع مغادرته البيت الأبيض. إلا أن التغيرات في المجتمع الأميركي وانعزال أبنائه وعدم انخراطهم في العمل السياسي، جعلت موضوع القيم والأخلاق التي يجب توفرها في المرشح غير ذات أهمية لدى وضع اسمه في الصندوق. كما أن غياب البديل، طرفاً أو حزباً ثالثاً، يكون بديلاً عن الثنائي الحزبي الذي صنفه المفكر الأميركي، نعوم تشومسكي، مرةً، "حزبٌ واحدٌ بجناحين ديمقراطي وجمهوري"، قلل خياراتهم، لكنه لم يدفعهم للمقاطعة التي تُعدُّ نوعاً من الاحتجاج الذي له تأثير على ساسةٍ، في دولٍ تدعي إعلاء قيم الديمقراطية، كما الولايات المتحدة.

يقول مراقبون أميركيون إنه عادة ما يستفيق من صوتوا للمرشحين للرئاسة أو للكونغرس، خصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى الفئات الهشة والأكثر ضعفاً على الصعيد الاقتصادي، بعد انقضاء نشوة الكرنفال الانتخابي، ليسألوا أنفسهم: "ماذا فعلنا؟ ولماذا أتينا بمن لا يمثلنا إلى موقع التشريع والقرار؟". لذلك هنالك من يدخل منهم في حالات من الحزن، ثم في حالات من القنوط، بعدما يلمس الممارسات غير الشعبية لهذا المرشح أو ذاك، فيدرك ما اقترفت يداه.

ربما هنالك من الأميركيين من كان ينتظر حادثاً ما، يتزامن مع استفاقة معظمهم على ما يقترفه ترامب، من أجل الشروع في حملات أو حركات معاداة الترامبية. حادثٌ من قَبِيْلِ فضيحة صادمة، أو ربما سلوكٌ شاذ، من ذلك التي لا يتوانى ترامب عن ممارسته فيثير الغضب العام. لكن هذا الانتظار لم يَطُل، حين أطل زهران ممداني برأسه الذي تشغله أسئلة كثيرة وإجابات أكثر، وكذلك تنضج فيه الخطط لمواجهة الطبقة الرأسمالية الحاكمة، فرشح نفسه لمنصب عمدة المدينة التي تُعد معقل الرأسمالية المتوحشة في بلاده.

وبعدما ظهر مفهوم الممدانية في الإعلام الأميركي، وانتشرت ظاهرة ممداني تلهم الشباب الأميركي والمهمشين، وهو ما تجلى في الحشد الذي وصل إلى مئة ألف من الشبان المتطوعين في حملته الانتخابية، والذين جالوا على سكان المدينة لتعريفهم بنهج ممداني وتشجيعهم على المشاركة في الانتخابات والتصويت له، ولمسوا ثمار جهدهم انتصاراً لافتاً في الانتخابات، بعد هذا قد تنتشر الظاهرة في مدن وربما ولايات أخرى، ويظهر أناس يتَحَدَّون الطبقة الحاكمة، تماماً كما فعل ممداني. يأتي هذا الأمر في الوقت الذي أثبت ممداني أن زيارة الكيان الإسرائيلي ليست شرطاً للفوز في الانتخابات، الشرط هو القرب من الناس وتبني قضاياهم والدفاع عنها، وهو شرط يمكن له ان يجعل كثيرين يجرؤون على التحدي، بعدما ثبت أن شرط التمويل الكبير للحملات الانتخابية قد سقط أيضاً في تجربة ممداني، ما يوسع من الآفاق لدى من يريد تحدي المؤسسة الحاكمة، مستعيناً بجمهور يشبهه من الناس التقدميين أو المستائين من توحش الرأسمالية وقوى الأوليغارشية الحاكمة، والواعين لحقوقهم المهدورة. هؤلاء، وكما توقع محللون، يمكن أن يفاجؤوا الجميع في معركة التجديد النصفي للكونغرس بعد سنة، بفوز يطيح بالترامبية في الكونغرس وفي المؤسسة القضائية، فيكون فاتحةً لتفكيك الترامبية، وتكريساً للممدانية نهجاً للتحدي في القلعة التي أثبتَ زهران أنه يمكن خدش جدرانها بالأظافر، وهي التي دائماً ما بدت مصمتةً وغير قابلة للخدش.